تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في مكافحة انتشار فيروس كورونا المُستجد (المعروف علمياً باسم كوفيد-19) بما تشتمل عليه من قدراتٍ سريعة في التعرف على المصابين والمساهمة في عزلهم سريعاً، فضلاً عن القدرة على تأمين سبل للحد من التواصل والاحتكاك بين البشر، وذلك عبر استخدام الروبوتات والطائرات المسيرة سواء في خدمات التوصيل أو في تنفيذ عمليات التعقيم والتشخيص، أو في دورها بفهم كيفية نشوء المرض وآلية ظهور طفرات جديدة من الفيروس وانتشارها.
الروبوتات والطائرات المسيرة
عملت عدة شركات صينية على تطوير تقنياتٍ تُسهم في تنفيذ عمليات توصيل المواد والطعام وتنفيذ إجراءات التعقيم في المستشفيات والطرقات والأماكن العامة فضلاً عن القيام بعمليات التشخيص الأساسية التي تُسهم في تحديد المرضى المحتملين والتعرف عليهم سريعاً، وذلك كله عبر استخدام روبوتاتٍ متنوعة معززة بتقنياتٍ مختلفة تمكنها من تنفيذ هذه المهام.
على سبيل المثال، تم استثمار الشركات العاملة في مجال تطوير روبوتات تخديم الطعام من أجل استخدامها في المستشفيات لتقليل الاحتكاك والتواصل بين الطاقم الطبي والأفراد بما يُسهم في تعزيز جهود عزل الفيروس والحد من انتشاره. إحدى أشهر الشركات بهذا السياق هي بودو تكنولوجي Pudu Technology من مدينة شينزين Shenzhen التي تم استخدام أنظمتها الروبوتية في تخديم الطعام لدعم الطواقم الطبية في أكثر من 40 مستشفى مختلفاً حول الصين. كذلك الأمر بالنسبة لشركة مايكرو ملتي كوبتر MicroMultiCopter من مدينة شينزين، المختصة بتطوير الطائرات المسيرة الخدمية؛ حيث تم استخدام تقنياتها من أجل نقل العينات الطبية وإجراء عمليات التصوير الحراريّ للمرضى.
الذكاء الاصطناعيّ والبيانات الكبيرة والإنترنت
لا يقتصر دور التقنية على تزويد هيئات الرعاية الصحية بطرقٍ توفّر تنفيذ الإجراءات اللازمة للحد من انتشار المرض بطرقٍ غير تلامسية، بل يمتد أيضاً لاستخدام البرمجيات المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعيّ في عمليات التشخيص الذكيّ وتسريع الجهود الرامية لتطوير عقارٍ أو لقاحٍ للفيروس الجديد. وتعتمد الصين في هذا المجال على حشد كافة القدرات التي تمتلكها ضمن نظام المراقبة المعقد الخاص بها والمنتشر في كافة أنحاء البلاد، بما يعزز التعرّف السريع على الأشخاص المُصابين وعزلهم عن محيطهم، وذلك عبر استثمار تقنيات التعرّف على الوجوه التي تهدف لمعرفة الأشخاص الذين يعانون من حُمى مرضية، وكذلك الأشخاص الذين يخالفون بعض الشروط الصحية مثل ضرورة ارتداء الأقنعة الواقية.
ويبرز اسم شركة علي بابا Alibaba الشهيرة بهذا الخصوص، فقد صرّحت الشركة بأنها طوّرت نظام تشخيصٍ لفيروس كورونا اعتماداً على تقنيات الذكاء الاصطناعيّ الذي يمتلك نسبة تعرّف صحيحة تصل حتى 96%، كما أعلنت الشركة على لسان رئيسها التنفيذيّ جاك ما عن تبرعٍ بقدر 2.15 مليون دولار أميركي لدعم الجهود الرّامية لإيجاد لقاح ضد فيروس كورونا المستجد.
وبالإضافة لشركة علي بابا، فإن شركة سينس تايم SenseTime، إحدى الشركات الصينية الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعيّ، تقوم باستخدام تقنياتها الخاصة بمجال الكشف الحراري غير التلامسي في محطات وشبكات قطارات الأنفاق وكذلك في المدارس والمراكز الاجتماعية المختلفة بعدة مدن صينية، مثل العاصمة بيجينج وعاصمة التقنية شينزين والمدينة الاقتصادية الضخمة شنغهاي. وبحسب الشركة، فإن تقنياتها قادرة على كشف المصابين المحتملين حتى عند ارتدائهم لأقنعة، وبدرجة دقة مرتفعة جداً.
وعلى الرّغم من الدور الكبير الذي تلعبه كاميرات المراقبة في الكشف عن المرضى، إلا أنها تعاني من مشكلةٍ أساسية تتمحور حول كونها ثابتة؛ أي أن قدرة برمجيات الذكاء الاصطناعيّ التي تقوم بكشف المصابين اعتماداً على صور كاميرات المراقبة ستعتمد بشكلٍ كبير على جودة الصور وزاوية التقاطها، وهذا يعني أن هذه الكاميرات ستعاني قصوراً في قدرتها على كشف وتحديد المُصابين. وهنا يأتي الدور على نمطٍ آخر من تقنيات المراقبة، وهي الخوذ المزودة بكاميراتٍ ذكية تستطيع إجراء عمليات التعرف على الوجوه والفحص الحراريّ للمارة. يستطيع رجال الشرطة والإطفاء ارتداء هذه الخوذ الذكية، وقد تم تطبيق استخدامها بالفعل في مدينة شينج دو الصينية، وأثبتت فعالية كبيرة في مجال قياس درجة حرارة المارة بفضل مجالها الواسع الذي يُشكل دائرة يصل قطرها حتى 5 أمتار، وتعمل على إصدار تنبيهٍ صوتيّ في حال اكتشاف أي شخصٍ يُشتبه في إصابته بفيروس كورونا.
الاعتماد فقط على الإجراءات الحكومية قد يكون غير كافٍ لمواجهة الانتشار السريع لفيروس كورونا، وهذا يعني أن عملية مكافحة انتشار الفيروس واحتوائه تتطلب جهداً تشاركياً وتعاونياً من قِبل المواطنين أيضاً، ولذلك قامت الحكومة الصينية بإطلاق تطبيقٍ للهواتف الذكية يُدعى "كاشف الاتصال الوثيق"، يسمح للناس بالتحقق من احتمال إصابتهم بفيروس كورونا عبر إخبارهم بما إذا كانوا قريبين من شخصٍ آخر مصاب بالفيروس أم لا. القدرة على التنبؤ تعتمد على البيانات التي تمتلكها الحكومة الصينية، والتي يتم جمعها من الدوائر والهيئات الصحية الرسمية، وعبر خاصية التعرف على المكان الجغرافي للمستخدم ومسح الأشخاص المحيطين به ومقارنة هذه المعلومات مع قاعدة البيانات التي تتضمن معلوماتٍ أكيدة حول الأشخاص المصابين، سيستطيع إخبار المستخدم احتمالية إصابته بالفيروس.
ومن الجهود الأخرى المبذولة أيضاً في هذا المجال هو قيام شركة أنت فايننشال بإطلاق تطبيقٍ يُدعى علي باي هيلث كود Alipay Health Code، الذي يقوم بوسم الأفراد بثلاثة ألوان: الأحمر والبرتقاليّ والأخضر، وذلك بحسب درجة إصابتهم بالمرض وما إذا كان ممكناً خروجُهم للأماكن العامة أو أن من الواجب بقاءهم ضمن الحجر الصحيّ في المنزل. انتشر استخدام هذا التطبيق بشكلٍ كبير وهو الآن مستخدم في أكثر من 200 مدينة صينية مختلفة.
كشف وعزل المصابين ليس كل شيء: دور البيانات في فهم نشوء الفيروس وانتشاره
لا يقتصر دور الذكاء الاصطناعيّ والتعلم الآليّ على كشف المصابين والمساهمة في عزلهم، بل يمتد أيضاً لفهم آليات انتشار المرض وتوسّعه وانتشاره عبر استثمار البيانات الكبيرة Big Data، وهنا يبرز اسم شركة بلو دوت Blue Dot الكندية، التي حققت لنفسها سمعةً وشهرةً كبيرة كأول جهة تطلق تحذيراً يتعلق بفيروس كورونا المستجد، وذلك قبل أن تقوم منظمة الصحة العالمية بإطلاق تحذيرها حول المرض بتسعة أيام. فكيف تمكنت هذه الشركة الناشئة من ذلك والتنبؤ باحتمالية نشوء ظهور نوع جديد من أنواع فيروسات كورونا؟
عبر استثمار تقنيات التعلم الآلي ومعالجة اللغات الطبيعية Natural Language Processing من أجل التنقيب ضمن كميةٍ كبيرةٍ جداً من البيانات من مصادر متعددة ومتنوعة، التي تتضمن التصريحات الرسمية التابعة للمنظمات والهيئات الصحية الحكومية ووسائط الإعلام والبيانات الديموغرافية المتعلقة بالسكان، وحتى البيانات المتعلقة بنظام حجوزات السفر. ووظيفة برمجيات الذكاء الاصطناعيّ بهذه المرحلة هي البحث عن احتمال ظهور مرض أو فيروس ما اعتماداً على هذه البيانات، ومن ثم يتم عرض نتائج عمل هذه الخوارزميات على مجموعةٍ من الأخصائيين والأطباء ومهندسي الحواسيب لتحديد ما إذا كان هنالك ترابط منطقي بين نتائج عمل الخوارزميات والواقع الصحي في المنطقة التي يتم البحث ضمنها.
ولم تقتصر مساعدة خوارزميات بلو دوت على التنبؤ بالمرض فحسب، بل أيضاً ساعدت في تحديد المدن التي تمتلك أرجحيةً كبيرة لتظهر فيه بعد مدينة ووهان الصينية، وذلك اعتماداً على تحليل بيانات نظام حجوزات السفر من وإلى المدينة، وبناءً على ذلك تمكنت الخوارزمية من بناء توقعٍ صحيح حول 9 مدن أصبحت من البؤر الكبيرة لانتشار فيروس كورونا.
لا تنتهي إمكانيات الذكاء الاصطناعيّ في مكافحة انتشار فيروس كورونا عند هذا الحد، بل تمتد أيضاً لتحسين عمليات التشخيص الدقيق للمرضى التي تعتمد على استخدام تقنية التصوير الطبقي المحوريّ CT-Scan، حيث توفّر هذه الأجهزة صوراً شعاعية للأعضاء الداخلية للجسم، وبدقةٍ عالية، تساعد في معرفة ما إذا كان هنالك بالفعل إصابة أو لا، وذلك بدلاً من الاعتماد فقط على المؤشرات الحيوية مثل درجة الحرارة أو الحمى، التي تكون عادةً مصاحبة لأمراضٍ معروفة مثل الرشح. المشكلة أن عملية التصوير ومعالجة الصور وبناء تشخيص اعتماداً عليها تتطلب وقتاً طويلاً من الأخصائيين، ولذلك قام مجموعةٌ من الأخصائيين في مستشفى رين مين التابع لجامعة ووهان وشركة إندو آنجل EndoAngel للتقنيات الطبية في ووهان بالعمل على تطوير تقنيةٍ تعتمد على تقنيات التعلم العميق Deep Learning من أجل الكشف السريع على فيروس كورونا المستجد اعتماداً على صور أجهزة التصوير الطبقي المحوريّ، وأعلنوا عن تمكنهم من تحقيق دقةٍ تبلغ 95% في مجال التعرف والكشف مع إمكانية تسريع عمليات التشخيص بنسبة تبلغ 65%.
نمطٌ آخر من المعلومات يمكن أن يُستخدم بشكلٍ فعال من أجل تعقب الفيروس وتحديد مصدره والتنبؤ بكيفية انتشاره، بل حتى فهم السبب وراء فشل بعض الجهود المتعلقة باحتوائه، هذا النمط هو: البيانات والمعلومات الجينية، وبحسب البيانات التي يتيحها موقع نيكست سكرين، تبين عبر تحليل الشفرة الوراثية الخاصة بالفيروس كيف أنه لا يوجد نمط واحد من الفيروس بل تطور ليصبح له نسخٌ متعددة، كما أن الكشف عن حالةٍ في البرازيل عبر مصابٍ قادمٍ من إيطاليا شكلت أولى المعلومات التي أشارت إلى احتمالية نشوء بؤرةٍ كبيرة هناك، وكذلك الأمر بالنسبة للحالة الأولى التي تم اكتشافها في ألمانيا؛ فدراسة الشيفرة الجينية الخاصة بهذه الحالات تُظهر أن جهود احتواء الفيروس بشكلها الحاليّ قد لا تكون كافية بسبب ظهور طفراتٍ جديدة منه تنتشر بين البشر وتتطلب بعض الوقت حتى تظهر بشكلٍ فعليّ، وخلال هذا الوقت قد يكون الشخص المصاب قد تنقّل وسافر ونقل العدوى للعديدين دون أن يلحظ أحد أي شيء.
هل سيتم القضاء على كورونا قريباً؟
على الرّغم من الضخ الهائل للتقنيات المتقدمة ضمن إطار الجهود الرامية لمكافحة الفيروس، وذلك بدءاً من الروبوتات مروراً بالدرونز وأنظمة المراقبة الذكية انتهاءً ببرمجيات الذكاء الاصطناعيّ وتحليل المعلومات الوراثية، إلا أنه لا يبدو أن السيطرة الكاملة على الوباء ستحصل بالمدى المنظور، خصوصاً مع غياب أي لقاحٍ أو دواءٍ فعال يمكن استخدامه ضد الفيروس، علاوةً على ظهور طفراتٍ وأشكال جديدة منه. وبالرّغم من ذلك، يجب الإشادة بالدور الجبار الذي لعبته التقنية في كشف المصابين وعزلهم وتوفير ظروفٍ صحية عقيمة تساعد على شفاء المرضى، وما يصعب تخيّله هو كيف كان سيكون عليه الوضع بغياب هذه التقنيات وبغياب هذه الوسائل.