لطالما سمعنا جميعاً عبارة "البيانات نفط المستقبل"، وهي تبرز الأهمية البالغة للبيانات بوصفها مورداً أشبه بالوقود للبلدان والأنظمة الاقتصادية وحتى حياتنا اليومية. كان عالم البيانات ومؤسس خدمة كلوب كارد (Clubcard) في شركة تيسكو (Tesco) البريطانية كلايف هامبي، أولَ من قال هذه الجملة في 2006. ولكن، ما مدى صحة هذا التشبيه؟
لنتعمق قليلاً في أوجه التشابه وأوجه الاختلاف القائمة بين البيانات والنفط وفق 4 أبعاد رئيسية: الاستخراج، والتكرير، والاستخدام والقيمة، والمخاطر.
اقرأ أيضاً: 5 من أهم الدورات التدريبية في مجال تحليل البيانات
ما أوجه التشابه والاختلاف بين النفط والبيانات؟
الاستخراج
تركزت ملكية كلٍّ من البيانات والنفط منذ البداية على نحو يتناسب مع مصادرها؛ بالنسبة للنفط، يتجسد هذا الأمر في مناطق جغرافية محددة، وفي المقابل تتركز ملكية البيانات في الشركات التكنولوجية العملاقة، مثل جوجل وميتا ونتفليكس وأمازون ومايكروسوفت وآبل، التي تولّد قرابة 57% من حركة البيانات في العالم، وفقاً لدراسة أجرتها شركة ساندفاين (Sandvine) في 2021.
لكن البيانات ليست سلعة طبيعية المنشأ كالنفط، بل هي منتج ثانوي للنشاط البشري.
ويُعد النفط مورداً محدوداً، أمّا البيانات فهي وفيرة وتزداد بصورة متواصلة. ومع استخدام البيانات في تشغيل تطبيقات عديدة، مثل السيارات ذاتية القيادة والأجهزة القابلة للارتداء والأقمار الاصطناعية، فإنها تنتج المزيد من البيانات في الوقت نفسه. وخلافاً النفط، لا تُستهلك البيانات عند جمعها، وعلى الرغم من بعض العوائق المتعلقة بالملكية وسُبل الوصول، لا يمكن عملياً منع الآخرين من استخدامها، فهي سلعة عامة يستطيع الكثيرون استخدامها مراراً وتكراراً.
من وجهة نظر اقتصادية، فإن البيانات أقرب ما تكون إلى رأس المال منها إلى سلعة؛ فمالكوها يُقرضونها أو يستثمرونها لأغراض إنتاجية ويتوقعون الحصول على عائدات لقاء ذلك. وعلى النقيض من النفط، تُستخرَج البيانات من البشر ومن نشاطاتهم، وقد تحولت كلٌّ من ملكية بياناتنا وحق الاستفادة منها إلى موضوع نقاش حاد أدّى إلى ظهور أفكار مثل مخازن البيانات الشخصية المحمية، ونماذج البيانات التي تتمحور حول الاستخدام، وحتى اعتبار البيانات حقاً من حقوق الإنسان، وفقاً للموسيقي ورائد الأعمال الشهير ويل آي آم. كما يؤكد عالم الحاسوب والفنان وفيلسوف التكنولوجيا والمؤلف جارون لانيير، أن منتجي البيانات (أي الناس) يجب أن يحصلوا على تعويضات من مستخدمي البيانات (أي الشركات التكنولوجية).
التكرير
يحتاج كلٌّ من النفط والبيانات على حد سواء إلى التكرير (التصفية) للاستفادة من القيمة الكامنة فيهما؛ فالنفط الخام يمر بعملية معقدة تحوّله إلى مجموعة من المنتجات الصالحة للاستخدام مثل البنزين وزيت الديزل والكيروسين، أمّا تكرير البيانات فيتم عبر جمع البيانات وتحضيرها (أي تنقيتها وتنظيمها) ومعالجتها وتفسيرها وتخزينها.
وعلى عكس النفط، لا يتطلب تكرير البيانات رأس مال كبيراً، بل مجرد تكاليف هامشية منخفضة للغاية لأغراض الإنتاج والنقل والتخزين. وهنا تكمن الفائدة الاجتماعية؛ فالتكاليف الثابتة المشتركة تعوّض الأضرار التي تلحق بالقوة السوقية. علاوةً على ذلك، تتطلب عملية تكرير البيانات تقييماً وتنقيحاً متخصصين لكل مجموعة بيانات حسب طبيعتها ومحتواها، وهو ما يمثّل تحدياً على عكس عملية تكرير النفط والتي تكون في أغلبها موحدة بغض النظر عن مصدر النفط أو الجهة المكررة له.
اقرأ أيضاً: ما أبرز خطوات تحويل البيانات الضخمة إلى بيانات حقيقية؟
الاستخدام والقيمة
يمثّل النفط والبيانات مُدخلات قيّمة للأنظمة الاقتصادية الصناعية (بالنسبة للنفط) والرقمية (بالنسبة للبيانات)، ويتمتع دور كلٍّ من النفط والبيانات بأهمية كبيرة في قطاعات مثل النقل والتصنيع، لكنهما يتميزان بخصائص جوهرية مختلفة تحدد طبيعة استخدامهما وقيمتهما.
فالنفط سلعة قابلة للاستبدال؛ أي أنه يسهل إخضاعها لمعايير موحدة وتسعيرها والمتاجرة بها، كما أنها تُتيح تحقيق وفورات الحجم. وحالما يُستعمل النفط يكون قد استُهلك بلا رجعة. أمّا البيانات فهي غير قابلة للاستبدال، فكل مجموعة بيانات تتميز باستخدامات محددة وتتوقف معدلات عائداتها على حجم الإنتاج، وبما أن البيانات غير قابلة للاستهلاك، فقيمتها تزداد كلما زاد استخدامها، ولكن قيمتها بالنسبة للكثير من التطبيقات يمكن أن تتضاءل بسرعة مع مرور الزمن بحيث تصبح البيانات قديمة وغير ذات جدوى لتلك التطبيقات.
يتميز النفط بأنه "سلعة محكومة بالتنقيب"، أي أن قيمته تتحدد فور الحصول عليه. أمّا البيانات فهي "سلعة محكومة بالتجربة"، أي أن قيمتها قابلة للتحديد عند الاستخدام فقط، وهناك انعكاسات لهذا التمايز في التصنيف على التشريعات المرتبطة بالبيانات، فعلى سبيل المثال تفرض لائحة الاتحاد الأوروبي لحماية البيانات (GDPR) على الجهات التي تعالج البيانات أن تعلن مسبقاً عن هدفها من استخدام هذه البيانات.
المخاطر
ثمة مخاطر تتعلق بكلٍّ من النفط والبيانات؛ فالنفط يشكّل تهديدات بيئية، على حين يمكن لجمع البيانات أن يعرّض الخصوصية للخطر، ويمكن لإساءة استخدامها أن تؤدي إلى انتحال الشخصية، لذا يحتاج كلاهما إلى التعامل الحذِر.
لكن إدراكنا للمخاطر المتعلقة بالبيانات وقدرتنا على تخفيفها أقل تطوراً مقارنة بالنفط، ومع التزايد المطّرد لكمية البيانات وتنوع مصادرها، والتطورات السريعة التي تشهدها التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والميتافيرس، فإن إدراكنا للمخاطر المتعلقة بها لا يزال قاصراً في أغلب الأحيان.
من الضروري الاعتماد على الإدارة الفعّالة للبيانات لموازنة مخاطرها دون إعاقة الابتكار، وثمة حاجة ماسة إلى الوضوح والشفافية فيما يتعلق بخصوصية البيانات ومشاركتها والاستفادة المالية منها وتطبيقاتها الثانوية.
تحديات مستقبلية أمام الحكومات والشركات
إذاً، هل تمثّل البيانات نفط المستقبل؟ من حيث الأهمية الاقتصادية للبيانات فإن الإجابة هي: أجل. ولكن الاختلافات الجذرية بين الموردين تلفت انتباهنا إلى ضرورة عدم المبالغة في تبسيط هذا التشبيه.
تطرح هذه المقارنة أسئلة جوهرية على الحكومات والمجتمعات والشركات:
- مَن يجب أن يمتلك البيانات؟ الأفراد الذين يولّدونها أمْ الحكومات والشركات التي تجمعها؟ وكيف يجب دفع التعويضات لقاء استخدامها؟
- هل تُعد البيانات أصولاً آمنة أكثر من النفط؟ وكيف يمكن أن نزيد من سرعة إدراكنا لمخاطر البيانات ونعثر على طرق لتخفيفها؟
- كيف تُحدث البيانات تحولات في طبيعة المنافسة القائمة في اقتصاد المعرفة، حيث يحتمل أن تصبح وفورات الحجم الاقتصادية التقليدية فكرة غير قابلة للتطبيق؟
اقرأ أيضاً: ما أبرز طرق وأدوات تحليل البيانات الضخمة؟
في حقبة تتميز بالتحولات القائمة على البيانات، تتمتع هذه الأسئلة بأهمية بالغة بينما نواجه ما ينتظرنا في المستقبل من تحديات وفرص سانحة.