تخيل أن تنطلق كقبطان في رحلة بحرية إلى جزيرة بعيدة مع فريق من المغامرين المعروفين بلياقتهم البدنية العالية ومهارتهم في الإبحار. كل شيء على ما يرام ويسير وفق ما هو مخطط له، ولأنك انطلقت بمركب سليم وظننت أن عصر القراصنة انتهى، لم تتخذ ما يكفي من تدابير لحماية مركبك في حال اعترضتك مجموعة من العابثين، أو حدث معك طارئ يتعلق بسلامة المركب في أثناء الرحلة.
التدابير التي أغفلت اتخاذها تُقابل في عالم التكنولوجيا الموازي "الأمن السيبراني"، الذي أصبح من الأساسيات التي يجب أن تضعها الشركات في اعتبارها عند التخطيط للأعمال، بل ويجب أن تكون بالتوازي مع الأولويات.
لماذا يجب أن يكون الأمن السيبراني في صُلب التفكير الاستراتيجي لكل مدير؟
في عصرٍ تكثرُ فيه التهديدات السيبرانية، يجب أن تكون استراتيجيات الأمن السيبراني مضمنة في التخطيط لسير أي عمليات في المؤسسة، فهذا النهج الاستباقي يمكّن من معالجة الأخطار السيبرانية قبل وقوعها، ويخفف وطأتها إذا حدثت، بالإضافة إلى تقليص الخسائر الناجمة عن الهجمات السيبرانية. ومن أهم الأسباب التي تحفّز على تبني استراتيجيات سيبرانية في كل مؤسسة ما يلي:
- خطر تسرب البيانات: مع التقدم التكنولوجي المتسارع، يتوصل قراصنة المعلومات إلى أساليب متجددة باستمرار وفعّالة لتنفيذ هجماتهم السيبرانية، التي تؤدي إلى وصولهم إلى بيانات عملاء الشركة ومعلوماتهم وأعمالهم في حال افتقار الشركة إلى الاستراتيجية الملائمة لحماية بياناتها. وقد يؤدي تسرب البيانات إلى فقدانها أو خسائر مالية كبيرة وبالمحصلة يُسيء إلى سمعة الشركة.
- التعرُّض لهجمات ببرمجيات الفدية: إن عدم تبني نهج أمن سيبراني مناسب وقوي يُعرّض الشركة للهجمات ببرمجيات الفدية، وهي برمجيات تعمل على تشفير ملفات الشركة مقابل مبالغ مالية (فدية) لفك هذا التشفير. وقد تضطر الشركات لدفع مبالغ نقدية ضخمة لاستعادة الملفات، وفي بعض الحالات تفقد القدرة نهائياً على الوصول إليها، ما يترافق بخسائر مالية أكبر.
- هجمات التصيد الاحتيالي: وهي هجمات ينفّذها مجرمو الإنترنت عبر رسائل مزيفة تبدو آمنة لموظفي الشركة بغرض الوصول إلى معلومات حساسة أو مبالغ مالية، وتتجلى خطورة هذه الهجمات في إمكانية الوصول إلى بيانات الشركة الحساسة أو حتى خسائر مالية سواء للشركة أو للموظفين فيها.
- عقوبات تنظيمية: تتخذ العديد من الدول تدابير صارمة تجاه عمليات تسرب البيانات، وبالتالي فإن الشركات التي تفشل في حماية بيانات عملائها الحساسة ستصبح عرضة للعواقب القانونية المترتبة على ذلك، بالإضافة إلى الغرامات المالية المفروضة في مثل هذه الحالات، سواء للجهات الناظمة أو للعملاء.
- الإضرار بسمعة الشركات الأخرى: قد لا يقف الأمر عند الشركة أو المؤسسة التي عانت تسرب البيانات أو الهجمات السيبرانية، فقد يكون لمثل هذه الحوادث أثر مدوٍّ في كل صناعة، يؤدي إلى فقدان العملاء ثقتهم بنموذج الأعمال في حال كانت إحدى الشركات الرئيسية في الصناعة هدفاً لهجوم سيبراني ناجح.
لهذا على الشركات أن تتبنى استراتيجيات تضع الأمن السيبراني في مقدمة أولوياتها، وأن تنتشر ممارسات الأمن السيبراني على المستويات كافة، بحيث يعتاد الموظفون ممارسات مثل المصادقة الثنائية واختيار كلمات المرور القوية وتحديث البرمجيات والأنظمة باستمرار وتدريب الموظفين على كيفية رصد التهديدات السيبرانية ومنعها أو تخفيف ضررها، بالإضافة إلى وجود خبير متخصص في قضايا الأمن السيبراني.
اقرأ أيضاً: وكلاء الذكاء الاصطناعي تدخل ميدان الهجمات السيبرانية: فما الحل؟
هل فريقك مستعد للاختراقات السيبرانية؟ هذه الإشارات تخبرك
الإجابة عن هذا السؤال ليست فقط في امتلاك أنظمة حماية متطورة، بل في قدرة الفريق ككل على التعرف إلى المخاطر والتعامل معها بفاعلية. من خلال مراجعة أبرز علامات الضعف السيبراني، يمكن للقادة تقييم مدى جاهزية فِرقهم واتخاذ الإجراءات المناسبة لتعزيز الأمن السيبراني.
العمل عن بُعد: المدخل الأساسي لاحتمالات الاختراقات المحتملة
مع ازدياد عدد الموظفين الذين يعملون من مواقع مختلفة، يزداد الاعتماد على شبكات واي فاي عامة أو غير آمنة، ما يفتح المجال أمام المتسللين لاستغلال هذه النقاط الضعيفة. لذا، يجب تشجيع استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN) وتجنب الشبكات العامة، بالإضافة إلى تدريب الموظفين على التعرف إلى محاولات الاحتيال التي تستهدف العاملين عن بُعد.
استخدام الأجهزة الشخصية في العمل (BYOD)
وهذا ما يُعرف بـ "أحضر جهازك الخاص" أو Bring Your Own Device اختصاراً BYOD، ويتضمن اعتماد الموظف على جهازه الخاص في العمل، وذلك يشكّل تحدياً كبيراً. فتنوع الأجهزة وصعوبة التحكم فيها يزيدان فرص استغلالها، خصوصاً إذا لم تكن أنظمة التشغيل محدّثة أو إذا تم تحميل تطبيقات غير موثوقة. لذا، من الضروري وضع سياسات صارمة لاستخدام الأجهزة الشخصية، تشمل تحديث الأنظمة واستخدام كلمات مرور قوية، وتقييد الوصول للأشخاص الآخرين، والتحول من العمل على الجهاز الشخصي إلى أجهزة الشبكة Network Block Device اختصاراً NBD.
الحاجة إلى تدريبات متنوعة على ممارسات الأمن السيبراني
وذلك في حال غياب الخبرة الضرورية لدى الموظفين على ممارسات الأمن السيبراني، ويتمثل ذلك في حوادث متفرقة قد لا ترقى لأن تشكّل تهديداً على الشركة، لكنها بمثابة علامات إنذار مبكرة وإشارات تحذيرية لضرورة تثقيف العاملين حول أفضل ممارسات الأمن السيبراني. يقلّل الاعتماد على تدريبات توعية عامة وغير مخصصة فاعلية الحماية. يجب أن تكون برامج التدريب موجَّهة حسب احتياجات الموظفين ومستويات خبرتهم، وأن تُقدَّم بأسلوبٍ جذابٍ وتفاعلي، مع تغطية مواضيع من الأساسيات إلى التهديدات المتقدمة مثل التصيد الاحتيالي العميق (Deepfakes).
عدم تشفير البيانات وغياب وجود نسخ احتياطية
قد تكون هذه الإشارة جزءاً من نتائج ما سبق. يعرّض عدم تشفير البيانات وغياب النسخ الاحتياطية الشركة لمخاطر كبيرة؛ فقد يؤدي تسرب البيانات غير المشفرة إلى خسائر فادحة، كما أن فقدان البيانات دون وجود خطة استعادة يعرقل العمل بشكلٍ كبير. لذلك، يجب تطبيق تشفير شامل للبيانات، واستخدام استراتيجيات نسخ احتياطي متعددة، مع مراقبة مستمرة لأي اختراقات محتملة.
ضعف تقسيم الشبكات وعدم مراقبة وصول المستخدمين
يزيد ذلك فرص الهجمات، فوجود وصول موحد لشبكة الشركة بأكملها يعرّض الأصول الحيوية للخطر، كما أن عدم مراقبة الأنشطة يعوق اكتشاف التهديدات مبكراً. لذا، من المهم فصل الشبكات الحساسة وتحديد صلاحيات الوصول بدقة واعتماد مبدأ أقل الامتيازات.
بالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن تجاهل نقاط الضعف التي يعانيها شركاؤك في العمل، سواء موظفين من شركات أخرى تعمل على اتصال مع شركتك وموظفيك. أمّا الخروقات التي تحدث لهذه الشركات، فقد تكون مدخلاً لتهديدات لاحقة على شركتك. يستدعي هذا تقييماً أمنياً دقيقاً لشركاء العمل، وتحديد ضوابط صارمة للوصول إلى الشبكات والبيانات.
اقرأ أيضاً: لماذا يُعدُّ الموظفون خط الدفاع الأول ضد التهديدات السيبرانية التي تستهدف الشركات؟
كمدير: ما هي الأساسيات التي يجب أن تعتمدها في سياسة الأمن السيبراني لشركتك؟
في ظل تزايد الهجمات الإلكترونية وتعقيدها، لم يَعُد الأمن السيبراني مجرد مسؤولية فريق تقني، بل أصبح أولوية استراتيجية تتطلب مشاركة فعّالة من القيادة. ووفقاً لاستطلاع رؤى الثقة الرقمية العالمية من PwC الصادر عام 2024، ارتفعت عمليات تسرب البيانات التي تُكلّف أكثر من مليون دولار من 27% عام 2023 إلى 36%، ما يبرز الحاجة إلى وجود نهج استباقي للتصدي للخروقات السيبرانية. إليك الأسس التي يجب أن تعتمدها في سياسة أمن شركتك لمواجهة التهديدات بفاعلية:
التقييم المستمر للمخاطر
لا يمكنك حماية ما لا تعرفه. ابدأ بتحليل دقيق لأصولك الرقمية (البيانات، الأنظمة، الأجهزة)، وتحديد نقاط الضعف التي قد تستهدفها الهجمات. استخدم أدوات مثل Cyble Vision للحصول على رؤية شاملة عن التهديدات الناشئة وتقييم تأثيرها المحتمل في عملك.
- مثال عملي: أجرِ اختبارات اختراق دورية لاكتشاف الثغرات قبل أن يستغلها المهاجمون.
- نصيحة: صنّف البيانات حسب الحساسية (سرية، عامة) وطبّق إجراءات حماية متفاوتة بناءً على ذلك.
وضع سياسات أمنية واضحة ومُحدَّثة
يجب أن تُعرِّف سياساتك كيفية التعامل مع البيانات، وإدارة الوصول، واستخدام الأجهزة الشخصية (BYOD). تأكد من أن هذه السياسات:
- تغطي السيناريوهات كلّها: العمل عن بُعد، والتعامل مع الشركاء الخارجيين، واستخدام التطبيقات السحابية.
- تتواءم مع اللوائح: مثل اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR أو معيار أمان بيانات صناعة بطاقات الدفع PCI DSS.
- تُراجع دورياً: لتواكب التطورات التكنولوجية والتهديدات الجديدة.
بناء ثقافة أمنية داخل الفريق
الاختراقات سببها أخطاء بشرية أكثر من غيرها. لذا، حوّل موظفيك إلى خط دفاع أول عبر:
- تدريب توعوي مخصص: لا تكتفِ بالتدريبات العامة؛ صمم برامج وفقاً لأدوار الموظفين (مثال: فريق المبيعات يحتاج إلى فهم التصيد الاحتيالي أكثر من غيره).
- محاكاة الهجمات: أجرِ تمارين واقعية مثل إرسال رسائل تصيد وهمية لقياس استجابة الفريق.
- تحفيز الإبلاغ: شجّع الموظفين على الإبلاغ عن أي نشاط مريب دون خوف من العقاب.
اعتماد تقنيات متقدمة للكشف والاستجابة
لا تعتمد فقط على جدار الحماية، بل استخدم أدوات ذكية مثل:
- الذكاء الاصطناعي: لاكتشاف الأنماط غير الطبيعية في حركة المرور (مثل زيادة الطلبات من عنوان IP واحد).
- التشفير الشامل: لحماية البيانات سواء في حالة النقل أو التخزين.
- إدارة الهويات والوصول (IAM): لتقييد الصلاحيات حسب مبدأ "أقل امتياز ممكن".
التخطيط لاستجابة الحوادث والتعافي
حتى الشركات الأكثر أماناً معرّضة للاختراق. لذلك، ضع خطة استجابة تشمل:
- فريق استجابة مخصص: مع أدوار محددة (الاتصال بالعملاء وعزل الأنظمة والتحقيق).
- نظام نسخ احتياطي متعدد: احتفظ بنسخ في مواقع خارجية ومشفّرة.
- اتفاقيات مسبقة مع خبراء: مثل شركات الاستجابة للحوادث.
التعاون مع الجهات الخارجية
الأمن السيبراني ليس معركة فردية، أنشئ تحالفات مع:
- شركاء الصناعة: لمشاركة معلومات التهديدات (مثل مشاركة بيانات الهجمات الحديثة).
- الجهات الحكومية: للإبلاغ عن الحوادث والاستفادة من الدعم القانوني.
- المجتمع الأمني: للمشاركة في منصات لفهم تكتيكات المهاجمين.
اقرأ أيضاً: برامج مكافحة الفيروسات التي ينصح بها خبراء الأمن السيبراني
قياس الأداء وتحسينه
لا تكتفِ بالتنفيذ، بل تتبع مؤشرات الأداء (KPIs) مثل:
- زمان الكشف عن التهديدات (Mean Time to Detect).
- زمان الاستجابة (Mean Time to Respond).
- عدد الحوادث الناجمة عن أخطاء بشرية.
استخدم هذه البيانات لتحسين سياساتك وتدريباتك باستمرار.
القادة الناجحون لا ينتظرون وقوع الهجمات، بل يبنون أنظمة مرنة تستعد للأسوأ. تذكر أن تكلفة الوقاية أقل بكثير من تكلفة التعافي بعد الاختراق. ابدأ اليوم بخطوات بسيطة:
- درّب موظفيك على التصيد الاحتيالي.
- حدّث أنظمتك.
- اختبر خطط الاستجابة.
الاستثمار في الأمن السيبراني ليس تكلفة، بل ضماناً لاستمرارية عملك وسمعتك.