توطئة: الجمال من وجهة نظر الدماغ
لو قمنا بالنظر إلى لوحة الموناليزا الشهيرة التي رسمها الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، لحصلنا على انطباعاتٍ مختلفة حول اللوحة ومغزاها، ولكن هنالك إجماع على أن اللوحة بحد ذاتها "جميلة". اللوحة واضحة، تظهر سيدة تبتسم بطريقةً غريبة تجعلنا لا نفهم إن كانت سعيدة أو حزينة، وربما هذا ما يجعلنا نعتقد أن هنالك جمالاً من نوع خاص بهذه اللوحة. لو نظرنا للوحةٍ شهيرة أخرى مثل لوحة التدمير الناعم للفنان السريالي الشهير سلفادور دالي، لوجدنا نفسنا أمام مشهد يصعب فهمه وتفسيره كونه لا يتضمن أي شيءٍ من الأمور المألوفة بالنسبة لنا، وعلى الرّغم من ذلك، فإن هذه اللوحة تُعتبر من أعظم القطع الفنية في التاريخ؛ إذ عبر فيها الفنان الإسباني عن نظرته للحرب الأهلية الطاحنة التي دارت في إسبانيا. لوحة سلفادور دالي الغريبة هذه هي أحد مصادر الجمال بالنسبة للكثيرين.
لنترك اللوحات وننتقل إلى الموسيقى: ماذا عن السيمفونية التاسعة التي قام الموسيقي الألماني بيتهوفن بتأليفها؟ تعتبر هذه المقطوعة من أشهر الأعمال الموسيقية عبر التاريخ، خصوصاً الجزء الذي يتضمن نشيد الفرح الذي أصبح النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي. بنظر العديد من الناس، فإن هذه المقطوعة "جميلة"، ولكن لنأخذ مقطوعة موسيقية أخرى مثل القداس الجنائزي لموتزارت، التي ألفها الموسيقي النمساوي على فراش موته ولخص فيها كل مكامن الحزن والتعاسة بحياته القصيرة، كما تجلّت فيها عبقريته بالكامل. المقطوعة تبعث على الحزن والأسى، وبالرّغم من ذلك فهي بنظر الكثيرين مقطوعة "جميلة".
البعض يذهب أبعد من ذلك؛ فبحسب عالم الرياضيات والفيزياء البريطاني الشهير بول ديراك، فإن السبب الأساسي لتقبل علماء الفيزياء لنظرية النسبية التي كشف عنها الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين هو "جمال" المعادلات الرياضية التي تُعبّر عنها. هنا أيضاً نجد أننا نستطيع تعميم صفة "الجمال" لتشمل أموراً مجرّدة غير ملموسة مثل المفاهيم الرياضية والفيزيائية.
فما هو الجمال؟ هل هو أمرٌ مرتبط بالفن؟ بالموسيقى؟ بالعلم؟ بالرياضيات؟ بالأشكال الهندسية المتناظرة؟ بأبعادٍ محددة مثل النسبة الذهبية؟
نستطيع أن ننشغل بالنقاش حول ماهية الجمال ونسبه لمجالٍ ما دون الآخر، إلا أن عالم الأعصاب سمير زكي يمتلك رأياً آخر حول هذا الموضوع، وقد أفضت أبحاثه في مجال العلوم العصبية لإيجاد إجابات وتفسيرات أوضح لتفسير فهمنا لبعض الأمور على أنها "جميلة"، ولماذا لا يمكن اعتبار الجمال مفهوماً مقتصراً على مجالٍ محدد.
النشأة والدراسة والعمل
ولد البروفيسور سمير زكي في مدينة بيروت اللبنانية سنة 1940، وقام بدراسة علم التشريح في جامعة كلية لندن University College London وأتبعها بدراسة الدكتوراه في نفس المجال، ثم تابع دراساته ليجري دراسات ما بعد الدكتوراه في الولايات المتحدة الأميركية، وعاد مرة أخرى لبريطانيا سنة 1969 ليستقر فيها ويتفرغ بشكلٍ كامل لدراساته في مجال علوم الأعصاب والبيولوجيا العصبية، حيث يعمل حتى اليوم باحثاً متخصصاً في مجال البيولوجيا العصبية في جامعة كلية لندن. اهتم الدكتور سمير زكي بشكلٍ كبير بالفن والنواحي البصرية، وشكّل هذا الأمر دافعاً له ليبحث بشكلٍ مفصل في الآليات التي يقوم الدماغ باستخدامها من أجل تكوين ردة الفعل البشرية للأمور التي لم يتم تقبلها على أنها "جميلة"، وهو المجال البحثيّ الذي أسسه بنفسه وأطلق عليه اسم العلوم العصبية الجمالية Neuroesthetic، بالإضافة لتأسيسه معهد العلوم العصبية الجمالية Neuroesthetic Institute، وذلك بعد دراسته المطولة لكيفية قيام الدماغ البشري بمعالجة وفهم العديد من الخصائص مثل الألوان والحركة، وذلك عبر دراسة مناطق مختلفة من الدماغ، ويهدف هذا المعهد لتطوير تفاعلٍ متبادل بين المجال الفني وعلماء الأعصاب.
العمل البحثي والأكاديمي
تركزت نشاطات سمير زكي البحثية في البداية على الجانب التشريحي وقد تضمنت تخطيط المناطق البصرية في الدماغ عند القرود من أجل دراسة طريقة ترابطها واتصالها مع بعضها البعض، وقد قادته هذه الأبحاث لتحديد عدة مناطق مسؤولة عن عمليات الإبصار في الدماغ، والمتوضعة أمام المنطقة المعروفة باسم القشرة البصرية Visual Cortex، وأتبع ذلك بأبحاثٍ تركزت حول تسجيل استجابة خلايا معينة ضمن هذه المناطق، وهو ما قاده لاكتشافٍ هام يرتبط بكيفية تفسير الدماغ للمشاهد البصرية المختلفة المتوضعة أمامه؛ لا يوجد منطقة واحدة فقط تتولى مسؤولية التفسير البصري، بل إن هذه العملية تتم بشكلٍ متفرع ضمن مناطق مختلفة من الدماغ، بحيث تتولى هذه المناطق وظائف بصرية مختلفة تسهم جميعها في إتمام عملية تفسير وفهم طبيعة المشهد الذي نشاهده.
انطلاقاً من هذه الأبحاث، عمل سمير زكي على متابعة نشاطاته لفهم أمورٍ محددة أكثر مثل إدراك الألوان الذي تم تفسيره على أنه عملية تحدث داخل الدماغ نفسه، الذي يتولى مسؤولية اصطناع الألوان، بمعنى آخر: الألوان التي نقوم بإدراكها هي نتيجة عمليات المعالجة التي يجريها الدماغ للمشهد البصريّ المتوضع أمامنا. توصل البروفيسور سمير زكي لهذه النتائج بعد تمكنه من تحديد منطقةٍ داخل الدماغ معروفة باسم المنطقة V4، والتي تلعب دوراً محورياً في عملية التفسير الوظيفي للألوان. اعتمد سمير زكي في هذه الأبحاث على تقنيات التصوير الطبي للدماغ بدلاً من الاقتصار فقط على أبحاث التشريح.
بالرّغم من أهمية الاكتشافات السابقة إلا أنها طرحت سؤالاً ملحاً، وهو الاستفسار عن الكيفية التي يستخدمها الدماغ من أجل مُعالجة الإشارات البصرية المُختلفة، وذلك ضمن المناطق المسؤولة عن ذلك، بما يفضي إلى تقديم صورةٍ موحدة عن العالم البصريّ من حولنا، ولأجل ذلك فقد قام الدكتور سمير زكي بإجراء دراسات مرتبطة بالحالة النفسية الجسدية Physcophysical، التي أظهرت أننا كبشر نقوم بإدراك السمات البصرية من حولنا عند فتراتٍ زمنية مختلفة، وبشيءٍ من التفصيل، أظهرت أبحاث الدكتور سمير زكي أن عملية إدراك الألوان تحديداً تسبق عملية إدراك الحركة التي تحدث أمامنا بفارقٍ زمنيّ قدره حوالي 80 مللي ثانية.
قادت هذه الاكتشافات إلى تكوين استنتاجاتٍ جديدة فيما يتعلق بآلية عمل الدماغ وكيفية فهمه للألوان والمشاهد البصرية المختلفة؛ حيث تبين أن هنالك حالة من المعالجة اللامتزامنة في الدماغ والناتجة عن فهم المشهد البصري أمامنا وخصائصه المختلفة ضمن مناطق متنوعة في الدماغ وبفوارق زمنية، وبكلامٍ آخر، عبّر الدكتور سمير زكي عن هذا الاستنتاج عبر توصيفه لمفهوم الوعي البصري Visual Conciousness على أنه عملية غير موحدة؛ لا يحدث الوعي والإدراك المرتبط بالمشاهد البصرية المتوضعة أمامنا ضمن منطقة واحدة في الدماغ وخلال فترةٍ زمنية واحدة، بل ضمن مناطق مختلفة ومع فوارق زمنية.
الجمال كما تفهمه أعصابنا
على الرّغم من الإنجازات الكبيرة التي قام سمير زكي بتحقيقها في مجال الأبحاث المتعلقة بالوعي والإدراك، إلا أن أبحاثه المتعلقة بالإدراك العصبي لمفهوم الجمال هي ما جلبت له شهرة عالمية كبيرة؛ حيث بدأ خلال مراحل لاحقة من سيرته المهنية بالتركيز على دراسة ردة الفعل المتولدة في الدماغ عند تعريضه لمدخلاتٍ حسية معينة التي سينتج عنها توليد أمور مثل مشاعر الحب والكراهية.
تابع الدكتور سمير زكي أبحاثه المتعلقة بفهم ردة فعل الدماغ على العديد من المؤثرات المختلفة، وذلك عبر أخذها لمنحى جديد، وهو محاولة فهم استجابة الدماغ على مجموعةٍ من اللوحات الفنية التي يُنظر إليها -على نطاقٍ واسع- على أنها "جميلة"، وذلك بغرض الإجابة على سؤالٍ هام: هل هنالك منطقة محددة في الدماغ مسؤولة عن توليد الإدراك "الجمالي"؟ أم أن هذا الوعي والإدراك وما يترافق معه من مشاعر هو نتيجة لعمل مناطق مختلفة في الدماغ؟ أظهرت أبحاث سمير زكي أن هذه العمليات الإدراكية ليست محصورة بمنطقة واحدة في الدماغ، بل هي تنتج عن عمل عدة مناطق من القشرة البصرية الدماغية، التي سترتبط مع بعضها البعض بشكلٍ تفاضليّ عند عرض مؤثراتٍ حسية مختلفة، بعضها تم تصنيفه على أنه "جميل" والآخر تم تصنيفه على أنه "قبيح"، وذلك بغض النظر عن طبيعة اللوحات الفنية نفسها.
النقطة الأخرى الهامة التي كشف عنها الدكتور سمير زكي هي أن كيفية تقبلنا وإدراكنا للمؤثرات الحسية أمامنا سيؤدي لتنشيط القشرة الحركية الدماغية Motor Cortex بشكلٍ مختلف؛ فالتأثير الذي تُحدثه اللوحات الفنية التي نعتبرها "جميلة" مختلف تماماً عن التأثير الذي تُحدثه اللوحات الفنية التي نعتبرها "قبيحة"، بسبب اختلاف نشاط القشرة الحركية الدماغية بعد مشاهدة هذه اللوحات.
لم يكن تحديد استجابة الدماغ للمؤثرات الحسية المختلفة هو الأمر الوحيد الذي أراد سمير زكي فهمه فيما يتعلق بإدراكنا لمفهوم الجمال، بل أراد أن يأخذ ذلك خطوةً للأمام عبر التأسيس لنظرية مبنية على السلوك الدماغي من أجل فهم عملية تكوين الإدراك الجمالي، وهو ما تم عبر ورقةٍ بحثية شهيرة تم نشرها سنة 2011، أظهر فيها وجود منطقةٍ مُحددة في الدماغ (تُعرف باسم المنطقة mOFC) تم تسجيل نشاطها بشكلٍ ملحوظ أثناء نشوء الخبرات أو التعرض للمؤثرات الحسية السمعية أو البصرية، التي تم تصنيفها على أنها "جميلة"، كما أن شدة تفعيل هذه المنطقة مرتبط بشدة المؤثر الحسيّ الجميل نفسه، وهكذا تم التوصل إلى أن تكوين الإدراك الجمالي ضمن الدماغ هو نشاطٌ يمكن تفعيله عبر مؤثرين على الأقل؛ الأول هو المؤثر البصري والثاني هو المؤثر السمعي (الموسيقي)، وبالتالي فإنه لا يمكن وصف الجمال على أنه مفهومٌ مرتبط بمجالٍ محدد دون الآخر.
تمحورت أبحاث الدكتور زكي بشكلٍ كبير على فهم الجمال واستجابة الدماغ للمؤثرات الحسية "الجميلة" من وجهة النظر الفنية، أي مراقبة وفهم النشاط الدماغي بعد تعريضه للوحاتٍ فنية أو مقطوعاتٍ موسيقية مختلفة، وهو ما دفعه للمضي أكثر في أبحاثه ومحاولة فهم إن كان هنالك "جمال" في المعادلات الرياضية بشكلٍ مشابه لذلك الذي نجده في اللوحات الفنية أو المقطوعات الموسيقية. وكنتيجةٍ لهذا العمل تم نشر ورقة بحثية شهيرة سنة 2014 حول مفهوم الجمال في الرياضيات وارتباطاته العصبية، وخلال الدراسة تم توزيع 60 معادلة رياضية مختلفة على 15 عالم رياضيات وطلب منهم تقييم هذه المعادلات على أنها "جميلة" أو "قبيحة" أو "حيادية" وتم استخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI من أجل تسجيل الاستجابة التي نشأت في الدماغ عند العلماء المشاركين في الدراسة.
وما تم اكتشافه أنه حين النظر للمعادلة الرياضية يحدث تفعيلٌ لمناطق مختلفة في الدماغ، إلا أنه عند النظر لمعادلةٍ رياضية تم تصنيفها على أنها "جميلة" فإن منطقةً محددة في الدماغ ستنشط، وهي نفس المنطقة التي تنشط عند تصنيف لوحة أو مقطوعة موسيقية على أنها "جميلة"، وبشكلٍ مشابه للأثر الذي تتركه اللوحات الفنية أو المقطوعات الموسيقية: كلما كانت المعادلة الرياضية أكثر "جمالاً" فإن النشاط الدماغي المسجل عبر الرنين المغناطيسي سيكون أكثر شدة.
مثلت هذه الأبحاث والدراسات نقلةً كبيرة في تفسير النشاط الدماغي والعصبي المرتبط مع مفاهيم وأمور معينة مثل "الجمال"، التي أصبحنا بموجبها نستطيع اعتبار معادلة رياضية مثل معادلة أويلر الشهيرة على أنها ذات قيمة "جمالية" مشابهة لتلك التي تمتلكها لوحة الموناليزا أو السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، جميع هذه الأمور تقوم بتفعيل وتنشيط نفس المنطقة في الدماغ وكلما كانت هذه الأمور أكثر جمالاً كان النشاط الدماغي أعلى.
كتب ومؤلفات علمية
قام سمير زكي بنشر العديد من الكتب العلمية المستوحاة من أبحاثه في مجال النشاط العصبي والدماغي، ويُعتبر كتابه "رؤيةٌ للدماغ A Vision of the Brain" المنشور سنة 1993 من أشهر الكتب التي قام بتأليفها، حيث ركز فيه على شرح وتفسير كيفية عمل القشرة المخية، وتحديداً القشرة البصرية، ويعتبر من أهم المراجع المتوافرة للراغبين في دراسة العلوم البيولوجية العصبية. في كتابه الثاني "رؤية داخلية: استكشاف الفن والدماغ Inner Vision: An Exploration of Art and the Brain" يستعرض الدكتور سمير زكي مفاهيم الجمال والإدراك، ويقدم تفسيراً لسبب إدراكنا لبعض الأمور على أنها جميلة من وجهة نظر عصبية ودماغية، وذلك بعد استخدامه لأمثلةٍ تعود لفنانين كبار مثل رامبرانت وفيرمير وبيكاسو وتوضيح كيفية استجابة دماغنا، وما الذي يحدث ونشعر به عندما نشاهد هذه اللوحات. الكتاب الثالث الشهير الذي قام الدكتور زكي بتأليفه هو "بهجات وتعاسة الدماغ Splendors and Miseries of the Brain" الذي يستعرض فيه أهمية دراسة الموسيقى والفن والأدب والحب من أجل التوصل لنتائج هامة حول آلية عمل الدماغ.
جوائز وتكريمات
كتقديرٍ لجهوده وأبحاثه الهامة في العلوم العصبية والدماغية، حصل البروفيسور زكي على العديد من الجوائز والتكريمات الشرفية، فهو عضوٌ في الجمعية الملكية البريطانية بدءاً من سنة 1980، وعضو مؤسس في أكاديمية العلوم الطبية، فضلاً عن حصوله على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات آبردين وأستون وتسالونيكي. في مجال الجوائز حصل البروفيسور زكي على ميدالية إيراسموس الأوروبية سنة 2008 وعلى ميدالية أرسطو الذهبية سنة 2011 كما حصل على جائزة الملك فيصل بن عبد العزيز في مجال البيولوجيا سنة 2004.