تخيل لو اضطر جميع سكان حيك أن يستقلوا حافلة واحدة في نفس الوقت للذهاب إلى مركز المدينة، ستكون رحلة مزدحمة بلا شك، وبالتأكيد لن يتمكن الجميع من القيام برحلتهم.
لحسن الحظ، أثبتت شبكات الاتصالات قدرتها -حتى الآن- على الصمود في وجه عاصفة كورونا ومرونتها في استيعاب ومعالجة الطلب غير المسبوق على خدماتها. وبرزت أهمية قطاع الاتصالات باعتباره شرياناً حيوياً لاستمرار جميع مناحي الحياة في العمل والتعليم والترفيه وغيرها. في المقابل -وكما جاء في تقرير مؤسسة دبي للمستقبل: مستقبل الاتصالات بعد كوفيد-19- فإن أزمة كورونا سلطت الضوء على مدى جاهزية شبكات الاتصالات ومكامن الفرص في هذا القطاع، والتي يجب العمل على دراستها وتطويرها بما يلبي المتطلبات المستقبلية.
فما سر نجاح الاتصالات وشبكة الإنترنت عموماً في تحمل الضغط المفاجئ على خدماتها؟ وكيف ستُسهم هذه الأزمة في تشكيل مستقبل قطاع الاتصالات؟ وما الخطوات اللازمة لتعزيز قدرتها وتوسيع إمكاناتها في المستقبل؟
الناس في الحجر المنزلي؟ إذن هم على الإنترنت
مثّلَت وسائل الاتصال الحديثة الملاذَ الوحيد لمليارات الأشخاص لمواصلة أنشطتهم من منازلهم في ظل الالتزام بسياسة الحجر الصحي لمواجهة فيروس كورونا؛ حيث أتاحت هذه الوسائل استمرارية العمل عن بعد وعقد الاجتماعات المرئية واستخدام المنصات الرقمية بين موظفي الشركات الحكومية والخاصة، كما ضمنت متابعة العملية التعليمية من خلال توفير إمكانية الدراسة عن بعد لأكثر من 1.5 مليار طالب حول العالم. بالإضافة إلى كل ذلك، سمحت بالتواصل مع العائلة والأصدقاء مع الالتزام بالابتعاد الاجتماعي، ووفرت وسائل الترفيه والتسلية بما يخفف من وطأة الظروف الراهنة.
أدى كل ما سبق إلى ارتفاع هائل في حركة البيانات عبر شبكات الاتصالات، وضغط كبير على مختلف الخدمات عبر الإنترنت؛ فوفقاً لشركة أكامي تكنولوجيز، وهي إحدى أكبر شركات توصيل المحتوى على الإنترنت، ارتفعت نسبة حركة البيانات على الإنترنت بمقدار 30% خلال شهر مارس الماضي. بينما قالت شركة كلاودفلير إن حركة البيانات على الإنترنت قد ازدادت بنحو الربع بين يناير وأواخر مارس في العديد من المدن الكبرى.
ومن أهم مظاهر الارتفاع في حركة البيانات:
- الشبكات الخاصة الافتراضية:
أصبحت الشبكات الافتراضية الخاصة للشركات في المنطقة والعالم أمام اختبار مفاجئ لمستوى كفاءتها في استيعاب حاجة الأعداد المتزايدة من الموظفين العاملين عن بعد؛ فقد وجد تحليل حديث -قامت به شركة نورد في بي إن NordVPN بالاستناد إلى نشاط مخدماتها- أن متوسط استخدام منصتها قد ارتفع من ساعتين إلى ثلاث ساعات إضافية منذ منتصف مارس في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا وكندا والمملكة المتحدة. - خدمات النطاق العريض:
لم يعد استخدام اتصالات النطاق العريض يقتصر على الوصول إلى الشبكات الخاصة أو الإنترنت من أجل النشاطات التجارية فحسب، بل يشمل أيضاً إقبال الناس على الخدمات الترفيهية والاتصالات المرئية والدروس التعليمية من منازلهم. - الاتصالات الصوتية والمرئية:
دفعت سياسة الحجر الصحي إلى استخدام مكالمات الفيديو عوضاً عن اللقاءات الشخصية واجتماعات العمل المكتبية، وتحولت الزيارات العائلية إلى اجتماعات مرئية على زوم أو جوجل ميت أو مايكروسوفت تيمز. فقد تجاوز عدد مستخدمي زوم في أول شهرين من عام 2020 إجمالي مستخدميه طوال عام 2019، بينما قالت جوجل الأسبوع الماضي إن هناك 2 مليون مستخدم جديد يومياً لمنصة مِيت، مما يشكل أكبر ارتفاع بنسبة 25 ضعفاً في عدد المستخدمين مقارنة بأي خدمة أخرى من جوجل منذ شهر يناير الماضي. - خدمات الترفيه والألعاب والتسوق الإلكتروني:
انتقل النادي الرياضي وصالة الألعاب والحفلات الموسيقية إلى شبكة الإنترنت، حتى زيارة المتاحف والمعالم السياحية استمرت ولكن في العالم الافتراضي؛ فقد أصبح الاتصال بالشبكة هو الوسيلة الوحيدة للترفيه، مما حمّل أعباءً إضافية على البنية التحتية للاتصالات. وعلى سبيل المثال، أدى إطلاق النسخة الجديدة من لعبة "كول أوف ديوتي" إلى إشغال معظم نطاق الكابلات البحرية عبر الأطلسي لمدة ثلاث ساعات، وفق ما صرح به جان لوك فيمان مدير الشبكات والخدمات الدولية في شركة أورانج على تويتر. كما ارتفع عدد اللاعبين على منصة ستيم خلال شهر مارس بنسبة 25% مقارنة بشهر فبراير. وشهدت منصات التجارة الإلكترونية مثل أمازون خلال الأسابيع الماضية إقبالاً كبيراً، وارتفع الطلب العالمي على خدمات البث الرقمي عبر الإنترنت مثل يوتيوب ونتفلكس، مما تسبب في ضغط كبير على البنية التحتية لخدمات النطاق العريض.
لكن كيف تمكنت شبكات الاتصالات من الصمود في وجه كل هذا الارتفاع؟
رأينا مؤخراً تهافت الأنظمة الصحية في مختلف الدول لتوسيع الطاقة الاستيعابية لمستشفياتها، وسَعْي العديد من الشركات لتوظيف الآلاف من عاملي التوصيل لتلبية الزيادة غير المسبوقة في الطلب على خدماتها. إلا أن الإنترنت وشبكات الاتصالات استمرت في عملها بنفس البنية التحتية التي كانت قائمة قبل أزمة كورونا ومن دون تغيير يذكر في السرعة بشكل عام، وذلك وفقاً للعديد من منظمات مراقبة سرعة الاتصال بالإنترنت مثل رايب (RIPE) وثاوزاند آيز (ThousandEyes) وسبيد تست (Speedtest). فكيف تمكنت من الصمود؟
عندما صمّمت وزارة الدفاع الأميركية نواة الإنترنت في ستينيات القرن الماضي (أربانت)، كانت الغاية منها توفير وسيلة اتصال موزعة أثناء الأزمات، قادرة على الاستجابة لارتفاع كبير في حركة البيانات، ومرنة بما يكفي للاستمرار في العمل حتى عند تعطل أجزاء منها، ثم تطورت الشبكة واتصلت بشبكات أخرى، حتى أصبحت ما هي عليه اليوم.
وفي الأزمة الحالية، تخدم شبكة الإنترنت الغرض الأساسي من تصميمها، وتنجح في ذلك لأسباب ذاتية وموضوعية عدة، إليكم بعضها:
- الاختلاف في أوقات استخدام الإنترنت:
نحن نتكلم عن شبكة اتصالات عالمية، بالتالي ما يمثل وقت الذروة في منطقة من العالم، هو وقت انخفاض في حركة البيانات في منطقة أخرى. فقد تتعرض البنية التحتية للشبكة لضغوط كبيرة في فترة الصباح أثناء ممارسة الناس لعملهم عن بعد أو تلقي الطلاب لدروسهم عبر الإنترنت. لكن الدورة الزمنية لهذا الاستخدام تختلف بين المناطق الزمنية المختلفة. - الاختلاف في أماكن استخدام الإنترنت:
ففي حين ارتفع الاستخدام المنزلي لشبكات الاتصالات، انخفض في المقابل معدل الدخول إلى الشبكة من الجامعات ومكاتب الشركات. وبينما تزايد معدل حركة البيانات من وإلى الضواحي السكنية، فقد تدنّى هذا المعدل في مراكز المدن.
- استجابة شبكات توصيل المحتوى:
يتمحور عمل هذه الشبكات حول تخزين نسخ من المحتوى الأكثر شعبية في مخدمات موزعة في جميع أنحاء العالم. وتقوم باستخدام خوارزميات لأمثلة هذا التوزيع من خلال تقييم احتمال تزايد الطلب على محتوى معين وتوفير نسخ منه في مخدماتها. وبذلك لن يتوجب على البيانات أن تعبر البنية التحتية الأساسية حتى تصل إلى المستخدم عندما تكون متوافرة على مخدم في نفس المنطقة. وبالتالي، تتمكن هذه الشبكات من تحسين تجربة المستخدم وتسريع إيصال البيانات من خلال موازنة تدفقها بين أجزاء الشبكة. - جهود شركات الاتصالات ومزودي الخدمة:
فقد عملت هذه الشركات على تعزيز الشبكات القديمة وإضافة وصلات جديدة وربط ملايين المخدمات فائقة السرعة، مما أدى إلى زيادة السعة والسرعة والأداء بشكل كبير. كما اتخذت العديد من الشركات إجراءات إضافية في ظل أزمة كوفيد-19 لتجنب إضافة المزيد من الضغوط إلى الشبكة؛ حيث وافقت شركات نتفليكس ويوتيوب وفيسبوك وديزني بلس على خفض جودة دقة الفيديوهات التي يتم بثها في أوروبا، وهي خطوة ذات فائدة كبيرة إذا ما علمنا أن الفيديوهات تمثل أكثر من نصف حركة البيانات على الإنترنت. وبالمثل، قامت شركات سوني ومايكروسوفت وفالف -التي تشغِّل منصة ستيم- بخفض معدل إجراء تحديثات ألعاب الفيديو أو قَصر تنفيذها على أوقات خارج ساعات الذروة.
ومع ذلك، ورغم تأكيد جميع الخبراء أن الإنترنت تبلي بلاء حسناً أثناء هذه الأزمة، فإننا نشعر أحياناً أن سرعة شبكة الواي فاي في المنزل أشبه بسرعة السلحفاة، فما السبب؟
عنق الزجاجة: اتصالات الميل الأخير
هناك علامات إجهاد وضغط على الإنترنت يمكن تفهمها؛ حيث يتأخر تحميل مواقع الويب ويتكرر انقطاع الاتصالات المرئية. ولكن البنية التحتية الأساسية لشبكة الإنترنت ليست المسؤولة عن هذه المنغِّصات.
حيث تنقسم شبكة الإنترنت إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأول هو العمود الفقري الذي يصل بين القارات باستخدام الكوابل البحرية، أما المستوى الثاني فتمثله شركات الاتصالات الكبرى المزودة للخدمة، والمستوى الثالث أو الميل الأخير هو شبكة الاتصال المحلية التي تمتد من المقاسم أو مراكز البيانات إلى منزلك.
وتعتبر اتصالات الميل الأخير عادةً هي الحلقة الأضعف في الشبكة؛ إذ يمر الكثير من هذه الاتصالات عبر كابلات قديمة عفا عليها الزمن. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يكون عرض حزمة الإنترنت المنزلية أضيق من تلك الموجودة في الشركة أو المدرسة، مما يجعل الأنشطة المألوفة تبدو أكثر بطئاً. وينجم عن ذلك حدوث اختناق عند أطراف الإنترنت عندما يريد كل فرد في الحي استخدام الإنترنت في نفس الوقت. فتنخفض جودة الفيديو لديك أو يفقد شخص آخر الاتصال تماماً إذا كانت شبكته المحلية غير قادرة على التعامل مع الارتفاع الكبير في حركة البيانات.
هناك مسألة أخرى تتمثل في حدوث أعطال في التجهيزات أو انقطاعات في الكابلات؛ ففي ظل الوباء الحالي وتعرض سلاسل التوريد لانقطاعات غير متوقعة، قد يحدث تأخير في إنجاز مهام الإصلاح واستبدال المعدات المعطلة مما قد يؤثر على جودة الاتصال بالشبكة.
مستقبل الاتصالات بعد كوفيد-19: فرصة وضرورة لاستيعاب التحديات ومواجهتها
كشف فيروس كورونا الستار عن الأهمية البالغة لقطاع الاتصالات في مواجهة الأزمات وتخفيف عواقبها الاقتصادية، ومنح شركات الاتصالات خبرة أكبر في الإدارة الديناميكية لحركة البيانات، كما قدّم للشركات والمؤسسات فهماً أفضل لتحديات العمل عن بعد. وكما جاء في تقرير مؤسسة دبي للمستقبل، ينبغي أن يشكل هذا الأمر دافعاً لتحويل الأزمة إلى فرصة نعمل من خلالها على تقييم أداء هذا القطاع وتطويره من خلال التركيز على المحاور التالية:
- حل مشكلة عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنت:
وفقاً للاتحاد الدولي للاتصالات فإن ما يقارب نصف سكان العالم لا يمتلكون أي وصول إلى الإنترنت، وبالتالي فهم محرومون من المعلومات الصحية الصحيحة ومن المشاركة في الاقتصاد الرقمي؛ لذا فإن الأزمة الحالية تبين أن توفير الاتصال للجميع سيكون حاجة ملحة في المستقبل كما يرى فينتون سيرف، أحد "الآباء المؤسسين" للإنترنت. ويمكن للحلول المبتكرة -من قبيل مشروع لون من جوجل ومشروع ستارلينك للاتصال الفضائي من سبيس إكس- أن تلعب دوراً كبيراً في تحقيق هذه الغاية. - تسريع نشر شبكات الجيل الخامس 5G:
توفر شبكات الجيل الخامس سرعة تحميل أعلى 100 مرة من شبكات الجيل الرابع، مما يؤهلها لتمكين طيف واسع من التقنيات مثل السيارات ذاتية القيادة وروبوتات العمليات الجراحية والمدن الذكية، بالإضافة إلى تجاوز مشاكل البطء في الإنترنت للعاملين من منازلهم. وعلى الرغم من التأخير المتوقع في نشر هذه الشبكات على المدى القريب بسبب اضطراب سلاسل التوريد في الوقت الحالي، فإن أزمة كورونا قد أبرزت ضرورة تسريع الاستثمار في هذه الشبكات على المدى البعيد ونشرها على نطاق واسع للمضي في عملية التحويل الرقمي والسماح بتوفير الخدمات المطلوبة عن بُعد. - زيادة الاستثمار في البنية التحتية الرقمية للمدن الذكية:
في السابق، كان يُنظر إلى الاستثمار في هذا المجال على أنه غير مجدٍ، لكن اتضح اليوم أن المدن التي استثمرت فيه كانت الأقل تضرراً من توقف الكثير من القطاعات، وأبرزها العمل الحكومي. فقد استطاعت المدن الذكية في الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، أن تقدم منظومة فعّالة وسريعة لاستمرار العمل عن بعد ونجحت في تحويل التعليم إلى عملية تتم عن بعد بشكل كامل؛ نظراً لتوافر أنظمة الاتصال الحديثة وتميز الإمارات في مؤشري نسبة تغطية الهاتف المحمول والاشتراكات في إنترنت النطاق العريض حسب مؤشر المعرفة العالمي 2019. - التعاون بين مزودي الخدمة ومزودي التطبيقات:
تمثل الأزمة الحالية فرصة وضرورة لتوحيد جهود شركات الاتصالات من أجل تقديم تجربة أفضل للمستخدم في منزله. وهو ما وصفه أحد رواد تقنية دي إس إل DSL، جون سيوفي، بمستقبل يركز على الشبكة المنزلية؛ حيث إن التعاون بين مختلف مزودي خدمات الاتصال من شأنه أن يُسهم في تطوير منظومة شاملة لتحسين الخدمات المقدمة للمستخدمين. - ترسيخ مفهوم المسؤولية الرقمية:
اتضح خلال أزمة كورونا أنه يجب إعطاء الأولوية في الاتصالات والوصول إلى الإنترنت للمستشفيات ومراكز الأبحاث وقوى الشرطة وللعمل والتعليم عن بعد، مما دفع السلطات في بعض الدول مثل اليونان وفرنسا إلى الطلب من مواطنيها التحلي بشعور المسؤولية الرقمية لتخفيف الازدحام على شبكات الاتصال الحيوية. فمن الممكن على سبيل المثال مشاهدة الفيديوهات عبر شبكة الوايفاي عوضاً عن الشبكة الخليوية، والاستماع إلى الراديو عبر أمواج الإف إم عوضاً عن الإنترنت، وتجنب متابعة القنوات التلفزيونية على الإنترنت، بالإضافة إلى إجراء المكالمات الصوتية باستخدام الهاتف الثابت واستخدام المكالمات المرئية في حال الضرورة فقط.
وأخيراً، أشار تقرير مؤسسة دبي للمستقبل إلى أن معظم الدول العربية، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، تعمل على تكييف وتطوير الأنظمة والتشريعات الحالية، بما في ذلك إدخال أطر ناظمة جديدة لخدمات الحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء. وأكد التقرير أن ترقية الشبكات وتوظيف تكنولوجيا الجيل الخامس، يحمل أهمية كبيرة لاستيعاب الاستخدام المتزايد لشبكات الإنترنت في المستقبل.