نُشر مؤخراً مقطع فيديو بالرسوم المتحركة مع تعليق صوتي يشبه ما يظهر في البرامج التلفزيونية التي تُعرض في ساعة متأخرة من الليل، غير أنه يتحدث عن فكرة تبدو قادمة مباشرة من المستقبل البعيد. وقد ظهر في المقطع جراح روبوتي مزود بأذرع شبيهة بأذرع الأخطبوط وهي تدور وتتحرك بسرعة لفصل رأس رجل يحتضر عن جسمه، ووضعه على جسم شاب سليم. وكما يزعم الفيديو، فهذه هي "برين بريدج" (BrainBridge)، "أول فكرة ثورية على مستوى العالم لآلة لزرع الرأس، حيث تستخدم أحدث تقنيات الروبوتات والذكاء الاصطناعي لإجراء عملية كاملة لزرع الرأس والوجه".
"برين بريدج" ليست شركة حقيقية!
منذ أن نُشر الفيديو مؤخراً، حقق الملايين من المشاهدات، واجتذب أكثر من 24,000 تعليق على فيسبوك، ونال تحذيراً للمحتوى على تيك توك (TikTok) بسبب ما يعرضه من صور مروعة للرؤوس المقطوعة. إضافة إلى ذلك، ثمة موقع ويب ذو تصميم أنيق لبرين بريدج ويتضمن العديد من الوظائف الشاغرة، بما في ذلك "قائد فريق علم الأعصاب" و"مستشار للعلاقات الحكومية". وقد بدا كل هذا مقنعاً بما يكفي بالنسبة إلى صحيفة نيويورك بوست (New York Post) إلى درجة أنها أعلنت أن برين بريدج "شركة ناشئة مختصة بالهندسة الطبية الحيوية" وأن هذه "الشركة" تخطط لتنفيذ عملية جراحية في غضون 8 أعوام. ويمكننا أن نؤكد، بعد إجراء العمل الاستقصائي اللازم، أن برين بريدج ليست شركة حقيقية، فهي غير مُسَجلة في أي مكان. أما مقطع الفيديو فهو من إنتاج المسؤول عن التواصل العلمي والمخرج السينمائي اليمني هاشم الغيلي، الذي أنتج مقطع فيديو لاقى صدى واسعاً في 2022 باسم "إكتولايف" (EctoLife) حول الأرحام الاصطناعية، وقد أثار هذا المقطع بدوره حيرة الصحفيين الذين سارعوا إلى محاولة تحديد مدى صحة محتواه.
غير أن برين بريدج أكثر من مجرد عمل فني مثير للجدل. يمكن تشبيه هذا الفيديو بأنه أقرب ما يكون إلى أول لوحة إعلانات عامة لمخطط مثير للجدل إلى حد كبير يهدف إلى التغلب على الموت، وهو مخطط اجتذب مؤخراً الكثير من الاهتمام بين بعض أنصار إطالة العمر ورواد الأعمال المهتمين بهذه المسألة. يقول الغيلي: "تتمحور المسألة حول استقطاب أشخاص جدد للانضمام إلى المشروع".
اقرأ أيضاً: رجل مصاب بمرض باركنسون يستعيد القدرة على المشي بفضل زرعة في النخاع الشوكي
اختبار إمكانية تحقيق فكرة نقل الرأس
كان الغيلي، الذي يعيش في دبي، مستيقظاً الساعة الخامسة صباحاً لتتبع الفيديو، الذي كان يحصد أعداداً كبيرة من المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي. يقول الغيلي، الذي يصر على أنه لم ينتج الفيلم بهدف اجتذاب التفاعل فحسب: "أنا أراقب تطور وضع هذا الفيديو. ليس الهدف أن يلاقي الفيديو صدى واسعاً. فأنا قادر على تحقيق هذا الأمر في أي وقت. لكن الهدف هو فتح الآفاق واختبار إمكانية تحقيق هذه الفكرة".
نال مشروع الفيديو تمويلاً جزئياً من مؤسس شركة إنسيليكو ميديسين (Insilico Medicine) الضخمة لاكتشاف الأدوية باستخدام الذكاء الاصطناعي، أليكس زافورونكوف، الذي يُعد أيضاً من الشخصيات المهمة في مجال أبحاث مكافحة الشيخوخة. وبعد أن نشر زافورونكوف مقطع الفيديو على حسابه في منصة لينكدإن (LinkedIn)، لاحظ المعلقون أن وجه زافورونكوف موجود على اثنين من الأجسام المعروضة في الفيديو. وفي رسالة عبر منصة واتساب (Whatsapp)، قال زافورونكوف لمجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو: "يمكنني أن أؤكد أنني ساعدت على تصميم بعض الأشياء وتمويلها"، وزعم في الرسالة نفسها أن "بعض الأشخاص المهمين والمشهورين يدعمون هذا المشروع مالياً". غير أن زافورونكوف رفض الإفصاح عن أسماء هؤلاء الأشخاص. كما أنه لم يقدم أي إجابة عندما سُئل إن كانت إعلانات التوظيف -التي بدا كأن الذكاء الاصطناعي هو من كتب توصيفاتها العمومية للمؤهلات والمسؤوليات- تعبّر عن أدوار حقيقية أو وظائف وهمية.
تجاوز الشيخوخة
الأمر المؤكد هو أن زرع الرأس، أو كما يفضل البعض تسميته، زرع الجسم، موضوع يثير اهتماماً متزايداً -وإن كان نظرياً ومحفوفاً بالمخاطر- في أوساط إطالة العمر، التي تعجّ بالقراصنة البيولوجيين وأنصار الفوضى التكنولوجية وغيرهم ممن ينشطون على هامش التكنولوجيا الحيوية ومشهد الشركات الناشئة، الذين يشكّلون شريحة أنصار إطالة العمر الأكثر تطرفاً وإخلاصاً. يعترف الكثير من أنصار إطالة العمر بأن الوضع غير مبشّر حالياً. فطب مكافحة الشيخوخة لم يتوصل حتى الآن إلى أي إنجازات حقيقية غير مسبوقة. في الواقع، مع تقدم الأبحاث على المستوى الجزيئي، تبدو مشكلة الموت أعقد من ذي قبل.
مع تقدمنا في العمر، تستسلم مليارات الخلايا لدينا بالتدريج لتأثيرات الأنتروبيا التي لا رجعة فيها. وقد لا نتمكن من حل هذه المشكلة على الإطلاق. وبالمقارنة معها، يبدو وضع رأس شخص ما على جسم شاب حلاً سهلاً نسبياً، وهو يمثل طريقة للتحايل على الشيخوخة بحركة واحدة، ما دام الدماغ بقي صامداً على الأقل. حظيت هذه الفكرة بدعم قوي من خلال خطة توجيهية تقنية اقترحتها هذا العام مجموعة لونجيفيتي بايوتيك فيلوشيب (Longevity Biotech Fellowship) التي تتبنى أساليب ثورية لإطالة العمر، إذ اعتبرت أن "استبدال الجسم" يمثل المسار الأسرع والأقل تكلفة نحو "حل مشكلة الشيخوخة".
هل ستنجح طريقة زرع الرأس؟
لقد سبق أن حققت هذه الطريقة النجاح، بأسلوب بدائي على الأقل. ففي أوائل السبعينيات، أجرى جراح الأعصاب الأميركي روبرت وايت "عملية تبديل رأس"، حيث قطع رأس قرد ووضعه على جسم قرد آخر، ووصل جهازي الدورة الدموية معاً. وقد أشار روبرت إلى أن الرأس بقي واعياً وقادراً على الرؤية بضعة أيام، قبل أن يموت. من المرجح أن تؤدي عملية زرع الرأس لدى البشر إلى الوفاة أيضاً. لكن حتى لو بقي الرأس حياً، فسيكون عقلاً متصلاً بجسد مشلول، لأن تبديل الرؤوس يعني قطع النخاع الشوكي. غير أن أنصار مبادلة الرؤوس يمكن أن يشيروا إلى بعض الحلول الممكنة لتلك المشكلة، التي يظهر بعضها في فيديو برين بريدج. على سبيل المثال، تمكّن بعض الأشخاص المشلولين في أوروباً من المشي ثانية بعد أن نجح الأطباء في رأب الإصابات التي لحقت بالنخاع الشوكي لديهم باستخدام منظومة ربط إلكترونية. كما يعمل علماء آخرون في الصين على دراسة عوامل النمو من أجل تجديد نمو الأعصاب.
الالتحام في منطقة العنق
قد يبدو فيديو برين بريدج صادماً، غير أنه يعبّر عن تفكير تقليدي للغاية من بعض النواحي. فإذا أردت إبقاء دماغك على قيد الحياة، فلماذا يجب أن تضعه على جسم بشري بالضرورة؟ من الممكن، بدلاً من ذلك، أن تحافظ على الرأس حياً بالاعتماد على آلة تحاكي عمل القلب والرئتين، مع زرعة عصبية من إيلون ماسك تتيح للرأس تصفح الإنترنت طوال حياته. من الممكن أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار عمل الأطباء الذين يأملون حل مشكلة نقص الأعضاء، إذ بدؤوا يزرعون القلوب والكلى المأخوذة من الخنازير المعدلة جينياً في أجسام المرضى. إن كنت لا تمانع من امتلاك ذيل و4 قوائم، فمن الممكن أن يوضع رأسك على جسم خنزير.
لنفكر في أمر آخر أيضاً. لماذا يجب أن يكون جسم "المتبرع" ميتاً على أي حال؟ فمن الممكن من الناحية التشريحية أن يحمل الجسم رأسين. فثمة توائم ملتصقة تشترك في جسم واحد. وإذا أظهر التشخيص أن شخصاً متزوجاً مصاب بسرطان قاتل، فمن المؤكد أن الزوج السليم (أو الزوجة السليمة) سيرحب بوضع رأس زوجته ملاصقاً لرأسه، إذا سمح دماغه للدماغ الضيف أن يبقى حياً. ففي نهاية المطاف، أصبح مفهوم "المتبرع الحي" مقبولاً على نطاق واسع في طب زراعة الأعضاء، والزوجان ملتصقان عند الوركين (تشبيه بالإنجليزية يشير إلى تقاربهما الوثيق عموماً) كما يُقال غالباً. فماذا يمنع أن يكونا ملتصقين عند الرقبة أيضاً؟
إذا كان الفيديو محاولة لجس نبض الجمهور واستطلاع الآراء وردود الفعل، فقد حقق هدفه بنجاح. فمنذ نشر هذا الفيديو، تحدثت آلاف التعليقات عن المعضلات الأخلاقية التي تطرحها هذه العملية. على سبيل المثال، إذا دخل شخص في حالة الموت الدماغي بسبب حادث دراجة نارية -على سبيل المثال- يستطيع الجراحون استخدام قلبه وكبده وكليتيه لإنقاذ العديد من الأشخاص الآخرين. فهل سيكون استخدام هذا الجسم لمساعدة شخص واحد فقط عملاً أخلاقياً؟ يقول الغيلي: "السؤال الأكثر شيوعاً هو: من أين سنحضر الأجسام؟". يجيب موقع برين بريدج عن هذا السؤال بالقول إنه سيحصل على أجساد غير واعية "مستنبتة أخلاقياً" من شركة إكتولايف، وهي شركة الأرحام الاصطناعية التي كانت موضوع الفكرة الخيالية السابقة التي طرحها الغيلي. كما يقترح أيضاً إمكانية الحصول على إمدادات إضافية من الأجسام الميتة دماغياً التي تعود إلى أشخاص خضعوا لعملية القتل الرحيم، سواء كان ذلك بسبب الآلام المزمنة أو المشاكل النفسية.
الجمهور يكره هذه الفكرة
عموماً، يبدو أن الجمهور يكره هذه الفكرة. فعلى منصة فيسبوك، قال الكاهن ماثيو تاكر إن هذا المفهوم "مثير للاشمئزاز وغير أخلاقي وغير ضروري ومنافٍ للقيم الروحية وشيطاني، وأحمق تماماً، فمؤيدوه ليس لديهم أدنى فكرة عما يفعلونه". كما اعتذر أحد المعلقين من الشرق الأوسط عن الفيديو، وقال مازحاً إن منتجه "مريض هرب الليلة الماضية من إحدى مصحاتنا العقلية. ونحن نحث العامة على متابعة حياتهم بصورة طبيعية، لأن كل شيء تحت السيطرة".
يراقب الغيلي ردود الفعل والتعليقات والملاحظات باهتمام، وبشيء من القلق. ويقول: "بصراحة، ثمة كم هائل من ردود الفعل السلبية. لكن هذا الكم الهائل يخفي وراءه أشخاصاً يبعثون برسائل البريد الإلكتروني. وهم أشخاص يرغبون في الاستثمار في هذه الفكرة، أو أشخاص يعبرون عن مشاكلهم الصحية الشخصية. هؤلاء الأشخاص هم الذين يهموننا". يقول الغيلي إنه إذا تقدم الأشخاص المناسبون للحصول على الوظائف المعلن عنها، فداعمو برين بريدج مستعدون لتمويل دراسة جدوى تقنية صغيرة لتحديد إمكانية تنفيذ هذه الفكرة.