هل ستقضي بوتات الدردشة على محركات البحث التقليدية؟

7 دقيقة
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت/إم آي تي تكنولوجي ريفيو

في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول، رفعت شركة نيوز كورب (News Corp) دعوى قضائية ضد شركة بيربليكسيتي أيه آي (Perplexity AI) التي تدير محرك بحث ذائع الصيت ويعتمد على الذكاء الاصطناعي يحمل الاسم نفسه. قد يبدو هذا أمراً عادياً للوهلة الأولى. فهذه الدعوى القضائية جزءٌ من مجموعة من أكثر من عشرين دعوى مماثلة تتعلق باستخدام مطوري برمجيات الذكاء الاصطناعي للبيانات، سواء من حيث نَسب هذه البيانات لمصادرها، أو موافقة أصحابها، أو تعويضهم. غير أن هذه الدعوى القضائية تحديداً مختلفة، وقد تكون الأهم بين هذه الدعاوى جميعاً.

اقرأ أيضاً: كيف نجحت شركة بيربليكسيتي في توقع نتائج الانتخابات الأميركية؟

مستقبل البحث بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي على المحك

فمستقبل البحث بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي -أي بوتات الدردشة التي تلخص المعلومات التي تستمدها من الإنترنت- على المحك. إذا اعتبرنا الشعبية المتزايدة التي تحققها "محركات الإجابات" التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي مؤشراً يمكننا الاستدلال به، فهذه الأدوات قد تحل محل محركات البحث التقليدية بوصفها بوابتنا الافتراضية إلى الإنترنت. وعلى حين تستطيع بوتات الدردشة العادية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي إعادة تقديم المعلومات التي اكتسبتها خلال التدريب، وعلى نحو غير موثوق في أغلب الأحيان، فإن أدوات البحث مثل بيربليكسيتي، أو جيميناي (Gemini) من جوجل، أو سيرتش جي بي تي (SearchGPT) التي دخلت حيز الاستخدام العام من أوبن أيه آي (OpenAI)، تهدف إلى استرجاع المعلومات من مواقع الويب الأخرى (الطرف الثالث) وإعادة تقديم هذه المعلومات بأسلوب مختلف. تقدّم هذه الأدوات إلى المستخدمين ملخصاً موجزاً مع روابط تشعبية لمجموعة من المصادر المفيدة، التي تتراوح من الأوراق البحثية إلى مقالات ويكيبيديا (Wikipedia) وصولاً للنسخ النصية لمقاطع يوتيوب. ينفذ نظام الذكاء الاصطناعي عمليات القراءة والكتابة، لكن المعلومات مأخوذة من مصادر خارجية.

يمكن للبحث بالذكاء الاصطناعي، في أفضل الأحوال، استنباط نية المستخدم، وتعزيز انتشار المحتوى العالي الجودة، وصياغة المعلومات من مصادر متنوعة. لكن إذا أصبح البحث بالذكاء الاصطناعي بوابتنا الرئيسية إلى الويب، فهو يهدد بزعزعة اقتصاد رقمي يفتقر إلى الاستقرار أساساً. حالياً، يعتمد إنتاج المحتوى الخاص بالإنترنت على مجموعة هشة من الحوافز المرتبطة بعدد الزيارات وحركة المرور الافتراضية إلى مواقع الويب، مثل الإعلانات والاشتراكات والتبرعات والمبيعات وانتشار العلامة التجارية. من خلال حجب الويب خلف بوت دردشة يعرف كل شيء، فمن الممكن أن يؤدي البحث بالذكاء الاصطناعي إلى حرمان صُنّاع المحتوى من الزيارات والمشاهدات التي يحتاجون إليها للاستمرار في عملهم وكسب عيشهم.

وإذا تسبب البحث بالذكاء الاصطناعي بانهيار هذه المنظومة، فمن المستبعد أن تكون القوانين الحالية مفيدة. فالحكومات تعتقد في المقام الأول أن النظام القانوني عاجز عن تنظيم هذا المحتوى على نحو محكم، وقد بدأت هذه الحكومات تتعلم تنظيم تدفق القيمة عبر الويب بأساليب أخرى. يجب أن تستغل صناعة الذكاء الاصطناعي هذه الفرصة المحدودة والقصيرة الأمد لبناء سوق أذكى للمحتوى قبل أن تلجأ الحكومات إلى إجراءات تدخل غير فعّالة، أو إجراءات تفيد قلة مختارة وحسب، أو تعوق التدفق الحر للأفكار عبر الإنترنت.

اقرأ أيضاً: إليك أبرز الشركات والمؤسسات التي تستفيد حالياً من قدرات تشات جي بي تي

حقوق التأليف والنشر ليست حلاً لمشكلة الزعزعة التي قد يتسبب بها البحث بالذكاء الاصطناعي

تقول نيوز كورب إن استخدام محتواها لاستخلاص المعلومات لعمليات البحث بالذكاء الاصطناعي يمثّل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، وتزعم أن بيربليكسيتي أيه آي "تنافسها على القراء، وتستفيد في الوقت نفسه مجاناً" من الناشرين. من المرجّح أن صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) تؤيّد صحة هذه الفكرة، فقد أرسلت في منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول خطاب كف وتوقف إلى بيربليكسيتي أيه آي كي تمتنع عن استخدام محتواها.

من بعض النواحي، تتسم الدعوى ضد البحث بالذكاء الاصطناعي بأنها أقوى من القضايا الأخرى التي تتضمن تدريب الذكاء الاصطناعي. ففي التدريب، يكون للمحتوى التأثير الأكبر عندما يكون مكرراً وغير متميز، ويتعلم نموذج الذكاء الاصطناعي السلوكيات القابلة للتعميم من خلال رصد الأنماط المتكررة في مجموعات البيانات الضخمة، وتكون مساهمة أي جزء صغير من المحتوى محدودة. أمّا في البحث، يصبح المحتوى أكثر تأثيراً عندما يكون جديداً أو مميزاً، أو عندما يكون لدى صانع هذا المحتوى نفوذ فريد. محركات البحث العاملة بالذكاء الاصطناعي مصممة بحيث تهدف إلى إعادة إنتاج سمات محددة من تلك البيانات الأساسية، واستحضار بيانات إثبات الشخصية لصانع المحتوى الأصلي، وتقديم محتوى يحل محل المحتوى الأصلي.

على الرغم من هذا، تواجه نيوز كورب معركة صعبة للغاية لإثبات انتهاك بيربليكسيتي أيه آي حقوقَ التأليف والنشر عند معالجتها للمعلومات وتلخيصها. لا تحمي حقوق التأليف والنشر المعلومات الواقعية المجردة، أو العمل الإبداعي أو الصحفي أو الأكاديمي اللازم لإنتاجها. لطالما كانت المحاكم الأميركية في الماضي تحكم لصالح شركات التكنولوجيا التي تستخدم المحتوى لإحداث تحولات كبيرة بما يكفي، ويبدو أن هذا النمط من المرجح أن يستمر. وإذا فازت نيوز كورب بهذه الدعوى، فإن تداعيات هذا الفوز قد تتجاوز بيربليكسيتي أيه آي. إذا تعرض استخدام المحتوى الغني بالمعلومات لأغراض غير إبداعية أو غير تعبيرية إلى التقييد، فقد يتسبب هذا بالحد من إمكانية الوصول إلى بيانات وفيرة ومتنوعة وعالية الجودة، ما يعوق الجهود الأوسع الرامية إلى تحسين سلامة أنظمة الذكاء الاصطناعي وموثوقيتها.

الحكومات بدأت تتعلم تنظيم توزيع القيمة عبر الإنترنت

إذا كانت القوانين الحالية قاصرة عن معالجة هذه المشكلات، فقد تدرس الحكومات إمكانية سن قوانين جديدة. بعد أن دخلت الحكومات مؤخراً في نزاعات مع منصات البحث والتواصل الاجتماعي التقليدية، فقد تعمد إلى تطبيق إصلاحات جريئة على غرار قوانين التفاوض بشأن وسائل الإعلام التي جرى سنّها في أستراليا وكندا، أو التي جرى اقتراحها في كاليفورنيا والكونغرس الأميركي. تفرض هذه الإصلاحات على منصات محددة دفع الأموال إلى مؤسسات إعلامية معينة لقاء عرض محتواها، كما يحدث في المقتطفات الإخبارية أو لوحات المعلومات المعرفية (التي تتضمن نتائج مختصرة لعمليات البحث وتظهر مع نتائج البحث). وقد فرض الاتحاد الأوروبي التزامات مماثلة عبر إصلاح حقوق التأليف والنشر، على حين أدخلت المملكة المتحدة صلاحيات واسعة النطاق للأغراض التنافسية يمكن استخدامها لفرض التفاوض.

باختصار، أثبتت الحكومات أنها مستعدة لتنظيم تدفق القيمة بين منتجي المحتوى وجامعي المحتوى، متخلية عن رفضها التقليدي للتدخل في الإنترنت.

لكن التفاوض الإلزامي يمثّل حلاً غير ناضج لمشكلة معقدة. فهذه الإصلاحات تصب في صالح فئة ضيقة من المؤسسات الإخبارية، التي تعمل على افتراض مفاده أن المنصات مثل جوجل وميتا (Meta) تستغل الناشرين. أمّا عملياً، فليس من الواضح مقدار المعلومات المرتبطة بالأخبار فعلاً ضمن حركة المرور التي تشهدها هذه المنصات، غير أن التقديرات تشير إلى أن نسبتها تتراوح من 2% و35% من استعلامات البحث، و3% فقط من خلاصات وسائل التواصل الاجتماعي. في الوقت نفسه، تقدم المنصات فوائد كبيرة للناشرين من خلال تعزيز انتشار محتواهم، كما أنه ليس هناك إجماع يستحق الذكر بشأن التوزيع العادل لهذه القيمة التي يستفيد منها الطرفان. ومن المثير للجدل أن قوانين التفاوض الأربعة تنظّم ببساطة فهرسة المحتوى الإخباري أو وضع روابط تشعبية تشير إليه، ولا تقتصر فقط على إعادة إنتاجه. وهو ما يهدد مبدأ "القدرة على الإشارة بحرية إلى المحتوى باستخدام الروابط التشعبية" الذي تعتمد عليه شبكة الإنترنت. إضافة إلى ذلك، تركّز قوانين التفاوض على وسائل الإعلام التقليدية –فقط 14,000 جهة ناشرة في كندا، و1,500 في الاتحاد الأوروبي، و62 مؤسسة في أستراليا- وتتجاهل العدد الهائل من صانعي المحتوى والمستخدمين العاديين الذين يسهمون بالمنشورات والتدوينات والصور ومقاطع الفيديو والتدوينات الصوتية والتعليقات التي تمثل المحرك الأساسي لحركة المرور الرقمية في المنصات.

اقرأ أيضاً: دليلك لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي دون انتهاك حقوق الملكية الفكرية والنشر

على الرغم من هذه السلبيات كلها، فقد يصبح التفاوض الإلزامي خياراً جذاباً للرد على البحث بالذكاء الاصطناعي. من ناحية أخرى، ثمة ما يجعل القضية تحمل حجة أقوى. فعلى النقيض من البحث التقليدي -الذي يتضمن فهرسة المصادر ووضع روابط تشعبية لها وعرض مقتطفات صغيرة منها لمساعدة المستخدم على اتخاذ القرار بشأن حاجته إلى النقر عليها للمتابعة- فإن البحث بالذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدّم بديلاً مباشراً للمواد المصدرية الأساسية من خلال توليد ملخصات لها، ما قد يؤدي إلى الإضعاف الشديد لحركة المرور إلى مواقع الويب لهذه المصادر وعدد مشاهداتها وإضعاف وصول بياناتها إلى المستخدمين بشدة. ينتهي أكثر من ثُلث الجلسات التي تنشأ عند استخدام محرك البحث جوجل دون أي نقرة، ومن المرجّح أن ترتفع هذه النسبة كثيراً عند استخدام محركات البحث العاملة بالذكاء الاصطناعي. أيضاً، يؤدي البحث بالذكاء الاصطناعي إلى تبسيط الحسابات الاقتصادية: بما أن عدد المصادر التي تسهم في كل إجابة قليل، يمكن للمنصات -والجهات المُحكّمة- تتبع مدى قدرة كل صانع محتوى بعينه على تحقيق التفاعل والإيرادات بدقة أعلى.

غير أن التفاصيل هي الأهم في نهاية المطاف، فمن المحتمل أن يتسبب التصميم الرديء لقوانين التفاوض الإلزامي، على الرغم من النية الحسنة الكامنة وراءها، بإضعاف تأثيرها في معالجة المشكلة، أو حماية فئة صغيرة مختارة وحسب، وقد يؤدي إلى شلل التبادل الحر للمعلومات عبر الإنترنت.

قطاع الإنترنت أمامه فرصة محدودة وقصيرة الأمد لبناء نظام مكافآت أكثر عدلاً

ومع ذلك، فإن التهديد بالتدخل وحسب قد يكون له تأثير أكبر من الإصلاح الفعلي. فشركات الذكاء الاصطناعي تدرك في سرها خطر تصاعد الدعاوى القانونية لتتحول إلى قواعد تنظيمية. على سبيل المثال، بدأت كلٌ من بيربليكسيتي أيه آي وأوبن أيه آي (OpenAI) وجوجل تُبرم صفقات مع الناشرين ومنصات المحتوى، ويغطي بعض هذه الصفقات تدريب الذكاء الاصطناعي، على حين يركّز البعض الآخر على البحث بالذكاء الاصطناعي. لكن، كما الحال مع قوانين التفاوض المبكرة، تقتصر فائدة هذه الاتفاقيات على مجموعة صغيرة من الشركات فقط، وبعض الشركات في هذه المجموعة (مثل ريديت [Reddit]) لم يعلن التزامه بعد بمشاركة هذه الإيرادات مع صانعي محتواها حتى الآن.

لا يمكن الاستمرار في هذه السياسة المتمثلة في الاسترضاء الانتقائي، فهي تتجاهل الغالبية العظمى من صانعي المحتوى عبر الإنترنت، الذين لا يستطيعون بسهولة التخلص من سطوة البحث بالذكاء الاصطناعي على الوصول إلى موادهم، والذين لا يتمتعون بالقوة التفاوضية التي تتمتع بها مؤسسات النشر التقليدية. هذه السياسة تقلل من إلحاح الحاجة إلى الإصلاح من خلال استرضاء أشد المنتقدين، كما أنها تضفي الشرعية على عدد قليل من شركات الذكاء الاصطناعي من خلال صفقات تجارية سرية ومعقدة، ما يصعب على الشركات الجديدة في هذا المجال الحصول على شروط متساوية أو تعويضات متساوية، ما قد يؤدي إلى ترسيخ موجة جديدة من الشركات المحتكرة للبحث. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى خلق حوافز ضارة تدفع شركات الذكاء الاصطناعي إلى تفضيل المصادر المتدنية من حيث التكلفة والجودة على مصادر الأخبار أو المحتوى ذات الجودة المرتفعة لكنها أكثر تكلفة، ما يعزز ثقافة الاستهلاك غير النقدي للمعلومات في هذه العملية.

بدلاً من ذلك، يجب على قطاع الذكاء الاصطناعي أن يستثمر في أطر العمل التي تكافئ صانعي المحتوى على اختلاف أنواعهم كافة لقاء مشاركة المحتوى القيّم. وقد أثبتت المنصات التكنولوجية، مثل يوتيوب وتيك توك (TikTok) وإكس (X)، أنها قادرة على إدارة المكافآت الجديدة لصانعي المحتوى الموزعين في أسواق المحتوى المعقدة. في الواقع، فإن تحقيق الربح العادل للمحتوى اليومي يمثّل هدفاً أساسياً لحركة "الويب 3" (Web3) التي تحظى بتأييد أصحاب رؤوس الأموال المغامرة. ينطبق المنطق نفسه على البحث بالذكاء الاصطناعي. فإذا أسفرت استعلامات البحث عن تفاعل مربح لكن دون نقر المستخدمين على الروابط التشعبية في نتائج البحث للوصول إلى المصادر، فيتعين على المنصات التجارية للبحث بالذكاء الاصطناعي أن تجد وسائل لنسب تلك القيمة إلى صانعي المحتوى ومشاركتها على أوسع نطاق ممكن.

اقرأ أيضاً: أداة جديدة من جوجل تعد بتغيير تجربة البحث على الويب إلى الأبد

بطبيعة الحال، من الممكن أن اقتصادنا الرقمي كان يسير وفق مبادئ خاطئة في المقام الأول. فكسب الحد الأدنى من عائدات الإعلانات الهزيلة قد يكون أسلوباً غير مستدام، كما أن اقتصاد جذب الانتباه (الذي يعتمد على اجتذاب انتباه المستخدمين إلى المعلومات) تسبب بأضرار حقيقية للخصوصية والنزاهة والديمقراطية عبر الإنترنت، وقد يتطلب دعم الأخبار العالية الجودة والمحتوى الحديث أشكالاً أخرى من الاستثمار أو الحوافز.

لكننا يجب ألّا نتخلى عن فكرة الاقتصاد الرقمي الأكثر عدلاً. على أي حال، في حين أن البحث بالذكاء الاصطناعي قد يجعل التفاوض على المحتوى أكثر إلحاحاً، فإنه يجعله أيضاً أكثر قابلية للتنفيذ من أي وقت مضى. يجب على رواد الذكاء الاصطناعي أن يغتنموا هذه الفرصة لوضع الأسس لنظام مكافآت ذكي وعادل وقابل للتطوير. وإذا لم يفعلوا هذا، فقد أصبحت الحكومات الآن تمتلك أطر العمل والثقة اللازمة لفرض رؤيتها الخاصة بشأن القيمة المشتركة.

المحتوى محمي