حقيقة أمْ خيال: هل تتنصت علينا هواتفنا الذكية؟

5 دقيقة
حقوق الصورة: إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية. تصميم: إيناس غانم.

منذ سنوات، انتشرت ظاهرة غريبة بين مستخدمي الإنترنت تتحدث عن ظهور إعلانات على الصفحة الرئيسية لحساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي لأشياء تحدثوا عنها فقط مع صديق أو زميل عمل أو أحد أفراد العائلة، دون البحث عنها بالفعل على المنصة أو محركات البحث الأخرى. وقد انتشرت الظاهرة لتصبح ما يشبه نظرية مؤامرة تتمحور حول أن هواتفنا الذكية قد تستمع إلينا، ما أثار فضولاً وقلقاً على نطاقٍ واسع. فهل هذا صحيح حقاً؟

ما هي حقيقة النظرية وفقاً لمالكي تطبيقات التواصل الاجتماعي والخبراء؟

دفع انتشار النظرية إلى تحرك مسؤولي الإدارة الأميركية لسؤال مالكي تطبيقات منصات التواصل الاجتماعي مباشرة عبر جلسات علنية في مجلس الشيوخ الأميركي، حيث سُئلوا عن حقيقة الأمر وكان ردهم بأن هذه الفكرة غير صحيحة تماماً، ونفوا بشدة حقيقة أن تطبيقاتهم تستمع للمستخدمين عبر ميكروفونات الهواتف الذكية أو ما شابه ذلك، سواء من أجل استهدافهم بالإعلانات أو لأي غرض آخر.

كما أن الإجماع العام بين الخبراء هو أن هؤلاء المالكين يقولون الحقيقة لسببين جوهريين هما:

أولاً: التداعيات السلبية الهائلة قانونياً ومالياً واسمياً (السمعة) عند اكتشاف أنهم لا يقولون الحقيقة أو أن تطبيقاتهم تستمع إلى المستخدمين بالفعل.

ثانياً: التجهيزات اللوجستية الهائلة التي يتطلبها تنفيذ هذه النظرية، فهنا لا نتحدث عن بضعة ملايين من المستخدمين بل عن أكثر من نصف سكان العالم المالكين للهواتف الذكية، وفقاً لتقرير حالة الاتصال بالإنترنت عبر الهاتف المحمول لعام 2024، ومن ثَمَّ عند التفكير في عملية الاستماع إلى المحادثات جميعها على مدار اليوم وتسجيلها وتخزينها وتحليلها وفرزها من أجل استخدامها في الإعلانات المستهدفة لاحقاً، نجد أن العملية مكلفة للغاية ولا معنى لها.

اقرأ أيضاً: 12 ميزة رائعة توفّرها الهواتف الذكية ولا يستخدمها معظم الناس

ماذا تقول الأبحاث والدراسات وتجارب شركات الأمن الرقمي؟

لإثبات صحة النظرية من عدمها، نفّذ باحثون من مراكز الأبحاث الجامعية وشركات الأمن الرقمي بعض التجارب والدراسات، من ضمنهم باحثان في جامعة نورث إيسترن الأميركية اختبرا على مدار عام كامل أكثر من 17 ألف تطبيق في متجر جوجل بلاي وبعض متاجر التطبيقات الصينية، من أجل تحديد ما إذا كان أي منها يستخدم تقنية الاستهداف الصوتي (Audio Targeting)، الذي يعني أن التطبيقات تستمع سراً إلى محادثات المستخدمين لتقديم إعلانات مستهدفة.

وكانت النتيجة أن بعضاً من التطبيقات التي خضعت للاختبار لم تقم بهذا الأمر على الإطلاق، حيث لم ينشّط أي تطبيق ميكروفون الهاتف دون علم المستخدم بأي طريقة. ومع ذلك اكتشفا في رحلة الاختبار أن بعض التطبيقات تلتقط تلقائياً لقطات شاشة لنفسها وترسلها إلى أطراف ثالثة، وهي بحسب الباحثين غالباً من أجل تطوير التطبيق وليس الإعلان.

بينما ذهب باحثو شركة الأمن السيبراني واندرا (Wandera) بالتعاون مع شبكة بي بي سي الإخبارية إلى إجراء اختبار أكثر تخصصاً وتركيزاً، للتحقق من صحة النظرية أو خطئها، حيث وضعوا طرازين مختلفين من الهواتف الذكية أحدهما يعمل بنظام التشغيل أندرويد والآخر يعمل بنظام التشغيل آي أو إس في غرفة صوتية مدة 30 دقيقة، ثم تشغيل صوت إعلانات طعام القطط مع فتح بعض التطبيقات الشهيرة وإعطائها صلاحية الوصول إلى الأذونات المتوفرة لديها كافة، وهاتفين آخرين في غرفة صوتية صامتة.

ثم بحثوا عن الإعلانات المتعلقة بتغذية الحيوانات الأليفة على كل منصة وصفحة ويب، كما حللوا استخدام البطارية واستهلاك البيانات على الهواتف خلال مرحلة الاختبار. كُررت التجربة مدة ثلاثة أيام والنتيجة كانت أنهم لم يلاحظوا أي إعلانات ذات صلة بأغذية الحيوانات الأليفة على الهواتف الذكية التي وُضعت في غرفة الصوت، بالإضافة إلى عدم وجود ارتفاع ملحوظ في كمية استهلاك البيانات التي تتطلبها عملية تسجيل المحادثات ورفعها، أو طاقة البطارية التي يتطلبها استخدام الميكروفون.

اقرأ أيضاً: 5 إعدادات أساسية عليك ضبطها عند الترقية إلى آي أو إس 18 (iOS 18)

إذاً، لماذا تظهر إعلانات منتج ما في حساباتك بعد الحديث عنه مع شخص آخر؟

إجابة السؤال بكل بساطة تكمُن في تكنولوجيا التتبع (Tracking Technology) التي تشير إلى مجموعة متنوعة من التكنولوجيات التي تُستخدم في جمع معلومات حول المستخدمين أو الأشياء أو المواقع، وهي التكنولوجيا الأساسية التي تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي لإظهار الإعلانات لمنتجات تحدثت عنها مع صديق دون البحث عنها فعلياً.

سيناريو تخيلي

لنفترض أنك في صالة رياضية مع أحد أصدقائك تتمرنان ويخبرك صديقك عن الحذاء الرياضي الجديد الذي اشتراه للتو، والذي لم تسمع عنه من قبل أبداً ولم يسبق لك أن بحثت عنه وحتى لم تُرسل رسالة تحتوي على اسم الحذاء بأي طريقة كانت عبر أجهزتك الرقمية، فقط أنت وصديقك دون وجود أي شخص آخر بجواركما أجريتما حديثاً ممتعاً غير مخطط له عن المنتج بصوت عالٍ ثم نسيت الموضوع.

ولكن لاحقاً بعد ساعات وفي أثناء تصفحك حسابك في منصة فيسبوك، فجأة يظهر لك إعلان في خلاصة صفحتك الرئيسية يحثك على شراء المنتج نفسه الذي تحدثت عنه مع صديقك، ما يجعلك تتساءل لماذا ظهر إعلان لهذا المنتج بالتحديد؟

الجواب هو لا، لم يستمع فيسبوك إلى المحادثة التي أجريتها مع صديقك عبر ميكروفون هاتفك كما قد تعتقد، بدلاً من ذلك فإن منصة فيسبوك جيدة جداً في فهم سلوك المستخدم وتفضيلاته ونشاطه عبر المنصة بفضل خوارزمياتها التي تتطور يوماً بعد يوم، ومن ثَمَّ فهي جيدة جداً في تتبعك بطرق أخرى تجعلك تشعر بهذا الشعور.

اقرأ أيضاً: أهم 5 تحديثات قادمة لنظام تشغيل آيفون 15 برو عليك معرفتها

الحقيقة الراسخة التي ربما قد تسمع عنها أول مرة هي أن منصة فيسبوك بالتحديد، وبعض الشركات التكنولوجية الكبرى المرتبطة منتجاتها بمستخدم الإنترنت مثل جوجل وأمازون، جيدة جداً في مراقبة سلوكياتنا عبر الإنترنت، حيث لديها مليارات من معلومات التعريف الشخصية (PII) المفصلة حول معظم ما نقوم به عبر الإنترنت، مثل ما هي مواقع الويب التي نزورها بانتظام والمصطلحات التي نبحث عنها وما نشتريه عبر الإنترنت، ويعود ذلك إلى تكنولوجيات التتبع المعقدة التي تستخدمها والتي لها تأثير مباشر في الإعلانات التي نراها.

بالرجوع إلى السيناريو مرة أخرى، فإن تكنولوجيا تتبع الموقع التي تُعدّ إحدى تكنولوجيات التتبع العديدة، لها دور بارز في ظهور الإعلان في حسابك. فحتى عندما لا تستخدم أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، فإنه يمكن تتبعك بسبب موافقتك بقصد أو غير قصد على منح التطبيق إذن الوصول إلى موقعك الجغرافي، والذي يؤكد فيسبوك وغيره من التطبيقات الأخرى أنه مهم جداً لتحسين تجربة الاستخدام. لذلك في بعض الأحيان ترى اقتراحات صداقة لأشخاص لم تتعرف عليهم من قبل، ولكن تعرف بطريقة أو أخرى أنهم عاشوا أو يعيشون في منطقتك الجغرافية.

بهذه الطريقة يتمكن فيسبوك غالباً من تحديد أنك وصديقك في النادي الرياضي نفسه، ويعرف مسبقاً بوجود حلقة وصل بينكما وهو صداقتكما في المنصة، لذا إذا كان هذا الصديق قد أجرى سابقاً أي تفاعل عبر الإنترنت -سواء عبر البحث أو الشراء- يتعلق بالحذاء الرياضي، فإن فيسبوك مع علمه مسبقاً بهذا التفاعل وصداقتكما عبر المنصة يربط البيانات ببعضها بعضاً لعرض الإعلان لك.

وبطريقة أخرى حتى لو كان صديقك (الصديق أ) قد أجرى محادثة فقط حول المنتج مع صديق آخر (الصديق ب)، فقد يكون (الصديق أ) هو الشخص المتلقي للإعلان قبل التحدث عنه معك، وهو ما يكون كافياً لمنصة فيسبوك لعرض تجربة الإعلان لك أيضاً.

علاوة على ذلك، تتجاوز خوارزميات فيسبوك مجرد استخدام تكنولوجيا تتبع الموقع، فهي تقارن اهتماماتك ومعلوماتك الديمغرافية ونشاطك عبر الإنترنت باهتمامات أصدقائك، ومن ثَمَّ إذا كان ملفك الشخصي متشابهاً وأبدى صديقك اهتماماً بمنتج ما، فإن فيسبوك يعتبره إشارة لعرض الإعلان نفسه لك، وهي القوة الكامنة في تكنولوجيا تحليل البيانات التي تساعد فيسبوك على تحليل كل نقرة إعجاب أو مشاركة أو تعليق في فهم اهتماماتك ومشاركتها مع المعلنين، الذين يتمكنون بدورهم من إنشاء حملات إعلانية أكثر تركيزاً واستهدافاً.

اقرأ أيضاً: بماذا يتميز محرك بحث أوبن أيه آي سيرش جي بي تي عن جوجل؟

لكن ماذا عن تلك اللحظات التي تفكّر فيها في منتج ما ثم ترى إعلاناً عنه؟

ببساطة من المحتمل جداً أن تكون مصادفة فقط لا غير، فأي معلومة جمعها فيسبوك أو أي منصة أخرى (حتى لو كانت شبه مرتبطة بالفكرة)، سواء قبل فكرتك أو بعدها، من الممكن أن تؤدي إلى عرض الإعلان، علاوة على ذلك قد يؤدي ما يُسمَّى في علم النفس التحيز التأكيدي (Confirmation Bias)، وهو تفسير الناس المعلومات دون وعي بطريقة تؤكد وجهات نظرهم حتى لو كانت الأدلة المقدمة غير حاسمة، إلى تغذية مثل هذه النظريات باستمرار ما يساعد على نشرها، وغياب إجابات علمية راسخة قد يؤدي في نهاية الأمر إلى جعلها حقيقة راسخة.

وهذا لا يبرئ تطبيقات التواصل الاجتماعي وغيرها من التطبيقات الأخرى من تتبعها المستخدمين، بل هي تفعل ذلك بالتأكيد مستخدمة أدوات قد لا يعرف عنها المستخدمون شيئاً حتى الآن، ومع ذلك فإن نظرية استماع الهاتف إلى محادثات المستخدمين دون علمهم هي حتى الآن نظرية ثبت عدم صحتها، علاوة على ذلك يوفّر تطبيق فيسبوك خاصية مهمة وهي لماذا أرى هذا الإعلان Why I See This Ads يمكنك النقر عليها لمعرفة معلومات الجمهور المستخدمة في الإعلان الذي يعتقد أنك تتطابق معه.

المحتوى محمي