كورونا: عودة الأمور إلى طبيعتها ستستغرق وقتاً طويلاً

7 دقائق
مصدر الصورة: غيتي إيميدجيز

حتى نُوقِف فيروس كورونا، يجب أن نُحدِث تغييرات شاملة في كل ما نفعله تقريباً: العمل، وممارسة الرياضة، والتواصل الاجتماعي، والتسوق، والاهتمام بالصحة، وتعليم الأولاد، والعناية بأفراد العائلة.

جميعنا يرغب في عودة الأمور إلى طبيعتها بسرعة. ولكن ما لم يدركه معظمنا حتى الآن -وإن كان هذا سيحدث قريباً- هو أن الأشياء لن تعود إلى طبيعتها بعد بضعة أسابيع، أو حتى بضعة أشهر. ستتغير بعض الأشياء إلى الأبد.

أصبح من المتفق عليه على نطاق واسع (حتى من قِبل بريطانيا، أخيراً) أن كل بلد يجب أن تقوم بتخفيف سرعة انتشار الفيروس، وذلك عن طريق فرض الابتعاد الاجتماعي للتخفيف من إمكانية انتقال الفيروس، بحيث لا يؤدي تضخم عدد الأشخاص المصابين في نفس الوقت إلى انهيار نظام الرعاية الصحية، كما يوشك أن يحدث في إيطاليا الآن. هذا يعني أن الوباء يجب أن يستمر، على مستوى منخفض، إما إلى أن يصاب ما يكفي من الأشخاص بكوفيد-19 حتى يكتسب معظم الناس المناعة (على فرض أنها ستدوم لسنوات، وهو ما لسنا متأكدين منه)، أو حتى اكتشاف لقاح.

كم سيستغرق هذا الأمر من الوقت، وإلى أي حد يجب أن تكون القيود الاجتماعية صارمة؟ أعلن الرئيس دونالد ترامب منذ فترة وجيزة عن توجيهات جديدة، مثل حد التجمعات بعشرة أشخاص على الأكثر، وقال: "خلال بضعة أسابيع من الإجراءات المكثفة، يمكن أن نغير من هذا الوضع وبسرعة". في الصين، وبعد 6 أسابيع من الحجر الكامل، بدأت الإجراءات بالتراخي بعد أن تراجع ظهور الإصابات الجديدة إلى أرقام منخفضة للغاية.

ولكن الأمر لن ينتهي عند ذلك الحد. طالما بقي الفيروس موجوداً لدى شخص واحد في العالم، يمكن أن ينتشر الوباء مرة أخرى، بل إن هذا سيحدث بالتأكيد بغياب قيود صارمة لاحتوائه. اقترح باحثون في جامعة لندن الإمبراطورية -في تقرير نشروه مؤخراً (ملف بي دي إف)- طريقة لتحقيق هذا الأمر، وتقوم على رفع التشدد في إجراءات الابتعاد الاجتماعي في كل مرة تبدأ أعداد الحالات المُدخلة إلى وحدات العناية المشددة بالازدياد، والتخفيف من هذه الإجراءات في كل مرة تتراجع فيها هذه الأرقام. يعبر الشكل البياني التالي عن هذه الطريقة.

يؤدي تطبيق الابتعاد الاجتماعي على نوبات إلى إبقاء الوباء تحت السيطرة.
مصدر الصورة: فريق الاستجابة لكوفيد-19 في جامعة لندن الإمبراطورية / تعريب: إم آي تي تكنولوجي ريفيو

يمثل الخط البرتقالي عدد الحالات المُدخلة إلى وحدات العناية المشددة. في كل مرة يرتفع هذا الخط فوق عتبة معينة، ولتكن مثلاً 100 حالة أسبوعياً، ستفرض البلاد إغلاق جميع المدارس ومعظم الجامعات وإجراءات الابتعاد الاجتماعي. وعندما ينخفض الخط تحت 50، تُوقف هذه الإجراءات، ولكن مع استمرار الحجر في المنزل على المصابين بأعراض المرض وعائلاتهم.

ما الذي يمكن أن نعتبره بمنزلة "ابتعاد اجتماعي"؟ يعرف الباحثون الابتعاد الاجتماعي بأنه "تخفيف تواصل الناس خارج المنزل والمدرسة والعمل بنسبة 75%" هذا لا يعني أنك تستطيع أن تخرج مع أصدقائك مرة واحدة في الأسبوع بدلاً من أربع مرات. بل يعني أن الجميع يقومون بكل ما يمكن للتخفيف من التواصل الاجتماعي، بحيث يؤدي هذا إلى تخفيف إجمالي التواصل إلى 75%.

ووفقاً لهذا النموذج، استنتج الباحثون أن الابتعاد الاجتماعي وإغلاق المدارس يجب أن يُفرض تقريباً في ثلثي الوقت -تطبيق الإجراءات لشهرين ورفعها لشهر واحد تقريباً- بشكل متكرر حتى التوصل إلى لقاح، وهو ما سيستغرق على الأقل 18 شهراً (بفرض نجاحه في المقام الأول). يلحظ الباحثون أن النتائج "مشابهة بشكل نوعي فيما يتعلق بالولايات المتحدة".

ثمانية عشر شهراً؟ لا بد من وجود حلول أخرى. لم لا نقوم مثلاً ببناء المزيد من وحدات العناية المشددة، بحيث نستطيع علاج المزيد من الأشخاص في نفس الوقت؟

في جميع السيناريوهات التي لم يُطبق فيها الابتعاد الاجتماعي على نطاق واسع، أدى عدد الإصابات في نهاية المطاف إلى إصابة نظام الرعاية الصحية بالعجز.
مصدر الصورة: فريق الاستجابة لكوفيد-19 في جامعة لندن الإمبراطورية / تعريب: إم آي تي تكنولوجي ريفيو

لم يؤدِّ هذا، وفقاً لنموذج الباحثين، إلى حل المشكلة. فمن دون تطبيق الابتعاد الاجتماعي على الجميع، وجد الباحثون أنه حتى عند تطبيق أفضل إستراتيجية للتخفيف من انتشار المرض -أي عزل أو حجر المرضى والعجزة الذين تعرضوا للفيروس، إضافة إلى إغلاق المدارس- فإن عدد المصابين المعرضين للوفاة سيزداد إلى ثمانية أضعاف قدرة التحمل للنظام الصحي في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. هذا هو المنحني البياني الأزرق في أسفل الشكل، أما الخط الأحمر المستقيم فهو العدد الحالي لأسرة العناية المشددة. حتى لو تمكنّا من إنتاج كميات ضخمة من الأسرّة والمَنَافس وغيرها من المنشآت والتجهيزات والمواد على نطاق واسع، فما زلنا في حاجة إلى أعداد كبيرة إضافية من طواقم الأطباء والتمريض للعناية بالجميع.

إذا فُرضت إجراءات الابتعاد الاجتماعي الكامل وغير ذلك لمدة 5 أشهر، ومن ثم رُفعت، فسوف يعود الوباء.
مصدر الصورة: فريق الاستجابة لكوفيد-19 في جامعة لندن الإمبراطورية / تعريب: إم آي تي تكنولوجي ريفيو

ماذا عن فرض الإجراءات مرة واحدة كل 5 أشهر مثلاً؟ هذا ليس نافعاً، فما أن تُرفع القيود، سينتشر الوباء مرة ثانية، ولكن هذا سيكون في الشتاء، أي أسوأ وقت بالنسبة لأنظمة الرعاية الصحية المرهقة في المقام الأول.

وماذا لو قررنا أن نكون أقل رحمة؛ وذلك برفع عتبة عدد إدخالات العناية المشددة المطلوبة لفرض الابتعاد الاجتماعي، بحيث نقبل بوفاة عدد أكبر بكثير من المرضى؟ قد يُحدث هذا فرقاً طفيفاً. حتى في أقل سيناريوهات الباحثين تشدداً، يجب تطبيق إجراءات الابتعاد الاجتماعي لأكثر من نصف الوقت.

لن يكون هذا التغير أمراً مؤقتاً، بل بدايةَ أسلوب حياة مختلفٍ تماماً.

العيش في ظل الوباء‎
على المدى القصير، سيؤدي هذا إلى ضرر كبير بالأعمال والشركات التي تعتمد على تجمع الناس بأعداد كبيرة، مثل المطاعم، والمقاهي، والحانات، والنوادي الليلية، والنوادي الرياضية، والفنادق، والمسارح، ودور السينما، والمعارض الفنية، والمجمعات التجارية، ومعارض الأشغال اليدوية، والمتاحف، وعمل الموسيقيين وغيرهم من المؤدّين، والملاعب الرياضية (وعمل الفرق الرياضية)، وصالات المؤتمرات (وإنتاج المؤتمرات)، وشركات الرحلات البحرية، وشركات النقل الجوي، والنقل العام، والمدارس الخاصة، ورياض الأطفال. ناهيك عن تزايد الضغوط على الأهل المضطرين إلى تدريس أولادهم في المنزل، والأشخاص الذين يجب أن يعتنوا بكبار السن في العائلة من دون تعريضهم للفيروس، والناس الذين يعانون من علاقات تتضمن الكثير من الإساءة، وأي شخص لا يتمتع بهامش مالي يسمح له بالتعامل مع تقلبات الدخل.

بطبيعة الحال، سيبدأ البعض بالتكيف مع هذه التغيرات، فقد تبدأ النوادي الرياضية مثلاً بتقديم المعدات الرياضية المنزلية وجلسات التدريب على الإنترنت. سنشهد انفجاراً في خدمات جديدة ضمن إطار ما كان يسمى "اقتصاد الانعزال". يمكن أيضاً أن نأمل في تغير بعض العادات، مثل التقليل من السفر الذي يؤدي إلى إطلاق الكربون، وتعزيز سلاسل التزويد المحلية، وتزايد الاعتماد على المشي وركوب الدراجات.

ولكن التكيف مع هذا التغير سيكون مستحيلاً بالنسبة للكثير من الأعمال والأشخاص. كما أن نمط الحياة المغلق غير قابل للاستدامة لفترات طويلة إلى هذه الدرجة.

إذن، كيف يمكن أن نعيش في هذا العالم الجديد؟ يكمن جزء من الجواب -كما نأمل- في تحسين أنظمة الرعاية الصحية، مع وحدات استجابة وبائية قادرة على التحرك بسرعة لتحديد واحتواء أية جائحة وبائية قبل أن تبدأ بالانتشار، والقدرة على رفع إنتاجية التجهيزات الطبية ومجموعات الاختبارات والعقاقير. لقد فات الأوان على استخدم إجراءات كهذه لمواجهة كوفيد-19، ولكنها ستساعد لمواجهة الأوبئة التي ستظهر لاحقاً.

في المدى القريب، قد نتوصل إلى أوضاع توازن غير مألوفة تتيح لنا المحافظة على درجة ما من الحياة الاجتماعية. قد تقوم دور السينما بتخفيض عدد المقاعد إلى النصف، وتُعقد الاجتماعات في غرف أكبر بكراسٍ متباعدة، وتطلب النوادي الرياضية حجوزات مسبقة للتدريب لتجنب الازدحام.

ولكن، في المحصلة، أتوقع أننا سنتمكن من استعادة قدرتنا الطبيعية على ممارسة الحياة الاجتماعية بأمان، وذلك بتطوير وسائل أكثر تطوراً لتحديد المصابين، وفرض قيود قانونية عليهم.

يمكن أن نرى بدايات تطبيق هذه الإجراءات حالياً في بعض الدول. ستستخدم بعض الدول بيانات مواضع الهواتف الخليوية -التي تعتمد عليها في العمل الاستخباراتي- وذلك لتتبع الأشخاص الذي كانوا على تواصل مباشر مع من تعرف السلطات أنهم يحملون الفيروس. تُجري سنغافورة عمليات تتبع مكثفة للتواصل بين الأشخاص، وتنشر بيانات مفصلة تتضمن كل المعلومات -باستثناء أسماء الأشخاص- حول كل حالة معروفة.

ترجمة محتوى التغريدة:
أشعر بالذهول من عمق المعلومات المنشورة في سنغافورة حول فيروس كورونا. يمكنك أن تطلع في هذا الموقع على جميع الإصابات المعروفة، ومكان إقامة وعمل المصاب، والمستشفيات التي دخل إليها، وشبكة العلاقات بين حاملي الفيروس، وكل ذلك بالتسلسل الزمني.

بطبيعة الحال، لا نعرف شكل هذا المستقبل الجديد بالضبط. ولكننا يمكن مثلاً أن نتخيل أن ركوب الطيارة يحتاج إلى التسجيل في خدمة تتعقب تحركاتك عبر الهاتف. لن تستطيع شركة النقل أن تطّلع على أماكن تحركاتك، ولكنها ستحصل على إشعار إذا كنت قريباً من شخص معروف الإصابة، أو أماكن تجمع الإصابات والعدوى. قد تُفرض شروطٌ مماثلة لدخول المنشآت الكبيرة والمباني الحكومية وعقد النقل العام. ستنتشر ماسحات قياس الحرارة في كل مكان، وقد يُفرض عليك في العمل ارتداء جهاز مراقبة لتتبع حرارتك وإشاراتك الحيوية الأخرى. وكما تطلب النوادي الليلية إثباتاً للعمر المناسب لدخولها، قد تطلب في المستقبل أيضاً إثباتاً للمناعة، مثل بطاقة تعريف أو إثبات رقمي باستخدام الهاتف، بحيث تبين أنك تعافيت من أحدث الفيروسات أو أخذت اللقاحات المضادة لها.

وفي هذه التغريدة، تشرح إحدى المسافرات كيف أن أموراً مثل هذه قد حدثت معها بالفعل:

سنتكيف مع هذه الإجراءات ونتقبلها، تماماً كما تكيفنا مع تزايد صرامة الإجراءات الأمنية في المطارات بعد الهجمات الإرهابية. ستمثل هذه المراقبة الدقيقة ثمناً صغيراً يجب أن ندفعه لقاء الحرية الأساسية للتواجد مع الآخرين.

ولكن، ووفقاً للمعتاد، سيتحمل الأفقر والأضعف التكلفةَ الحقيقية. سيُستبعد الأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على ما يكفي من الرعاية الصحية، أو الذين يعيشون في مناطق معرضة للأوبئة، من الأماكن والفرص المتاحة للآخرين. كما أن العاملين المستقلين والمؤقتين، مثل السائقين والسباكين ومدربي اليوجا المنفردين، سيجدون أن وظائفهم أصبحت أكثر عرضة للتقلبات من ذي قبل. أما المهاجرون واللاجئون وغير المُسجلين والمجرمون السابقون فسوف يجدون المزيد من المصاعب في العثور على مكان في المجتمع.

إضافة إلى ذلك، ومن دون وجود قواعد صارمة لتقييم مخاطرة تعرض الشخص للإصابة، يمكن أن تختار الحكومات أو الشركات أية معايير، فقد يكون احتمال إصابتك كبيراً إذا كنت مثلاً تكسب أقل من 50,000 دولار سنوياً، أو تنتمي إلى عائلة فيها أكثر من 6 أفراد، أو تعيش في مناطق معينة من البلاد. يفتح هذا المجال أمام تحيز الخوارزميات والتمييز الخفي، كما حدث في السنة الماضية مع خوارزمية استخدمتها شركات التأمين الصحية الأميركية، التي تبين أنها تفضل ذوي البشرة البيضاء بشكل واضح.

لقد تغير العالم لمرات كثيرة، وهو يتغير مرة أخرى الآن. يجب علينا جميعاً أن نتكيف مع أسلوب جديد في الحياة والعمل وتكوين العلاقات. ولكن في ظل هذه التغيرات، لا شك أن البعض سيعانون من خسائر أكثر من غيرهم، وهم أيضاً من خسروا الكثير في المقام الأول. أفضل ما يمكن أن نأمل به هو أن عمق هذه الأزمة سيرغم البلدان أخيراً -خصوصاً الولايات المتحدة- على إصلاح الفوارق الاجتماعية العميقة التي تجعل قطاعات كبيرة من المجتمع عرضة للكوارث بهذه الطريقة.

المحتوى محمي