طالت تداعيات أزمة كورونا جميع المجالات بدرجات متفاوتة، لكن الزعزعة التي أحدثتها في قطاع تجارة التجزئة كانت بلا ريب الأوسع نطاقاً والأكثر وضوحاً.
وكان تقرير مؤسسة دبي للمستقبل والمعنون "الحياة بعد كوفيد-19: مستقبل التجارة" قد تطرق إلى هذا الموضوع واستشرف أن جزءاً كبيراً من قطاع التجزئة العالمي سيصبح رقمياً، على الرغم من أن هذا قد لا يعوض عن الخسائر قصيرة الأمد لتجّار التجزئة التقليديين على مستوى العالم.
نستعرض في هذه المقالة أبرز تأثيرات أزمة كورونا على هذا القطاع وطرق استجابته للاستمرار في العمل، ونستشرف أهم التحولات التي سيشهدها هذا القطاع في المستقبل.
أبرز تأثيرات أزمة كورونا على قطاع تجارة التجزئة
اضطر تجار التجزئة إلى إغلاق الكثير من متاجرهم في بلدان عديدة حول العالم نتيجة الإجراءات المفروضة للحد من انتشار الوباء، وحتى المتاجر التي بقيت مفتوحة شهدت انخفاضاً حاداً في حركة الزبائن.
وقد تجلت تداعيات أزمة كورونا على قطاع تجارة التجزئة في عدة مستويات:
- اختلال سلاسل التوريد العالمية:
أدت إجراءات الحجر الصحي والضوابط التي فرضت على الحدود إلى فوضى عارمة في سلاسل التوريد؛ فقد توقفت في بلدان عديدة سلسلة الإمداد البحري العالمية، التي تدعم جزءاً كبيراً من واردات التجارة والسلع، بسبب المخاوف من تفشي كورونا. أضف إلى ذلك انخفاض حركة النقل الجوي إلى النصف منذ اندلاع الوباء، بعد أن كانت تتكفل بنقل جزء كبير من البضائع بين الدول.
ووفقاً لتقرير نشر على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن كل ذلك قد ألحق ضرراً كبيراً بقدرة مزودي خدمات النقل اللوجستي على توصيل البضائع ضمن الحدود الزمنية الاعتيادية وخصوصاً عبر الحدود. مما اضطر بعض المنتجين إلى إيقاف مصانعهم بشكل مؤقت؛ فعلى سبيل المثال أعلنت شركة فيات كرايسلر للسيارات عن تعليق الإنتاج في أحد معاملها بصربيا بسبب صعوبة الحصول على القطع اللازمة من الصين. كما واجهت شركة آبل صعوبات مماثلة مما أخَّر إطلاقها لجهاز آيفون 12. ولسوء الحظ، فإن البلد الذي شهد أول انتشار للعدوى يلعب دوراً محورياً في سلاسل التوريد العالمية كما يتضح من الشكل أدناه. وفي بنغلاديش -حيث تشكل الملابس الجاهزة نسبة 84% من صادرات البلاد- واجهت مصانع الألبسة خسائر كبيرة نتيجة الخلل في سلاسل التوريد وتأخر المستوردين في دفع المستحقات.
- تراجع الدخل التشغيلي:
تراجع إنفاق المستهلكين بسبب المخاوف من عدم استقرار الأسواق المالية، واحتلت المتاجر الكبرى المرتبة الثالثة على لائحة أكثر الأماكن التي يتجنبها الناس مباشرة بعد السينما والمطاعم. الأمر الذي وضع القائمين على تجارة التجزئة في موقف صعب مالياً. وتتنبأ وكالة مودي أن الدخل التشغيلي لتجارة التجزئة في الولايات المتحدة سينخفض بين 2-5% في عام 2020؛ فحتى مع إغلاق المتاجر ينبغي على التجار دفع إيجارات متاجرهم، كما سيستمر معظمهم في دفع أجور موظفيهم، مما يفاقم من الضغط الناجم عن انخفاض المبيعات. كما أن جميع شركات تجارة التجزئة سواء تابعت عملها على الإنترنت أو في المتاجر كانت مضطرة لتطبيق إجراءات مكلفة للحفاظ على سلامة موظفيها وزبائنها.
وقد توقفت بعض كبرى شركات الألبسة والإكسسوارات مثل أتش آند إم H&M عن دفع إيجارات متاجرها. وهذا ما ينذر باتساع نطاق الأزمة المالية لتشمل لاحقاً قطاع العقارات والبنوك.
- تغير سلوك المستهلكين:
وفقاً لتقرير من ماكينزي، يتوقع المستهلكون على مستوى العالم تدنّي مستوى دخلهم في المستقبل القريب؛ لذا وفي ظل اهتزاز الأسواق وارتفاع معدلات البطالة، يتجنب المستهلكون في الوقت الحالي إنفاق أموالهم على السلع غير الضرورية، مع زيادة مستوى إنفاقهم على البقالة والمؤونة ووسائل الترفيه المنزلية. فعلى سبيل المثال، ارتفعت مبيعات متاجر وال مارت في الولايات المتحدة بنسبة 20% خلال شهر مارس عندما بدأ الناس في تخزين المؤن وتكديسها، لكن في المقابل، عانت تجارة التجزئة في مجالات أخرى -مثل الألبسة والمجوهرات والأحذية- من انخفاض مبيعاتها، واضطرت إلى تخفيض الإنتاج والتعامل مع مشاكل فائض البضائع في المستودعات وإعادة التفكير في كيفية التأقلم مع الوضع الجديد.
- ازدياد الطلب عبر الإنترنت:
إن إجراءات الحجر الصحي وتخوّف الناس من الذهاب إلى المتاجر المفتوحة (مثل متاجر البقالة) والاختلاط بالآخرين قد أدت إلى حدوث طفرة غير مسبوقة في الشراء عبر الإنترنت والاعتماد على خدمات التوصيل؛ فقام الكثير من الأشخاص لأول مرة بشراء البقالة عبر الإنترنت، ومن المرجح أن يستمروا في ذلك طوال مدة الوباء، وربما حتى بعده.
ففي إيطاليا وحدها، ونتيجة لسياسة البقاء في المنزل لمواجهة فيروس كورونا، ازدادت مبيعات تجارة التجزئة من خلال الإنترنت بنسبة 90% من شهر فبراير إلى مارس. بينما ارتفعت حصة مبيعات التجارة الإلكترونية بنسبة 400% في المتوسط من إجمالي مبيعات التجزئة في السعودية. وفي الولايات المتحدة الأميركية، لاقى تسوق البقالة عبر الإنترنت رواجاً لم يسبق له مثيل؛ ففي الصيف الماضي وجدت جالوب أن 11% فقط من المستهلكين يشترون بقالتهم عبر الإنترنت، بينما ارتفعت هذه النسبة في أبريل الماضي إلى 51%.
ورغم تمكن بعض الشركات من متابعة تجارتها عبر الإنترنت، إلا أنها واجهت صعوبات كبيرة في التزود بالسلع وتوفيرها للمستهلكين عند طلبها؛ حيث إن سلاسل التوريد لم تكن مستعدة للتعامل مع هذا الضغط الكبير والمفاجئ.
استجابة شركات تجارة التجزئة لزلزال كورونا
إن أزمة كورونا وتداعياتها غير المسبوقة أجبرت تجار التجزئة -من دون سابق إنذار- على إعادة التفكير في العمليات المتبعة سابقاً وإدخال تغييرات جذرية في طريقة عملها واتباع إستراتيجيات أكثر رشاقة من أجل الصمود والنجاة. وكما كانت عليه الحال في القطاعات الأخرى، مثلّت الحلول الرقمية الوسيلة الأنسب للتعامل مع تداعيات أزمة كورونا بالنسبة لتجارة التجزئة، حيث لجأت الشركات إلى أشكال مختلفة من التكيّف:
- إعادة تصميم المتاجر لضمان الالتزام بالابتعاد الاجتماعي وإجراءات السلامة:
أصبح توفير بيئة آمنة صحياً إحدى أولويات أماكن بيع السلع حرصاً على سلامة العاملين والزبائن؛ حيث لجأت العديد من المتاجر إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات أهمها: استخدام منافذ البيع المؤتمتة من دون احتكاك، والتي لا تتطلب التعامل مع مندوبي المبيعات. بالإضافة إلى تخفيض عدد الزبائن داخل المتجر وتصميم رفوف وحيدة الاتجاه لتخفيف الاحتكاك. كما يتم قياس درجة حرارة مندوبي المبيعات قبل دخولهم إلى المتجر. وقلصت من ساعات العمل لتوفير المزيد من الوقت لتنفيذ إجراءات التعقيم والتنظيف.
- تنويع قنوات المبيعات باستخدام الرقمنة والتجارة الإلكترونية:
وجد تقرير مؤسسة دبي للمستقبل أن البنية التحتية الرقمية تمثل مفتاح استمرارية الأعمال التجارية، وعلى الرغم من أن التجارة الإلكترونية لن تعوض عن الخسائر قصيرة الأمد لتجّار التجزئة التقليديين، إلا أنها شكلت وسيلتهم الأفضل لمتابعة تجارتهم في الظروف الراهنة.
فاتجهت العديد من الشركات إلى تحويل متاجرها إلى مستودعات لتلبية الطلبات عبر الإنترنت. وعلى سبيل المثال، قامت أمازون بفتح أحد متاجر البقالة حصرياً بمنزلة متجر إلكتروني لتخزين وتلبية طلبات التوصيل عبر الإنترنت. كما توسعت شركة لولو ليمن أثلاتيكا الكندية، وفتحت بضعة متاجر في أميركا ليس لتلبية حاجات الزبائن داخل المتاجر، وإنما لاستخدام مخزونها في تلبية الطلبات عبر الإنترنت بشكل أسرع، بينما تمكنت شركة نايكي من الحفاظ على أعمالها في الصين عن طريق استخدام تطبيق اللياقة البدنية الذي ساعد الأشخاص على متابعة تمارينهم الرياضية خلال الحجر الصحي.
- توظيف المزيد من العمال:
على الرغم من اضطرار العديد من شركات التجزئة المتضررة إلى إغلاق متاجرها، إلا أن زيادة الطلب عبر الإنترنت على بعض البضائع -وخصوصاً البقالة- دفعت بعض الشركات إلى توظيف أعداد كبيرة من موصلي الطرود وعمال المستودعات. ففي مارس الماضي قامت أمازون بتوظيف 100,000 عامل جديد. كما أعلن موقع إنستاكارت لخدمات البقالة عن حاجته لتوظيف 300,000 عامل للتعامل مع تنامي الطلب. وأعلنت وال مارت عن رغبتها بتعيين 150,000 موظف إضافي في أبريل.
- تبني إستراتيجيات تقليل الخسارة:
أدى تغير أنماط الاستهلاك إلى تراجع كبير في مبيعات السلع غير الأساسية، مما أجبر العديد من الشركات المتضررة -مثل شركات الألبسة والسلع الكمالية- على تبني آليات جديدة للتعامل مع الوضع الراهن لتقليل خسائرها من قبيل: تقديم خصومات ذكية وعميقة، وإلغاء الطلبات الموسمية، وتخفيض تكاليف التشغيل، والتركيز على القطع الرئيسية، وتخزين القطع دائمة الرواج لإعادة طرحها في وقت لاحق، بالإضافة إلى تحويل متاجرها إلى مخازن مؤقتة لتلبية طلبات البيع الالكتروني، بل وحتى إحراق السلع إن تطلب الأمر ذلك.
دور التكنولوجيا في مستقبل تجارة التجزئة
مرة أخرى تبرز أهمية ومحورية الدمج الكامل للتكنولوجيا في حسن سير الأعمال؛ فقد كشفت أزمة كورونا عن حاجة تجّار التجزئة إلى مجموعة عمليات جديدة تماماً مع استخدام أكبر للتكنولوجيا. وفي مستقبل يتردد فيه الزبائن في البقاء لفترة طويلة في المتاجر -إذا دخلوها أساساً- فإن سلاسل المتاجر المتمكنة من استخدام التكنولوجيا ستكون الوحيدة القادرة على النجاة والاستمرار.
وإليكم بعض الاستخدامات الواعدة للتكنولوجيا في مجال تجارة التجزئة:
- تقنية البلوك تشين لإضفاء الشفافية على سلاسل التوريد:
كشف وباء كورونا عن مدى ضعف سلاسل التوريد العالمية وتأثرها بالاضطرابات، وواجه المشترون صعوبات كبيرة في تتبع ما يحدث مع مورديهم ومعرفة ما إذا كانوا في حاجة إلى إيجاد موردين بديلين أم لا. وهذا ما سلط الضوء على تقنية البلوك تشين باعتبارها وسيلة لجعل سلاسل التوريد أكثر كفاءة ومرونة، من خلال مساعدة الشركات على مشاركة المعلومات الحساسة بطريقة رقمية؛ فالعقود الذكية لتقنية البلوك تشين قد تسمح للشركات بالتحكم الدقيق في مَن لديه الإذن بالاطلاع على بياناتها وتحت أي شروط.
- الذكاء الاصطناعي لإدارة أمثل وتنبؤ أفضل:
يوفر الذكاء الاصطناعي الإجابات على أهم تساؤلات تجّار التجزئة والمتعلقة بتوجهات المستهلكين وطلباتهم المستقبلية؛ فاستناداً إلى البيانات الضخمة حول حالة الأسواق والعوامل الاقتصادية والسلوك الحالي للمستهلكين، يمكن لخوارزميات التعلم الآلي أنّ تشكل أداة قيّمة في التنبؤ الدقيق بتغير أنماط الاستهلاك، وبالتالي المساعدة في عملية إعداد سلاسل التوريد المناسبة، أو إدارة توزيع السلع بين المستودعات بالطريقة المثلى. وهذا بدوره سيمكّن تجّار التجزئة من اتخاذ قرارات مبنية على البيانات، بما يساهم في تحسين العمليات وتخفيض التكاليف، بالإضافة إلى تلبية طلبات المستهلكين بسرعة أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، يقدم التعلم الآلي عند جمعه مع التحاليل الجغرافية المكانية معلومات هامة لتجار التجزئة تساعدهم على اتخاذ قرارات أفضل حول توسيع شبكات المتاجر أو تضييقها، وتطوير خطة العمل على مستوى المتجر لتحسين الأداء.
كما تشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي العديد من الاستخدامات الأخرى، مثل بوتات المحادثة مع الزبون، وإدارة حملات التسويق، وترتيب وتنظيم الرفوف بشكل يلائم تجربة المستهلك، والتعرف على تفضيلات المستهلكين.
- تقنية الواقع المعزز لتحسين تجربة المستهلكين:
اتضحت الحاجة الكبيرة لهذا النوع من التقنيات وثبتت فعاليتها في ظل إجراءات العزل الراهنة؛ حيث يمكن لتقنية الواقع المعزز أن تمنح المستهلكين -وهم في منازلهم- تجربة فريدة في الاطلاع على السلع وتجريبها قبل شرائها. ولعل أبرز الأمثلة على استخدام هذه التقنية حالياً هو كاتالوج إيكيا الذي يتيح للمستهلكين رؤية كيف سيبدو الأثاث الجديد في منازلهم بشكل افتراضي من خلال تحريك هواتفهم الذكية في أرجاء الغرفة بكل بساطة.
- الروبوتات داخل المتاجر وخارجها:
من المرجح أن تساعد الروبوتات المزودة بالذكاء الاصطناعي تجار التجزئة في تخفيض التكاليف وتحسين العمليات داخل المتاجر والمستودعات، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها في توصيل الطرود.
أضف إلى ذلك أنها ملائمة جداً للعمل في ظل سياسة الابتعاد الاجتماعي خلال هذه الأزمة؛ حيث يتم بالفعل استخدام الروبوتات إلى جانب أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء في تتبع وضمان توافر السلع على رفوف المتاجر وفي تنظيف الأرضيات في بعض متاجر وال مارت في الولايات المتحدة. كما بدأت شركة فورد بتجاربها على استخدام السيارات ذاتية القيادة مع الروبوتات لتوصيل الطرود إلى منازل الزبائن، فيما تعقد أمازون آمالاً كبيرة على توصيل طرودها باستخدام الطائرات المسيرة وروبوت سكوت.
وفي الختام، وكما توقّع تقرير مؤسسة دبي للمستقبل، ستزداد أهمية البنى التحتية الرقمية في تجارة التجزئة أثناء أزمة كورونا وبعدها. وستكون الشركات التي تستخدم التكنولوجيا الحديثة في عملياتها -بدءاً من سلاسل التوريد إلى داخل المتاجر ووصولاً إلى عمليات التوصيل للمستهلك- هي الشركات الرابحة والقادرة على التعافي بوتيرة أسرع.