لماذا قاومت تايوان وباء كورونا فيروس (كوفيد-19) بنجاح أكثر وبخسائر أقل؟ ولماذا تغلبت كوريا الجنوبية أخيرا على الوباء رغم ارتفاع عدد الإصابات؟ وكيف تمكنت الصين من احتواء الوباء في ووهان والتحكم في الإصابات والوفيات رغم أن الأمر بدا في الأول وكأنه كان سائراً في طريق الانفلات؟ يكمن السر في كون الدول الثلاث اعتمدت على "البيانات الضخمة"؛ حيث أدى تحليلها إلى التعرف على المصابين وتحركاتهم قبل تحديد إصابتهم، والتدخل عبر "الذكاء الاصطناعي" من أجل تتبع الذين خالطوا المصابين وتحديد حالتهم الصحية، ومن ثم إخضاعهم إلى العلاج. اختلفت المقاربات من دولة لأخرى ولكنها مجتمِعة تعطينا حالات حقيقية وتجارب حسنة مختلِفة في التعامل مع هذا الوباء ومع الأوبئة المحتملة في المستقبل، وتعطينا كذلك مداخل لمقاربة إمكانية استعمال البيانات الضخمة في المنطقة العربية لمواجهة الأوبئة.
تايوان: المقاربة المندمجة
تقع جزيرة تايوان على بعد 130 كم فقط من الصين، وتوجد حركة تنقل يومية كثيفة لمواطنيها مع الصين القارية، وقد كانت مرشحة لتكون أكبر متضرر من وباء كورونا حسب نمذجة وضعها علماء برمجة الحواسيب اعتماداً على بيانات وبائية.
لكن التدخل القوي للحكومة والاعتماد على البيانات والتحليل العلمي لها واتخاذ القرارات بسرعة، جعلها لا تسجل إلا 50 حالة إصابة مع منتصف مارس، فكيف ذلك؟ بحسب تقرير منشور في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (جاما) وضعه متخصصون من كاليفورنيا وتايبي، فإن تايوان اعتمدت على "قاعدة البيانات الخاصة بالتأمين الصحي الوطني ودمجتها مع قاعدة البيانات الخاصة بالهجرة والجمارك، من أجل خلق بيانات ضخمة" لأغراض تحليلية. وبحسب التقرير نفسه، فقد كان هذا هو السبب في تمكنها من وضع "إنذارات في وقتها"، من خلال معاينة "تاريخ سفر" المريض وتحليل "الأعراض الإكلينيكية"، من أجل تحديد مدى الإصابة من عدمها. واستعملت كذلك رمز الاستجابة السريع وبيانات السفر الإلكترونية لتحديد المواقع التي شملتها رحلات السفر خلال 14 يوماً الماضية لتحديد مخاطر الإصابة.
يتم تصنيف المخاطر بعد ذلك إلى مخاطر من الدرجة المنخفضة ومخاطر من الدرجة المرتفعة، ويتم "إرسال رسائل قصيرة عبر الهاتف الخلوي للمرور السريع" فيما يتعلق بإجراءات الدخول إلى المطار بالنسبة للصنف الأول. أما الصنف الآخر، فيتم فرض الحجر الصحي عليهم في منازلهم ويتم تتبع مدى التزامهم بذلك عبر الهواتف الخلوية.
وتعتبر مقاربة تايوان للوباء مقاربة مندمجة؛ لأنها تستعمل البيانات المستخرجة من مصادر حكومية مختلفة، ومن ثم تدمجها للحصول على صورة مكتملة ذات أبعاد متعلقة بالمعلومات المكانية وتاريخ السفر وتاريخ المرض لدى الأشخاص، وهذه البيانات مهيأة ومعدة للاستعمال متى قضت الحاجة بذلك. ويذكر أنه بعد سنة من وباء سارس (أي في 2004)، وضعت تايوان "المركز الوطني لقيادة التدخل في مجال الصحة"، وهو مركز يوحد جهود المراكز المهتمة بالأوبئة والأخطار البيولوجية وغيرها تحت قيادة واحدة تتبنى خططاً للتدخل السريع والفعال.
كوريا الجنوبية: مزايا التفوق التكنولوجي والاعتماد على البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي
عانت كوريا الجنوبية بشكل كبير من تأثير وباء كورونا؛ حيث بلغ عدد الإصابات حتى يوم 27 مارس: 9,332 حالة و139 وفاة. ولكن عدد الإصابات والوفيات ما فتئ يتناقص يوما بعد يوم منذ أكثر من أسبوعين؛ لأن التعامل كان قوياً ومنهجياً ويعتمد على تفوق الكوريين التكنولوجي، وعلى "منصة رقمية متقدمة لاستخراج البيانات الضخمة"، بالإضافة إلى "أنظمة تحذير مسبق تعمل بالذكاء الاصطناعي ومنهجية مراقبة مكثفة".
وتشمل قاعدة البيانات الضخمة التي كانت "اتصالات كوريا" قد طورتها بناءً على "المعلومات الضخمة المتعلقة بالتعامل بين الأشخاص و16 مؤسسة"، ومن خصائصها "بيانات للتنبؤ تعمل بالذكاء الاصطناعي".
وبما أن قاعدة البيانات الضخمة تشمل معلومات عن المستشفيات، بالإضافة إلى الأشخاص والمؤسسات الأخرى، فقد كان من السهل عند إصابة شخص معين بكورونا إخبار كل الأشخاص في المحيط القريب منه بكل تحركاته وسفره وأنشطته خلال الأسبوعين الماضيين عبر رسائل نصية قصيرة لهواتفهم.
ويتم إخبار السلطات الصحية بتحركاته والأشخاص الذين اتصل بهم من أجل إخضاعهم للمراقبة والفحص الطبي. ويتم التدخل بسرعة وفعّالية وبتنسيق بين كل المصالح الطبية. وفي الوقت نفسه، يمكن لتحليل بيانات البيانات الضخمة أن يوفر إمكانية تحديد بؤر الإصابة للتدخل السريع والحد من انتشار الوباء.
استعملت كوريا الجنوبية تفوقها التكنولوجي الباهر واستعمالها المبكر للذكاء الاصطناعي والجيل الخامس من تكنولوجيا الاتصالات وقاعدة البيانات الضخمة التي كشفت عنها أواخر السنة الماضية؛ حتى تضع مقاربة مندمجة لمحاربة الوباء، ومن ثم تمكنت من عكس تطوره واقتربت من التغلب عليه. وهذا نموذج يُحتذى به في ميدان محاربة الأوبئة القاتلة في الوقت الحاضر، وفي المستقبل.
الصين: المراقبة الشاملة كوسيلة للتحكم في انتشار الوباء
اعتمدت الصين على تحديد الإصابة عبر آلة ماسحة تلتقط الصورة والحرارة مِن وجوه المواطنين في محطات القطارات ومرافق أخرى، بالإضافة إلى اعتمادها على تكنولوجيات جديدة طورتها شركات مثل ميكفي التي وضعت حلولاً "تدمج الكشف عن الجسم والكشف عن الوجه والاستشعار المزدوج عبر كاميرات تعمل بالضوء المرئي وبالأشعة تحت الحمراء"؛ من أجل التعرف بسرعة على الذين يعانون من درجة حرارة مرتفعة.
تمتلك الصين نظاماً متطوراً وشاملاً للمراقبة؛ حيث يستعمل الصينيون بطاقات إلكترونية للتعريف في كل معاملاتهم وتنقلاتهم، كما أنها تَعتمِد على حوالي 200 مليون كاميرا موزعة على الأراضي الصينية.
بالإضافة إلى ذلك تعتمد على الهواتف الخلوية لتحديد تحركات المواطنين والتعرف على مَن خالطوهم في حالة إصابتهم بكورونا.
قد لا تصلح أنظمة المراقبة التي تعتمدها الصين في دول تعتمد قوانين حماية البيانات الشخصية ولا تراقب مواطنيها وتحركاتهم بشكل مفصل ودقيق، وقد تكون محطّ انتقاد نظراً لعدم احترامها للحقوق والحريات وحرمة الأشخاص والمعلومات الخاصة بهم، ولكنها في زمن الأزمة أثبتت نجاحها، خصوصاً في بلد يبلغ عدد سكانه مليار و500 مليون نسمة.
اقتراحنا: معطيات تنقّل الأشخاص وضرورة وضع قاعدة بيانات للبيانات الضخمة
حين يتعلق الأمر بمواجهة وباء مثل كورونا، فإنه يتعلق أساساً بالتنقل الناجم عن التواصل بين الناس. وقد تكون البيانات الضخمة حاسمة في مواجهة الأوبئة، خصوصاً في الجوانب المتعلقة بالفحص الشامل والبحث عن دواء أو حتى مواجهة الأخبار الزائفة، ولكن الجانب الذي أثبتت فيه البيانات الضخمة نجاحها هو الحد من الانتشار عبر التحكم في الحركية السكونية (أي الناجمة عن الاختلاط بين الناس). وتعد الحركية السكونية عاملاً أساسياً في انتشار الأوبئة، ولهذا فإن القدرة على رسم خرائط للحركية السكونية في الزمن الفعلي هو أمر حاسم في تقييم مدى نجاح عملية "الابتعاد الاجتماعي" ووضع إستراتيجيات فعالة للضبط؛ حيث إن القدرة على التنبؤ بانتشار الوباء وأخذ الاحتياطات الوقائية تعد أساسية لاحتوائه.
المقاربة الأولى -التي أثبتت نجاحها في بعض البلدان- هي استعمال بيانات الهواتف الخلوية (مع حماية هوية أصحابها)، التي يكون مصدرها شركات الاتصال، من أجل مراقبة مدى امتثال المواطنين لعملية الحجر الصحي في مناطق معينة؛ وذلك عبر استعمال تقنيات التثليث (أي اعتبار منصات الإرسال مثلثات من أجل تحديد الموضع الجغرافي للهاتف الخلوي وتنقلات صاحبه). لقد بدأ العمل بهذه التقنية في دول أوربية مثل إيطاليا وألمانيا والنمسا، وهي التي يتم بمقتضاها تبادل البيانات بين شركات الاتصال والسلطات الصحية بالرغم من وجود تشريعات صارمة فيما يخص حماية البيانات الشخصية.
المقاربة الثانية والأكثر نجاحاً على الإطلاق، غير أنها تتطلب إجماعاً وإرادة سياسية، هي أن تأخذ الحكومات بزمام الأمور وتضع منصة مندمجة للبيانات الضخمة. عبر هذه المنصة يتبادل البيانات كلُّ من يهمهم أمر محاربة الوباء، من مستشفيات وشركات الاتصال والمصالح الحكومية ومقدمي الخدمات. وتتيح هذه المقاربة إمكانية المراقبة الشاملة عبر تسخير قوة البيانات الضخمة والتعلم الآلي لتحديد الحالات عالية المخاطر، وكذا للتنبؤ بأي انتشار مستقبلي للعدوى وتجنب ذلك.
ماذا عن الدول العربية؟ نموذجان من الخليج ومن شمال إفريقيا
الإمارات العربية المتحدة: الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة كوسيلة لتركيز التدخل ضد الوباء
يبدو تدخُّل دولة الإمارات فعّالاً في الحد من انتشار الوباء؛ فبالإضافة إلى الفحوصات في المطارات وإغلاق المدارس ووضع القيود على السفر، بدأت الدولة تستعمل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة للحد من الانتشار، عبر تحديد الحالات التي تشكل خطراً وتخصيص الموارد الطبية لها.
كما تعتمد على نظام تكنولوجيا الرعاية الصحية "وريد"، الذي يربط "المعلومات الصحية للمرضى في 15 مستشفى و68 مركزاً للرعاية الصحية الأولية"؛ من أجل التنسيق فيما يخص الحالات الخطيرة. وتسعى دولة الإمارات كذلك لدمج تقنيتين مثيرتين، هما تسلسل الحمض النووي والذكاء الاصطناعي، لتعزيز معرفة البلد بالتركيبة الجينومية لمواطنيه، والتأسيس لقاعدة صلبة للصحة والوقاية.
أصبحت الإمارات العربية المتحدة في السنوات الأخيرة رائدة إقليمية في تبنّي الرأي القائل بضرورة اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ فعدد الشركات المتخصصة في البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي في الدولة يتطور بشكل مستمر، ويمكن لها أن تعتمد بسهولة مقاربة مندمجة يتم بمقتضاها جمع البيانات من القطاع العام والخاص عبر منصة مركزية تعطي إمكانية وضع رؤى فعالة لمواجهة الأوبئة والكوارث الطبيعية والأزمات الكبرى.
المملكة المغربية: استعمال البيانات الشخصية دون المساس بالحياة الخاصة للأفراد
اتخذ المغرب إجراءات احترازية منذ البداية، وسنّ سياسة الإغلاق الكامل والحجر الصحي، وهي سياسة يبدو أنها ستؤتي أُكُلها رغم تأثيرها السلبي على الاقتصاد.
ولكن المقاربة المغربية قد تكون أكثر فعالية في الحاضر والمستقبل، لو أن المغرب تبوّأ دوراً ريادياً في أفريقيا والعالم العربي باعتماد الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لمساعدة القطاعات الأساسية -من الداخلية والأمن والصحة- لمحاربة الجائحة. على المغرب أن يعتمد مقاربة مندمجة بوضع منصة ضخمة للبيانات الوافدة من القطاعات الحكومية الأساسية والقطاع الخاص. مهمة هذه المنصة هي تزويد الفاعلين الحكوميين والخواص بالبيانات اللازمة للتدخل في حال وجود وباء أو أزمات، أو للقيام بحملات ذات أبعاد جماهيرية.
عاملان أساسيان يمكن لهما مساعدة المغرب في لعب دور ريادي؛ أولاً: وجود خبرة محلية في ميداني الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة من ضمن الأحسن في العالم العربي وأفريقيا. وثانيا: تواجد قوي للمغرب في أفريقيا، خصوصاً في ميادين المال والاتصالات.
لهذا يجب العمل بطريقة متوازية على الجانبين التقني والتشريعي؛ فبينما يعمل فريق مركزي من مهندسي المنصات الإلكترونية الخاصة بالبيانات الضخمة على الجانب التكنولوجي و التأهيل النوعي للبيانات، على البرلمان أن ينكبّ على تعديل القانون الخاص بحماية البيانات الشخصية، ليسمح باستعمال البيانات مجهولة الهوية الخاصة بالهواتف الخلوية لمراقبة وتتبع سلوكيات المواطنين، ويُحدَّد ذلك حصراً في محاربة الأوبئة أو أي خطر على صحتهم.
غير أن وجود البيانات الضخمة لا يُغني الدول عن وضع بنية تحتية صحية فعالة، ووضع أنظمة وبروتوكولات صارمة وفعّالة للفحص والتتبع.
قرأ المقال وراجعه الدكتور عصام أوطالب، اختصاصي في علم الأوبئة وخبير في التحول الرقمي، ورئيس شركة فارماتريس (PharmaTrace) بألمانيا. والدكتور هشام حجيي، خبير في البيانات الضخمة المتعلقة بالمجال والتعلم الآلي.