في عالم يزداد فيه عدم اليقين كل يوم بسبب الانتشار المتسارع لفيروس كورونا المستجد، وجدت الدول والحكومات نفسها في مواجهة غير متوقعة مع تحديات لم تستعد لها ولم تتخيل حدوثها. ولعل أبرز هذه التحديات هو إغلاق المدارس والجامعات وضرورة إبقاء الطلاب في منازلهم، والحاجة الماسة إلى تطوير تقنيات عاجلة للتعلم عن بعد، لمواكبة الزيادة المفاجئة والإجبارية في الطلاب والمعلمين الذين اتجهوا إلى هذا النوع من التعليم.
ومن هذا المنطلق، نشرت مؤسسة دبي للمستقبل تقريراً تحت عنوان «الحياة بعد كوفيد-19: مستقبل التعليم» عرضت فيه ملامح التوجه الدولي نحو مفهوم التعلم عن بعد بشكل عام، والحلول التعليمية والإجراءات الاستباقية التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة للحد من آثار تفشي مرض كوفيد-19 على قطاع التعليم بشكل خاص.
أوضاع تعليمية عسيرة
وفقاً لأحدث الإحصائيات التي نشرها معهد اليونسكو للإحصاء، فقد تأثر نحو مليار و576 مليون طالب حول العالم بعمليات الإغلاق الكلي أو الجزئي التي نفذتها 188 دولة، أي ما يقرب من 91.3% من إجمالي عدد الطلاب في العالم، وذلك حتى الأمس الموافق 8 أبريل.
تُظهر هذه الأرقام مدى فداحة الأزمة الحالية، لا سيما وأن العديد من الدول لا تتمتع ببنية تحتية قادرة على التكيف مع متطلبات التعلم عن بعد، بما في ذلك بعض الدول المتقدمة؛ ففي الولايات المتحدة مثلاً، وعلى الرغم من التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به، بلغ عدد الطلاب الجامعيين الذين درسوا بشكل كامل عبر الإنترنت في 2019 نحو 2.4 مليون طالب أي حوالي 15% فقط من إجمالي عدد الطلاب، بالإضافة إلى تسجيل 3.6 مليون طالب في أحد الدورات التي تُدرس على الإنترنت بجانب دراستهم في الحرم الجامعي، وذلك وفقاً لدراسة نشرتها شركة الأبحاث والاستشارات (Eduventures).
وبالتالي، فإن الغالبية العظمى من الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة لا يزالون يعتمدون بشكل حصري على وسائل التعليم التقليدية. علاوة على ذلك، فمن بين حوالي 1.5 مليون مُدرس في البلاد، لم يقم 70% منهم أبداً بتدريس أي دورات على الإنترنت من قبل.
هل يصبح الفيروس "بجعة سوداء"؟
على الرغم من ذلك، يشير تقرير مؤسسة دبي للمستقبل إلى أن المرحلة الحالية التي يمر بها العالم قد تمثل فرصة لتطوير منصات للتعلم عن بعد على المدى الطويل، مرجحاً أن تصبح أنظمة التعلم عن بعد أكثر تخصيصاً في المستقبل، وأن تركز على الاحتياجات والاهتمامات المحددة لكل طالب.
ويتفق العديد من المحللين مع توقعات التقرير، مشيرين إلى أن هذا الوباء قد يمثل "البجعة السوداء" للتعلم عن بعد؛ أي نقطة التحول المحتملة للاعتماد على أدوات أخرى للتعليم باستخدام التكنولوجيا التي لم تتلقّ حافزاً مثل هذا خلال السنوات الماضية. وهو أمر حدث في الصين سابقاً وعلى نطاق أصغر، عندما حاول المعلمون التكيفَ مع استخدام التكنولوجيا في العملية التعليمية أثناء تفشي مرض أنفلونزا الطيور، كما حدث في المكسيك عندما تم إغلاق المدارس عام 2009 أثناء تفشي فيروس أنفلونزا الخنازير (H1N1).
وأشار التقرير إلى إعلان منظمة اليونسكو عبر موقعها الإلكتروني عن مجموعة من الحلول التعليمية والمنصات، التي تساعد الآباء والمعلمين والمدارس على تعليم الطلاب عن بعد وتوفير الرعاية الاجتماعية والتفاعل خلال فترة إغلاق المدارس. كما منحت منصات عالمية أخرى (مثل كورسيرا) الجامعات في الدول المتأثرة بالجائحة إمكانية استخدام محتوياتها مجاناً.
كذلك ظهرت مبادرات مختلفة للشراكة بين القطاعين العام والخاص، في عدد من الدول، لضمان وصول الطلاب إلى منصات التعلم الإلكتروني. ومن بين هذه المبادرات إتاحة بعض مزودي الإنترنت في الولايات المتحدة -مثل (Comcast) و(Cox Communications)- إمكانيةَ الوصول إلى الإنترنت لمدة 30 يوماً أو أكثر مجاناً للعائلات ذات الدخل المنخفض التي لديها أي طالب في أي مرحلة دراسية.
مبادرات إماراتية سباقة
يشير التقرير إلى أن دولة الإمارات كانت سبّاقة في اتخاذ إجراءات سريعة لمنع تفشي كوفيد-19، فعلى مستوى قطاع التعليم، علّقت الدولة الدراسة في المدارس والجامعات لمنع تجمعات الطلاب، كما نظمت برنامجاً لتعقيم المدارس والجامعات ووسائل نقل الطلاب، وأعلنت عن بدء مرحلة التعلم عن بعد للطلاب بعد انتهاء إجازة الربيع لمتابعة العام الدراسي.
كما أطلقت هيئة المعرفة والتنمية البشرية منصة "دبي صف واحد" لتكون مصدراً يدعم مجتمع التعليم في الحصول على أقصى فائدة من التعليم عبر الإنترنت والتعلم عن بعد.
وأوضح أن الإمارات لديها فرصة حالياً لتصبح مركزاً إقليمياً للتعلم عن بعد في المنطقة، مشيراً إلى أنه من المتوقع أن يصل حجم سوق تقنيات التعليم في دولة الإمارات إلى 40 مليار دولار بحلول عام 2022.
بالإضافة إلى ذلك، اعتبر التقرير أن الوضع الراهن يُقدم للحكومة فرصة لتسخير خبراتها من أجل تطوير منصات للتعلم عن بعد على المدى الطويل، لا سيما بعدما تمكنت خلال أيام معدودة من ابتكار طرق مبتكرة لضمان سلاسة الانتقال من التعليم التقليدي إلى التعلم عن بعد. وأشار إلى أن هذا الأمر كان من المفترض أن يستغرق أعواماً من التخطيط في الظروف العادية، إلا أن سرعة تفشي الفيروس حفزت تسريع هذه الجهود.
حل دائم أم أداة مؤقتة؟
يواجه مستقبل التعلم عن بعد العديدَ من التحديات والعقبات، التي تتمثل بشكل رئيسي في وجود ملايين الطلاب غير القادرين على الوصول إلى اتصال ثابت بالإنترنت، والإعاقات الجسدية والذهنية التي قد تمنع الكثيرين من استخدام منصات التعلم عن بعد بنفس كفاءة التعلم وجهاً لوجه. بيد أن التقرير يتوقع أن يؤدي الفيروس على المدى القصير إلى مسارعة الحكومات حول العالم من أجل إقرار لوائح تنظيمية ومنصات جديدة لاستيعاب الطلب المرتفع على التعلم عن بعد، وبدء الهيئات التنظيمية في قطاع التعليم بإجراء تغييرات تحولية في التعليم التقليدي عبر تطوير حلول مبتكرة تشمل تدريب الآباء على التدريس، لتغيير الأنظمة بصورة استباقية بدلًاً من الاستجابة للظروف غير المتوقعة.
وبيّن التقرير أن زيادة الاعتماد على أنظمة التعلم خارج الفصول الدراسية ستُسهم على المدى الطويل في تعزيز مشاركة الطلاب وأسرهم في تصميم أدوات التعلم ومناهج التدريس، وستستفيد الشركات الناشئة في مجال تقنيات التعليم نتيجةً لتوجه أعداد كبيرة من الطلاب إلى التعلم عبر الإنترنت، وفي الوقت ذاته ستتغير الرسوم المستحقة للمدارس ومطوري البرامج ومقدمي المناهج الدراسية عبر الإنترنت كثيراً، خاصة في النظم التعليمية التي تدفع فيها الأسر الرسوم المدرسية، وقد تحتاج المدارس إلى مساحة أقل حين تستخدم أفواج الطلاب مرافق المدرسة بنظام التناوب.
وأخيراً، يمكن القول إن التوجه نحو أدوات التعلم عن بعد أصبح ضرورة في الوقت الراهن، وربما تكون الاضطرابات العالمية كالأوبئة والتغيرات المناخية حوافز لنا للمسارعة في تغيير خططنا التعليمية، والاعتراف بجدارة التعلم عن بعد والمؤهلات التي يُمكن اكتسابها باستخدام منصات التعليم الإلكترونية.