تعرف على الباحثة السورية الأميركية دينا القتابي وإسهامها في تطوير أنظمة الاتصالات وتغيير مفهوم المراقبة الصحية

7 دقائق
مصدر الصورة: سيمون سيمارد

توطئة: من الطب، إلى الإشارات اللاسلكية، إلى الطب مجدداً
تمثل سيرة العالمة السورية الأميركية قصة إلهامٍ رائعة لامرأة لاحقت طموحها وأحلامها رغماً عن كل شيء، فهي رفضت إكمال دراستها للطب البشريّ على الرّغم من المنزلة الاجتماعية المصاحبة للأطباء والاحترام الذي يحظون به، خصوصاً في بلدٍ مثل سوريا، لتدخل مجال الهندسة وتبني لنفسها مسيرةً حافلة بالإنجازات بالغة التأثير ضمن مجال اختصاصها. 

رفضت دينا القتابيّ الطبَّ البشريّ في سبيل تحقيق أحلامها الهندسية، وسلكت مساراً تضمن الكثير من الإنجازات المرتبطة بعلوم الاتصالات والإشارات اللاسلكية، حتى وجدت نفسها مرةً أخرى في الطب والرعاية الصحية دون أن تشعر، بعد أن قادتها أبحاثها في علوم الاتصالات لابتكار حلولٍ وتقنيات فريدة في مجال مراقبة المرضى وتحديد حالتهم الصحية

النشأة، والدراسة والعمل
وُلدت دينا القتابي في مدينة دمشق سنة 1971 لأسرةٍ يعمل الكثير من أفرادها في المجال الطبيّ، ولذلك -وبعد إنهائها لامتحان الشهادة الثانوية- قررت الالتحاق بكلية الطب البشريّ، ولكنها وبعد أقل من عام وجدت نفسها غير قادرةٍ على البقاء بعيدةً عن الرياضيات والهندسة، ولهذا اتخذت قراراً بعدم إكمال دراستها للطب، وقد قالت في هذا الشأن ضمن مُقابلةٍ مع مجلة الفنار ميديا بأنها قررت ترك الطب لأن تصميم الجسم البشريّ ثابت، بينما يمكن عبر الهندسة تخيلُ وابتكار أنظمةٍ جديدةٍ كلياً. 

مدفوعةً بهذه الفلسفة وبحبها للرياضيات، انتقلت القتابي لكلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في جامعة دمشق لتحصل منها على شهادة الإجازة (البكالوريوس) في الهندسة الكهربائية والإلكترونية سنة 1995، ثم تابعت تحصيلها العلميّ في الولايات المتحدة الأميركية لتدرس في جامعة إم آي تي وتحصل منها على شهادة الماجستير سنة 1998، وأتبعتها بشهادة الدكتوراه سنة 2003 بمجال علوم الحاسب. 

انضمت القتابي للعمل في جامعة إم آي تي سنة 2003 وهي لا تزال تعمل هناك إلى يومنا هذا، حيث تشغل منصب أستاذة في قسم الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسب، كما أنها تشغل منصب مديرة مركز إم آي تي للشبكات اللاسلكية والحوسبة المُتنقلة، وهي باحثة رئيسية في مخبر علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي. 

القيمة العلمية والإنجازات البحثية
تمتلك دينا القتابي مسيرةً أكاديمية استثنائية تمثلت في قدرتها على إحداث تطويراتٍ كبيرة معتمدة أو مرتبطة بالاتصالات اللاسلكية، وتشعبت المجالات التي عملت بها لتمتد من تحسين تدفق البيانات عبر معايير الاتصال اللاسلكيّ مروراً بتطوير أنظمة إبصارٍ رائدة ووصولاً للتطبيقات الصحية والحيوية.

كنظرةٍ سريعة، تركز القتابي في مجالات بحثها على الأنظمة المحمولة، والتطبيقات الصحية لإنترنت الأشياء، والشبكات اللاسلكية، حيث تسرد في موقعها الرّسمي أن هدفها الأساسي يتركز في تطوير تقنيات وخوارزميات وأنظمةٍ جديدة تتيح تطبيق مفهوم المنازل الذكية والمراقبة الصحية غير التداخلية، بالإضافة لتحسين جودة الاتصالات اللاسلكية والخلوية. وتعتمد القتابي في أبحاثها على النمذجة باستخدام الرياضيات المتقدمة لتوفير حلولٍ عملية، وهي تجمع بين تقنيات التحسس الرائدة مع طرق تعلم الآلة وخوارزميات معالجة الإشارة لإيجاد حلولٍ للمشاكل الحياتية التي نشاهدها. 

وتعود أولى إنجازات القتابي للبحث الذي أجرته أثناء تحضيرها لنيل شهادة الدكتوراه، حيث ركزت على معايير الاتصال الشبكيّ أثناء عملها تحت إشراف دافيد كلارك، أحد رواد تصميم معايير الاتصال عبر شبكة الإنترنت. ركزت دينا على مشكلةٍ مركزية في مجال الاتصالات الشبكية وهي التحكم بالاحتقانات في شبكة الاتصال المُرتبطة بالإرسالات العكسية التي قد تهدد بإحداث ضرر في كفاءة تبادل البيانات والمعلومات عبر الشبكة، وكانت آلية الحل المتبعة آنذاك قائمةً على جعل كل حاسوب يراقب الإرسالات الخاصة به، وفي حال اكتشف أدلةً على حدوث احتقان في الشبكة، يقوم الحاسوب نفسه بتخفيض مُعدّل الإرسال. لكن القتابي أرادت تطوير حلٍ أفضل، ولذلك قامت بجلب مفاهيم وطرق نظرية التحكم الآلي لتدمجها في مجال تصميم معايير الاتصال الشبكي، وتمكنت بنجاح من تقديم حلٍ يوّفر آلية تحكم أفضل بالاحتقانات فضلاً عن امتلاكه لأساس رياضي متين يسمح باستخدامه على نطاقٍ أكبر. 

تم استخدام بعض الطرق والمفاهيم التي طورتها دينا القتابي في تجهيزات شركة سيسكو الشهيرة من أجل تحسين كفاءة عملية إرسال وتبادل البيانات والتحكم في الاحتقانات الشبكية، وبذلك جلبت القتابي لنفسها شهرةً كبيرة بفضل الأثر الذي تركته الطرق التي قامت بتطويرها، وهو ما دفع البروفيسور دافيد كلارك للقول بأنه أصبح من الصعب نشر بحثٍ جديد بهذا المجال من دون الاستعانة بالطرق التحليلية التي قدمتها دينا القتابي. 

وبعد إنهائها درجة الدكتوراه، انضمت لتعمل في جامعة إم آي تي، وشكلت مجموعةً بحثية خاصة بها لتتابع أعمالها المتعلقة بتطوير تقنيات الاتصال الشبكي. إحدى القضايا الكبيرة في تلك الفترة كانت نظرية الترميز الشبكي التي توفر طريقةً مُختلفة لكيفية تبادل حزم المعلومات ضمن شبكة اتصالات. تمكن أعضاء الفريق البحثيّ الخاص بدينا القتابي من تطوير إثباتٍ رياضيّ أنيق يؤكد أن استخدام نظرية الترميز الشبكي سيؤدي لزيادة سعة بيانات الشبكة، لتقوم بعد ذلك القتابي بإجراء أول تنفيذٍ على أرض الواقع لشبكةٍ تعتمد على نظرية الترميز الشبكيّ، وقد أظهرت أن المعايير والطرق التي طورتها مع فريقها البحثيّ قادرة على زيادة سعة بيانات الشبكة بمُعدل 3 مرات. 

عملت القتابي بعد ذلك على تسويق نجاح أعمالها الأكاديمية، ولذلك قامت مع أحد طلابها بتأسيس شركة كود أون سنة 2011، التي تعاونت مع 8 شركاتٍ أخرى في مجال الاتصالات اللاسلكية للبدء بتوفير البنى التحتية التي تتيح للمستخدمين الاستفادة من إيجابيات الترميز الشبكي. 

بدأت القتابي بعد ذلك بالاهتمام بمجال جديدٍ في علوم الاتصالات، وهو: الإشارات الكهرومغناطيسية، وبدأ ذلك مع عملها البارز المرتبط بتحويل فورييه الشهير. يُعتبر تحويل فورييه إحدى ركائز علم معالجة الإشارة، وهو يقوم على مبدأ بسيط مفاده أنه يمكن فهم أي إشارةٍ في الطبيعة على أنها تركيب معقدٌ من إشاراتٍ أخرى تمتلك تردداتٍ مختلفة. قامت القتابي وأحد طلابها في البداية بالعمل على مشكلة فصل إشاراتٍ ذات تردداتٍ مختلفة ومجهولة، وفي حين أنهم تمكنوا من إنجاز ذلك عبر تطوير خوارزمية رياضية عالية الكفاءة، إلا أنهم لاحظوا أن بإمكانهم أيضاً إجراء أمرٍ آخر ذي أهميةٍ أكبر، وهو تسريع التنفيذ الحاسوبي لتحويل فورييه، وهكذا تمكنوا سنة 2012 من تقديم خوارزميةٍ جديدة تساهم بتسريع حساب تحويل فورييه ولأول مرة منذ ستينيات القرن الماضي، وهو الإنجاز الذي تم إدراجه على لائحة مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو كأحد أهم 10 إنجازات علمية في ذلك العام.

وبعد العمل في مجال تحسين حساب تحويل فورييه، بدأت القتابي بالبحث في مجالٍ جديد ولكنه متصل بالإشارات الكهرومغناطيسية، فبدلاً من التركيز على كيفية انتقال البيانات عبر الإشارات اللاسلكية، انصب تركيزها نحو اتجاهٍ يتمحور حول سؤالٍ بسيط: كيف تتفاعل الإشارات اللاسلكية والأمواج الكهرومغناطيسية مع الأشخاص؟ نتج عن هذا الأمر ابتكار القتابي وفريقها البحثيّ الذي تضمن أيضاً الباحث فاضل أديب لجهازٍ يتيح مشاهدة الأشخاص خلف الجدران عبر الاعتماد على إشاراتٍ راديوية ذات شدةٍ منخفضة وطرق تعلم الآلة.

بعد تحقيق الإنجاز الأوليّ المتمثل في القدرة على الكشف عن تواجد أشخاص بالاعتماد فقط على إرسال واستقبال الإشارات اللاسلكية، تم الانتقال إلى الخطوة التالية، وهي فهم كيفية تفاعل هذه الإشارات مع جسم الإنسان بغرض تحديد بعض الخصائص الحيوية مثل التنفس ونبض القلب وحالة النوم، دون الحاجة لارتداء الفرد لأي جهازٍ محمول، فقط عبر تعرضه لإشاراتٍ لاسلكية من جهازٍ متوضعٍ في غرفةٍ أخرى. واستكمالاً لهذا الإنجاز، تمكنت القتابي وفريقها لاحقاً من إضافة ميزةٍ جديدة متمثلة في القدرة على تعقب حركة الشخص في الغرفة بدقةٍ عالية وفقط عبر استخدام جهاز إرسال إشاراتٍ لاسلكية متوضعٍ في غرفةٍ مجاورة، دون الحاجة إلى استخدام أي حساسات تعقبٍ أخرى، وهي التقنية التي تم تسميتها وي تراك WiTrack

كشفت القتابي عن أمورٍ لم تخطر على البال من قبل، وهي القدرة على استخلاص العديد من المعلومات المتعلقة بجسم الإنسان باستخدام الإشارات اللاسلكية المتواجدة حولنا في كل الأوقات، وبما أنها أثبتت إمكانية مراقبة بعض الخصائص الحيوية كالنبض والتنفس، فهل ستكون هذه الإشارات قادرة على تزويدنا بمعلوماتٍ أخرى حول الإنسان، مثل مشاعره وحالته النفسية؟ كان الجواب: نعم؛ إذ تابعت القتابي مع فريقها الذي ضم أيضاً الباحث اللبناني فاضل أديب العملَ على هذه الفكرة، وتمكنوا عبر تحليلٍ دقيق للإشارات اللاسلكية المرتدة عن جسم الإنسان من انتزاع بياناتٍ مرتبطة بالمشاعر والحالة النفسية، وعبر تطويرهم لنظام تعلم آلة يقوم بتصنيف هذه الإشارات، تمكنوا وبدقةٍ عالية من معرفة ما إذا كان الفرد الخاضع للتجربة سعيداً، أو حزيناً أو غاضباً. 

جلبت هذه الإنجازات شهرةً إضافية للقتابي، وعملت بعد ذلك على إطلاق شركةٍ أخرى لتسويق هذه الأبحاث وجلبها لمجال التطبيق التجاريّ، وهي شركة إيميرالد المختصة بتطوير تقنياتٍ وحلولٍ في مجال الطب والرعاية الصحية، مثل مراقبة الإشارات الحيوية الهامة في جسم الإنسان خصوصاً عند الكبار في السن والأطفال. وتم دعوة القتابي وباقي فريقها البحثيّ المساهم في إنشاء شركة إيميرالد لعرض تقنياتهم في البيت الأبيض سنة 2015 وبحضورٍ مباشر من الرئيس الأميركي باراك أوباما. 

استكملت دينا قتابي أبحاثها في مجال تفاعل الإشارات اللاسلكية مع جسم الإنسان لتُطلق مشروعاً جديداً تم تسميته آر إف بوز RF-Pose، الذي تتلخص أهدافه في القدرة على تحديد وضعية الجسم أثناء الحركة وما إذا كان منتصباً أو منحنياً وقياس مدى انحنائه، وذلك بالاعتماد فقط على الإشارات اللاسلكية المرتدة عن الجسم بعد تحليلها باستخدام طرق الذكاء الاصطناعي والشبكات العصبونية العميقة، دون إغفال نقطةٍ هامة تتعلق بهذه التقنية، وهي قدرتها على تحديد وضعية الجسم لشخص متواجدٍ في الغرفة المجاورة. 

في آخر المشاريع والإنجازات المرتبطة بتفاعل الإشارات اللاسلكية مع جسم الإنسان، كشفت القتابي وفريقها البحثيّ سنة 2018 عن مشروع ريميكس ReMIX الذي يهدف لإنشاء نظام تعقب مشابه لنظام تحديد المواقع العالمي، ولكن ليتم استخدامه في جسم الإنسان. الفكرة من المشروع هي تأمين وسيلةٍ للتحديد الدقيق لمواقع الأجهزة المزروعة في جسم الإنسان وذلك عبر الاستفادة من الخوارزميات والطرق التحليلية التي تم تطويرها سابقاً. كان التحدي البارز هنا هو ضعف الإشارات الناتجة عن الجهاز المراد تعقبه داخل الجسم؛ إذ إن جلد الإنسان قادر على تشتيت الإشارات اللاسلكية بمعدلٍ أكبر بحوالي مئة مليون مرة من الجهاز الذي استخدمته القتابي وفريقها في تجاربهم على نظام ريميكس، وهو ما دفعهم لتطوير آليةٍ تتيح استخلاص الإشارة المرتدة عن الجهاز المزروع وعزلها عن بقية الإشارات المرتدة الأخرى. بهذه الطريقة -وعبر إتاحة التعقب الدقيق للأجهزة أو العلامات الحيوية داخل الجسم- سيكون بالإمكان استثمار هذه التقنية في مجالاتٍ كثيرة مثل العقاقير الموجهة داخل الجسم أو في مجال علاج الأورام. 

جوائز وتكريمات
حصلت دينا القتابي خلال مسيرتها على أرفع الجوائز والتكريمات الأكاديمية الممكنة، التي تتضمن: 

  • جائزة الجمعية الأميركية للآلات الحاسوبية ACM في مجال علوم الحاسب، 2017
  • جائزة أفضل ورقة بحثية في مؤتمر سيجكوم، 2016
  • جائزة جيروم سالتزر للتدريس، 2015
  • زمالة الجمعية الأميركية للآلات الحاسوبية ACM، 2014
  • جائزة تيست أوف تايم في مؤتمر سيجكوم، 2014
  • اختيار بحثها في مجال الإبصار عبر الجدران باستخدام الإشارات اللاسلكية كواحدة من 50 طريقة ساهمت فيها جامعة إم آي تي بتغيير مجال علوم الحاسب، 2014
  • زمالة ومنحة هيئة ماك آثر المعروفة باسم جائزة العباقرة، 2013
  • جائزة أفضل ورقة بحثية في مؤتمر سيجكوم، 2011
  • جائزة ويليام ر. بينيت من جمعية علوم الاتصالات التابعة لمعهد آي تربل إي IEEE، 2009
  • جائزة الأخصائي اليافع، 2008
  • جائزة الهيئة الوطنية للعلوم عن السيرة المهنية، 2005
  • جائزة أفضل ورقة بحثية لطالب من مؤتمر سيجكوم والجمعية الأميركية للآلات الحاسوبية، 2000

المحتوى محمي