مع انتشار فيروس كورونا، نمضي عزلتنا إما بالتواصل مع بعضنا البعض على تطبيقات المحادثة، أو نشاهد الآخرين عبر قنوات البث المباشر، أو من خلال الفيديوهات التي يشاركنا بها الأصدقاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن ماذا لو كان بإمكاننا ارتداء نظارات الواقع المعزز، لنستخدمها في محاكاة التجوّل في الشوارع أو نذهب إلى المحاكاة الرقمية للشركة التي نعمل فيها، فنجد هناك المحاكاة رقمية لزملائنا.
ثمة حائط ضخم شيّده فيروس كورونا أمام واقعنا، فممنوع التجول خارج المنزل إلا لأسبابٍ ضرورية جداً، وممنوع علينا لقاء الأصدقاء أو الأقارب، وممنوع لمس أي شيء دون قفازات. فعلى الرغم من أن الإنترنت أضفت شيئاً من المرح على عزلتنا إلا أن ما أضافته ليس كافياً، فهو لا ينقلنا إلى أماكن أخرى كي نرفّه عن أنفسنا.
من يعلم كم سيدوم الحجر المنزلي، ربما أسابيع أو أشهر، وبما أن الوباء يصيب يومياً آلاف الأشخاص ويحصد في كل ساعة المزيد من الأرواح، فإن العزل والابتعاد الاجتماعي سيستمران. ما اقترفته جائحة كورونا يكاد يطيح بالعجلة الاقتصادية لمعظم دول العالم، وقد يُجهز على مستقبل 430 مليون طالب يعجزون عن الذهاب إلى المدارس والجامعات لاستكمال دراستهم.
إذن ما العمل لتخطي عقبات الواقع المستجد بسبب كورونا؟ وكيف يمكن للموظفين أن يعودوا إلى مكاتبهم الواقعية؟ وما الوسيلة التي تتيح للشركات أن تنجز أعمالها بشكل طبيعي، أو لمدير الشركة أن يلتقي الموظفين بشكل مباشر دون الحاجة إلى استخدام تطبيقات "سكايب" أو "زوم"؟ وهل من الممكن للمعزولين في منازلهم أن يشاهدوا ويتنقلوا في العالم الخارجي بأبعاده الفيزيائية والحيوية الحقيقية؟
ما هي تقنية مرآة العالم؟
ما زالت تقنية المحاكاة الرقمية "مرآة العالم" في بدايتها التكنولوجية، مع العلم أن في حال الاستثمار بها، ستنتقل البشرية إلى واقع رقمي يحاكي الواقع الحقيقي. عندما نبحث عبر محركات البحث عن التجارب التطبيقية لمرآة العالم فلن نجد الكثير من المعطيات، سوى نماذج قليلة مثل موقع "google earth"، و"Microsoft virtual earth"، ولعبة "بوكيمون جو" التي حققت نجاحاً باهراً بعدما استضافت اللاعبين في بيئة واقعية، فكل هذه المنصات تندرج ضمن المشاريع التطبيقية لنظرية مرآة العالم.
قبل ثلاثة عقود، قال البروفيسور في علوم الحوسبة التطبيقية ديفيد جلرنتر: "إن عملية تخطي عقبات الواقع الفعلي، تتطلب بناء محاكاة رقمية موازية له". يُعد ديفيد جلرنتر الأب الروحي لنظرية الواقع المعزز، في عام 1991 دوّن جلرنتر كتاب "مرايا العالم"، وقال عن عمله المدوّن إنه ليس كتاباً في الخيال العلمي، بل كتاب يحاكي واقعاً حقيقياً يجب تأسيسه في يوم من الأيام عبر البرامج الذكية. لقد زيّن جلرنتر كتابه بعنوان: "اليوم الذي تقوم فيه أنظمة التشغيل الذكية بوضع الكون في صندوق صغير... كيف يمكن أن تحدث هذه الخطوة، وماذا تعني".
عندما تحدث جلرنتر عن مرآة العالم، لم يكن الواقع المعزز موجوداً، وكانت كمية البيانات الرقمية قليلة جداً. يستهل الكاتب افتتاحية كتابه بسيناريو يشبه إلى حد كبير الواقع الذي نعيشه حالياً نتيجة فيروس كورونا.
تدور أجواء الكتاب بأكملها حول فرضية وجود شخص يجلس في بيته ويمتلك فقط حاسوباً ويريد اكتشاف ما يحدث في الخارج، ولكنه ممنوع من الخروج من المنزل. إذن، كيف لشخص مسترخٍ على الأريكة في غرفة الجلوس أن يكتشف الأماكن وما يحدث فيها من أحداث ووقائع، وأن يعيش داخل إطارها الفيزيائي والزماني؟
يقوم مشروع "مرآة العالم" على بناء نُسخ رقمية لكل شيء على كوكب الأرض، ويمكن الدخول إليها من خلال نظارات الواقع المعزز. تنطوي فكرة "مرآة العالم" على رؤية مستقبلية لصنع محاكاة رقمية لكل أجزاء العالم الحقيقي الموجود خارج المنزل الذي يمكث فيه الشخص، ومن خلال نظارات الواقع المعزز يصبح الشخص قادراً على الدخول إلى جميع الأماكن بواقعيتها وتفاصيلها وأبعادها وزواياها كافة دون أن يغادر المنزل.
بحسب جلرنتر، فخارج المنزل الذي يسكنه الشخص تتدفق كمية هائلة من المعلومات، التي يمكن الاستفادة منها في بناء محاكاة رقمية يتم تحديثها كل ثانية، عبر برامج مفتوحة المصدر تواكب الحركة البشرية والتفاصيل العمرانية، والحيثية الجغرافية والزمنية والحيوية للمدن والمنازل والطرقات والشركات والأشخاص والمتاجر والموانئ، والبحار والجبال، بالإضافة إلى دمج وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية داخل البيئة التي يوفرها الواقع المعزز.
إن أهمية الاستثمار في الواقع المعزز تكمن في أنه يمهد الطريق لبناء محاكاة رقمية لكافة تفاصيل العالم الذي نعيش فيه؛ فوفق رؤية جلرنتر، لا يجب أن "تبقى العوالم الافتراضية مرتبطة بالخيال العلمي، بل عليها ان تصبح ذات صلة بعالمنا المادي".
ولكن الثمن الباهظ لأدوات الواقع المعزز جعلها غير متاحة لجميع مستخدمي الإنترنت، بالإضافة إلى أن العمل بالتقنية ما زال محصوراً بغرف العمليات الجراحية وبعض المتاحف والألعاب. فحتى هذه اللحظة يُنظر إلى الواقع المعزز على أنه للترفيه والترف الإلكتروني، ولكن يتمتع الواقع المعزز بالقدرة الكافية في إعادة الأمور إلى نصابها السليم، وبإمكانه منح مستخدمي الإنترنت تجربة العيش في أماكن ممنوعٌ الذهاب إليها بسبب الحجر المنزلي.
كورونا يعيد الأمل للواقع المعزز
يعد الواقع المعزز أفضل مكان للعمل عن بعد، لقد منح فيروس كورونا جرعة أمل جديدة للواقع المعزز بعد فشله لسنوات في استقطاب المستخدمين. فقد فرض الوباء على الشركات التفكيرَ في وسيلة متطورة تعيد الأمور إلى طبيعتها، فحتى لو تم احتواء الوباء، فإن الجميع يفكر في أسئلة على غرار: هل سيتكرر سيناريو كورونا في المستقبل؟
في الوقت الراهن، ينتج المستخدمون حوالي 2.5 كوانتيليون بايت، وهي كمية كافية لبناء عالم رقمي يحاكي العالم الواقعي بأبعاده الجغرافية والبشرية، من خلال توظيف البيانات كمواد أولية لصنع نماذج رقمية تحاكي العالم الواقعي الذي يحيط بنا.
في جولة بحث عبر الإنترنت، نكتشف عودة الحديث عن أهمية تعزيز مكانة التقنية، وزيادة الإستثمار فيها، ويدور النقاش حالياً حول نظارات الواقع الافتراضي لشركة فيسبوك، وكيف يمكنها تحسين أجواء اللقاء بين المستخدمين ونقلهم إلى بيئات افتراضية خصبة، وثمة نقاش حول ضرورة صنع المزيد من المحاكاة الرقمية للأماكن.
تبلغ نسبة مستخدمي الواقع المعزز حوالي 1.5 مليار مستخدم. وبعد سنوات من الفشل في جذب المستخدمين، بدأت جائحة كورونا تدفع الناس إلى إستكشاف الواقع المعزز وقدرته في تسهيل العمل عن بعد؛ لأنه يتيح لهم الولوج إلى عالم يحاكي عالمهم الواقعي.
قبل أيام قليلة، استأنفت شركات تعمل في بيع العقارات عملها عبر الواقع المعزز، كذلك تسعى شركات موسيقية إلى إحياء الحفلات الصيفيّة في بيئة إفتراضية. وبحسب "شركة البيانات الدولية"، فقد أدت جائحة كورونا إلى زيادة الطلب على اقتناء معدات الواقع المعزز، كما انتشرت مقالات تناولت أهمية الواقع المعزز والافتراضي في محاربة الضجر الناجم عن الحجر المنزلي وانقطاع التواصل الاجتماعي المباشر. لقد ساهمت أزمة كورونا في زيادة نسبة حضور الأفراد داخل العالم الافتراضي الذي وفره فيسبوك، وأظهرت إحصاءات زيادة إقبال المراهقين على تمضية عزلتهم داخل الواقع المعزز والافتراضي. وبحسب دراسة نشرها "statista"، فمن المتوقع أن يصل عدد المستخدمين للواقع المعزز بحلول عام 2021 إلى 2 مليار مستخدم. ولكن يبدو أن أزمة كورونا قد تسرع عملية الوصول إلى الرقم المذكور قبل العام المحدد في الدراسة.
في الآونة الأخيرة دعمت شركة ماجيك ليب "Magic Leap" -التي تنتج نظارات وبرامج الواقع المعزز والافتراضي- برنامج سباتيال "Spatial" الذي يوفر بيئة افتراضية تسمح لمالكي الشركات بعقد لقاءات مع الموظفين في بيئة افتراضية تحاكي الواقع سمعياً وبصرياً. كذلك تعمل شركة ماجيك ليب على صنع محاكاة رقمية للعالم من خلال نظام ماجيك فيرس "magicverse".
يقوم نظام ماجيك فيرس هذا على بناء بيئة معززة ديناميكية وحيوية تستضيف المستخدمين في إطار مكاني محوسب. وسيعمل النظام من خلال الحوسبة المكانية على تحديد عدة أماكن وصنع محاكاة رقمية لها، وستراعي المحاكاة الرقمية الحياة البشرية والأبعاد الجغرافية والموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي والتفاعل بين المستخدمين. كما تسعى الشركة إلى تحفيز ضخ الأموال لتطوير البنية التحتية للإنترنت كي يتمكن ملايين المستخدمين من العيش في بيئة تتميّز بالمرونة والحيوية التي لا توفرها التطبيقات المستخدمة حالياً للتواصل عن بعد.