انتشرت الأنفلونزا الإسبانية عام 1918، وتسبّبت في حدوث جائحة عالمية أدّت إلى إصابة نحو ثلث سكّان العالم في ذلك الحين ومقتل ما لا يقل عن 50 مليون شخص، متجاوزةً بذلك عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى التي سبقتها. نذكر فيما يلي أهم الدروس المستفادة من ذلك الوباء لمواجهة تفشي فيروس كورونا في الوقت الحالي.
أهمية الشفافية
تدلّ تسمية الأنفلونزا الإسبانية على أهمية الشفافية؛ فالمرض لم يُعرف بهذا الاسم لأنه نشأ في إسبانيا، ولكنها كانت الدولة الأولى التي نشرت تقارير عنه على نطاق واسع. لم تكن إسبانيا إحدى الدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى، ولم تكن هناك رقابة عسكرية مفروضة على الصحافة والإعلام فيها، بينما قامت الدول الأخرى بمنع نشر أي أخبار عن الجائحة؛ ولذلك اعتقد الكثير من الناس أن المرض انتشر من إسبانيا، وأطلق عليه هذا الاسم.
ينتشر فيروس كورونا في الوقت الحالي أيضاً بسبب انعدام الشفافية لدى المسؤولين في مدينة ووهان الصينية، الذين تجاهلوا التحذيرات الأولية ومنعوا انتشارها. أدى ذلك إلى التأخّر في نشر المعلومات الهامة المتعلقة بالفيروس وعدم اتّخاذ إجراءات لاحتوائه في الوقت المناسب.
تعدّ الشفافية أساسية كذلك لكسب ثقة الجمهور في مكافحة الوباء؛ إذ يمكن أن تتزعزع ثقة الناس بالإجراءات المتّخذة في حال عدم وجود الشفافية، وقد لا يلتزمون بالتوجيهات والتوصيات التي تهدف إلى توعيتهم ووقايتهم من الإصابة بالعدوى.
أهمية احتواء الوباء باكراً
تعطينا الأنفلونزا الإسبانية درساً ثميناً فيما يتعلق بالاحتواء الباكر للوباء؛ إذ يعود سبب الارتفاع الكبير في عدد الوفيات حينها إلى إصابة الكثير من الناس بالأنفلونزا في وقت مبكر بسبب عدم اتخاذ إجراءات لإيقاف انتشار المرض، بل على العكس، فقد كانت عودة القوات العسكرية إلى بلدانها الأصلية من أهم عوامل انتشار الوباء على مستوى العالم.
وقد وجد باحثون في دراسة نُشرت في مجلة وقائع الأكاديمية الأميركية الوطنية للعلوم أن المدن الأميركية التي طبّقت إجراءات للحدّ من انتشار العدوى في بداية الوباء عام 1918 من خلال ممارسات شبيهة بالابتعاد الاجتماعي في الوقت الحالي كانت معدّلات الوفيات فيها أقل بكثير من المدن التي تأخرت في تبنّي سياسات احتواء المرض.
ضرورة الاستمرار في الابتعاد الاجتماعي
قد يكون هذا هو الدرس الأكثر أهمية من الأنفلونزا الإسبانية؛ إذ وجد باحثون في دراسة نُشرت في مجلة جاما المرموقة أن الأسلوب الأكثر نجاحاً الذي طبّقته بعض المناطق عام 1918 كان التحرّك السريع والمبكّر لاتّخاذ إجراءات لاحتواء الوباء عند إصابة عدد محدود من الأشخاص بالمرض، وإبقاء هذه الإجراءات لحين زوال الوباء، ثم إعادتها فوراً عند ظهوره مرة أخرى.
كما ذكرت الدراسة أنه لم تحدث موجة ازدياد ثانية في الوفيات إلا عندما أوقفت بعض المدن العمل بإجراءات الابتعاد الاجتماعي، حيث ورد فيها: "من بين المدن الـ 43 (التي شملتها الدراسة)، لم نجد أي مثال لمدينة حدثت فيها موجة ثانية من الأنفلونزا عندما كانت المجموعة الأولى من التدخلات غير الدوائية لا تزال قيد التطبيق". وقالت دراسة مجلة الوقائع أيضاً: "لم تحدث الموجة الثانية إلا بعد التساهل في الإجراءات".
تكمن صعوبة هذا الدرس في الوقت الحالي أنه لا بدّ من الاستمرار في الابتعاد الاجتماعي لوقت طويل قد يستمر لعدّة أشهر، وذلك كما خلصت مجلة الوقائع بقولها: "في حال حدوث جائحة شديدة، قد تضطر المدن على الأرجح لأن تحافظ على الإجراءات غير الدوائية لمدة تزيد عن فترة 2-8 أسابيع، التي كانت هي الفترة المعتادة في جائحة عام 1918".
ضرورة الاستعداد للأسوأ
من الدروس المستفادة من الأنفلونزا الإسبانية أيضاً أنه يجب علينا الاستعداد لأسوأ السيناريوهات المتعلّقة بالوباء والعمل على الحدّ من آثارها، سواءً كانت على الإنسان أو الاقتصاد. فتوقّف العمّال عن العمل بسبب إجراءات الحجر الصحي والعزل والابتعاد الجماعي من شأنه أن يترك آثاراً كبيرة على الاقتصاد، كما أن إغلاق مدن ومناطق بأكملها سيؤدي إلى الركود الاقتصادي.
يجب اتّخاذ تدابير مالية جديدة على الفور؛ إذ إن انخفاض دخل الكثير من الأفراد وارتفاع تكلفة الرعاية الصحية من شأنه أن يجبر الناس على العودة إلى العمل وعدم الالتزام بالابتعاد الاجتماعي حتى لو كانوا يحملون الفيروس، مما يؤدي إلى زيادة انتشاره.
قد لا يكون المثل القائل بأن التاريخ يعيد نفسه صحيحاً، لكن الاستفادة من هذا التاريخ هي أمر ضروري، خاصةً إذا كان الدرس بسيطاً. ما علينا سوى النظر إلى الأخطاء التي حدثت في جائحة الأنفلونزا الإسبانية وتجنّب تكرارها مع وباء فيروس كورونا اليوم.