بعد أشهر من الضجيج الإعلامي والتكهنات، كشفت فيسبوك النقاب أخيراً عن خطتها لإطلاق نظام للبلوك تشين، يحمل اسم ليبرا. ومنذ إعلانها هذا، تركَّز معظم الاهتمام على العملة ليبرا، وهي العملة المشفرة التي ستعمل على نظام البلوك تشين الجديد.
إلا أن إحدى الوثائق التي نشرتها فيسبوك تتضمن شيئاً قد يتبين أن أهميته تعادل أهمية العملة ذاتها، هذا إن لم يكن أكثر أهمية منها. حيث إن جمعية ليبرا -وهي المؤسسة غير الربحية التي أنشأتها فيسبوك لإدارة تطوير المشروع- يتمثل أحد أهدافها الرئيسية في استخدام ليبرا لإحداث ثورة في مفهوم الهوية الرقمية.
إن المقطع النصي ذو الصلة -الذي يتوضَّع بالقرب من نهاية الوثيقة- يهدف إلى توضيح الدور المنوط بجمعية ليبرا، حيث جاء فيه: "الهدف الإضافي للجمعية هو تطوير وتعزيز معيار الهوية المفتوحة، فنحن نعتقد أن الهوية الرقمية اللامركزية والمحمولة، تمثل شرطاً أساسياً للإدماج المالي والمنافسة".
ولكن ما هي "الهوية الرقمية اللامركزية والمحمولة"؟
من الناحية النظرية، توفر هذه الهوية الرقمية وسيلة لتجنب الاضطرار إلى الثقة في سلطة مركزية واحدة، للتحقق من البيانات الثبوتية الخاصة بنا والاهتمام بها. هذا يعني -بالنسبة لمستخدمي الإنترنت- أنه بدلاً من الاعتماد على أداة تسجيل الدخول الخاصة بفيسبوك أو جوجل لتقديم بياناتنا الثبوتية إلى مواقع إنترنت أخرى، يمكننا امتلاكها والتحكم فيها بأنفسنا.
من الناحية النظرية، يمكن لهذا الأسلوب أن يحمي تلك المعلومات بشكل أفضل من القراصنة ولصوص الهوية، لأنها لن تكون متواجدة على المخدمات الخاصة بالشركات.
ويعد هذا المفهوم (الذي يسمى أحياناً "هوية السيادة الذاتية") بمنزلة الحل المنشود في عالم تكنولوجيا الإنترنت، وقد ظل المطورون يتابعونه لسنوات. وبدأت الشركات الكبرى منذ مدة -بما في ذلك مايكروسوفت وآي بي إم- بالعمل على تطبيقات الهوية اللامركزية، وهذا ما فعله أيضاً عدد من الشركات الناشئة.
ولكنه أمر لا يتعلق بالإنترنت فقط، فبالنسبة لنحو مليار شخص حول العالم لا يمتلكون أي نوع من البيانات الثبوتية الرقمية، يمكن لهذه التكنولوجيا أن تتيح لهم الوصول إلى الخدمات المالية التي لا يمكنهم الوصول إليها اليوم، بدءاً بأشياء مثل الحسابات والقروض المصرفية.
وإن مساعدة بعض هؤلاء الأشخاص ينبغي أن تشكل جزءاً مما قصدته فيسبوك عندما قالت في الورقة البيضاء الخاصة بليبرا إن الهدف من النظام الجديد هو "أن يكون وسيلة فعالة للتحويل المالي بالنسبة للمليارات من الناس حول العالم"، و"تحسين الوصول إلى الخدمات المالية".
قد تكون العملة نفسها قادرة على القيام بذلك في بعض الحالات، إلا أنه من المحتمل في حالات أخرى أن يحتاج المستخدمون إلى شكل من أشكال إثبات الهوية للوصول إلى خدمة معينة. وربما لهذا السبب يصف مطورو ليبرا معيارَ الهوية المفتوحة والمحمولة بأنه "شرط أساسي للإدماج المالي".
لكن هذه الهوية الرقمية يمكنها أن تتجاوز النواحي المالية أيضاً؛ فمشاركة أنواع عديدة من البيانات الحساسة باستخدام البلوك تشين -كالمعلومات الصحية على سبيل المثال- قد تتطلب شكلاً من أشكال التحقق الآلي من الهوية.
وتمتلك فسيبوك نفسها خبرة سابقة في التعامل مع الهويات الرقمية، فخدمة "فيسبوك كونكت" تتيح للمستخدمين تسجيل الدخول إلى مواقع إنترنت أخرى باستخدام بياناتهم الثبوتية التي سبق لفيسبوك التحقق من صحتها.
لكن فيسبوك كونكت محفوفة بالمخاطر؛ لأنها تعتمد على سلطة مركزية، وذلك حسب رأي كريستوفر آلن، أحد رؤساء مجموعة مجتمع البيانات الثبوتية في رابطة شبكة الويب العالمية، وهي أبرز هيئة دولية للمعايير المعتمدة على شبكة الإنترنت. وتعد الثقة في كيان واحد يتحمل هذه المسؤولية أمراً خطيراً؛ لأن موقع الويب قد يتوقف عن العمل، أو لأن أعمال الشركة المعنية قد تتوقف في لحظة ما. كما يمكن لفيسبوك أن تلغي الحسابات وقتما تشاء.
ولكن من الصعب أن نعرف كيف سيكون نظام الهوية اللامركزي الجديد الخاص بليبرا، وذلك لأن فيسبوك لم تكشف أي شيء عما تخطط له. ولكن من المحتمل مثلاً أن يكون عمل الهوية الرقمية مقتصراً على شبكة ليبرا، مما يتطلب إذناً للمشاركة فيه.
وخلافاً لأنظمة مثل بيتكوين وإيثيريوم -التي يمكن لأي شخص لديه العتاد الصلب المناسب واتصال بالإنترنت أن ينضم إليها والمساعدة في تصديق المعاملات- فإن ليبرا تتطلب أن تكون الجهات المخولة للتصديق قد تم التحقق من هويتها والموافقة عليها. وقد وافقت نحو 30 شركة على تشغيل "عقد" شبكية، ويريد مطورو ليبرا زيادة هذا العدد إلى 100 بحلول الوقت الذي يفترض فيه أن يتم الإطلاق الفعلي للمنصة في العام المقبل.
ويبدو أن رسالة فيسبوك الرئيسية مع إطلاق ليبرا وجمعية ليبرا تمثل رداً على الانتقادات الماضية لكيفية تعاملها مع البيانات الشخصية؛ حيث يبدو أن الشركة تقول: "انظروا إلينا الآن، نحن نحاول أن نكون أكثر انفتاحاً. نحن لا نريد أن نكون مصيدة للمعلومات الخاصة بالجميع"، وذلك كما يقول واين فوجان، المؤسس المشارك لمؤسسة ديسنترالايزد آيدنتيتي فاونديشن، وهي مجموعة من الشركات التي تعمل جميعها في جوانب تتعلق بالهوية الرقمية القائمة على البلوك تشين.
ولكن أياً كان معيار الهوية الذي يمكن لهذه الشركات أن يتوصلوا إليه، فإذا كان يصلح للعمل لدى 100 شركة، فإن فوجان يقول: "إن هذا ليس نظاماً لامركزياً"؛ فهو ليس إلا معياراً يصلح لمائة شركة. هذا ولم تقدم فيسبوك أي رد على الطلب الموجه لها لإبداء التعليق.
وفي كلتا الحالتين، ليس من الواضح كيف يمكن لفيسبوك وجمعية ليبرا التغلب على بعض التحديات التقنية الكبرى التي تسببت في إعاقة أنظمة الهوية القائمة على البلوك تشين. وأحد هذه التحديات، على سبيل المثال، هو أنه لا يزال من الصعب استخدام أنظمة البلوك تشين بالنسبة للعديد من الناس. فإحدى المشاكل الصعبة على تطبيقات الهوية على وجه الخصوص، هي أنك إذا فقدت أو نسيت مفاتيحك الخاصة، التي ليس من السهل إدارتها في المقام الأول، فإن استعادتها تعد أمراً صعباً، كما يقول آلن.
وهناك تحدٍّ تقني آخر يتعلق بالخصوصية، فكيف سيتم الاحتفاظ ببيانات الهوية الشخصية بشكل منفصل عن المعاملات المالية؟ يتعلق هذا التحدي على الوجه الخصوص بالمدافعين عن الخصوصية في إطار التعامل مع مسألة ليبرا، نظراً للسجل السلبي الحافل لشركة فيسبوك. ومن شأن النفور من المراقبة المالية أن يشجع على إجراء الكثير من التحركات المتعلقة بالعملات المشفرة.
يقول فوجان: "إن المعلومات التي تُظهر (أين تنفق مالك، ومن يشاركك في إنفاقه، وكم من المال أنفقت) تمثل بعضاً من أكثر المعلومات خصوصية بالنسبة للناس".
وعلى كل حال يرى آلن أنه على الرغم من كون تكنولوجيا الهوية اللامركزية قد تطورت إلى مرحلة إجراء العديد من الاختبارات التجريبية الجادة، إلا أنها "لم تصل بعد إلى حد الجاهزية" لكي يتم اعتمادها من قبل المليارات من الناس حول العالم. وبالنظر إلى ما كشفت عنه الشركة حتى الآن، فإن آلن لا يعلم "كيف يمكن لفيسبوك القيام بذلك" حسب قوله.