مؤخراً، وفي أحد الصباحات المذهلة في بالم سبرينغز في كاليفورنيا، اعتلت فيفيان سي منصة صغيرة لتقديم عرضٍ ربما هو أكثر العروض التقديمية إثارة للأعصاب في حياتها المهنية.
كانت تعرف الموضوع قلباً وقالباً. كان عليها أن تحدث الجمهور عن الشرائح الإلكترونية، التي يتم تطويرها في مختبرها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والتي تَعِد بمنح الذكاء الاصطناعي الفعال إلى العديد من الأجهزة التي تكون الطاقة لديها محدودة، بعيداً عن متناول مراكز البيانات الضخمة حيث تجري معظم العمليات الحسابية للذكاء الاصطناعي. ومع ذلك فإن الحدث -والجمهور- قد حملا سي على التأمل.
مسرح الحدث كان مارس MARS، وهو مؤتمر مخصص للنخبة يحضره المدعوون فقط، حيث تتجول الروبوتات (أو تطير) عبر منتجع فاخر، مختلطة مع العلماء المشهورين ومؤلفي الخيال العلمي. ولم تُوجَّه الدعوة إلا إلى عدد قليل من الباحثين لإجراء محادثات تقنية، ومن المفترض أن تكون الجلسات مهيبة وملهمة.
في الوقت ذاته، كان الحشد يتضمن نحو 100 من أبرز الباحثين، والمديرين التنفيذيين، ورواد الأعمال في العالم. ومن يتولى استضافة المؤتمر مارس هو مؤسس شركة أمازون ورئيس مجلس إدارتها جيف بيزوس شخصياً، وقد كان جالساً في الصف الأمامي من الحضور.
تتذكر سي وهي تضحك: "يمكن القول إنه كان جمهوراً من العيار الثقيل".
قد يقوم متحدثون آخرون في مؤتمر مارس بتقديم روبوت يؤدي حركات الكاراتيه بذراعيه، وطائرات مسيرة ترفرف مثل حشرات صامتة مخيفة كبيرة الحجم، وحتى مخططات متفائلة لإقامة مستعمرات على المريخ. وقد تبدو شرائح سي الإلكترونية أكثر تواضعاً للعين المجردة، حيث يتعذر تمييزها عن الشرائح التي تجدها داخل أي من الأجهزة الإلكترونية. ولكن يمكن القول بأنها أكثر أهمية بكثير من أي شيء آخر سيتم عرضه خلال المؤتمر.
قدرات جديدة
إن الشرائح الإلكترونية التي تم تصميمها حديثاً -كتلك التي يجري تطويرها في مختبر سي- قد تلعب دوراً حاسماً في التقدم المستقبلي الذي ينتظر الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك أشياء مثل الطائرات المسيرة والروبوتات الموجودة في مارس. وحتى الآن، تم تشغيل برمجيات الذكاء الاصطناعي بنسبة كبيرة على شرائح إلكترونية رسومية، ولكن العتاد الصلب الجديد قد يجعل خوارزميات الذكاء الاصطناعي أكثر قوة، وبالتالي يكون من شأنه أن يفتح المجال أمام ظهور تطبيقات جديدة. ويمكن لشرائح الذكاء الاصطناعي الجديدة هذه أن تجعل روبوتات المخازن أكثر شيوعاً، أو تسمح للهواتف الذكية بإنشاء مشاهد للواقع المعزز مدعمة بصور واقعية.
وتتميز شرائح سي بأن تصميمها يجمع بين الكفاءة والمرونة، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لمجال يتطور بسرعة مذهلة.
وقد تم تصميم تلك الشرائح الإلكترونية الصغيرة لاستخلاص المزيد من قدرات خوارزميات الذكاء الاصطناعي للتعلم العميق التي تمكنت من قلب العالم رأساً على عقب، وفي هذه العملية، قد تحث هذه الشرائح تلك الخوارزميات نفسها على التطور.
تقول سي: "نحن في حاجة إلى عتاد صلب جديد لأن قانون مور قد تباطأ". وذلك في إشارة منها إلى القاعدة البديهية التي وضعها المؤسس المشارك لشركة إنتل "جوردون مور"، التي تنبأت بأن عدد الترانزستورات التي توضع على الشريحة الإلكترونية الواحدة سوف يتضاعف كل 18 شهراً تقريباً، مما يؤدي إلى تعزيز القدرة الحاسوبية بشكل متناسب من حيث الأداء.
يقترب هذا القانون الآن على نحو متزايد من الحدود الفيزيائية التي تترافق مع المكونات الهندسية على المستوى الذري، وهو أمر يثير اهتماماً جديداً بالبنى البديلة والأساليب المتبعة في الحوسبة.
وإن المخاطر الكبيرة المرتبطة بالاستثمار في الجيل التالي من شرائح الذكاء الاصطناعي، والحفاظ على هيمنة أميركا في صناعة الشرائح الإلكترونية بصورة عامة، هي جوانب لا تغفل عنها الحكومة الأميركية، حيث يتم تطوير شرائح سي الإلكترونية الصغرية بتمويل من برنامج وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية (داربا) الذي يهدف إلى المساعدة في تطوير تصاميم جديدة لشرائح الذكاء الاصطناعي (انظر المقالة: "خطة الولايات المتحدة كي تبقى متقدمة على الصين في الذكاء الاصطناعي").
ولكن الابتكار في صناعة الشرائح الإلكترونية كان مدفوعاً في الغالب بظهور التعلم العميق، فهو وسيلة قوية للغاية تمكّن الآلات من تعلم أداء المهام المفيدة. فبدلاً من تقديم مجموعة من القواعد للحاسوب لكي يتبعها، تقوم الآلة ببرمجة نفسها ببساطة.
يتم تلقيم شبكة محاكاة عصبونية ببيانات التدريب، ليتم تعديلها بعد ذلك حتى تعطي النتائج المرغوبة. ومع إجراء قدر كافٍ من التدريب، يمكن لنظام التعلم العميق أن يعثر على أنماط خفية ومجردة من البيانات. ويتم تطبيق هذه التقنية على مجموعة متنامية من المهام العملية، ابتداءً من التعرف على الوجوه في الهواتف الذكية وانتهاءً بالتنبؤ بالأمراض بالاعتماد على الصور الطبية.
سباق الشرائح الجديدة
لا يعتمد التعلم العميق كثيراً على قانون مور؛ فالشبكات العصبونية تنفذ العديد من العمليات الحسابية الرياضية على التوازي، وبالتالي فهي تعمل بفعالية أكبر بكثير على بطاقات ألعاب الفيديو الرسومية المتخصصة، والتي تنجز العمليات الحسابية المتوازية لتشكيل الصور ثلاثية الأبعاد. ولكن الشرائح الصغرية المصممة بشكل خاص لتنفيذ العمليات الحسابية التي تدعم التعلم العميق، ينبغي أن تتمتع بقدرات أعلى بكثير.
وإن إمكانية تصميم بنى جديدة من الشرائح لتحسين الذكاء الاصطناعي قد أدت إلى رفع مستوى النشاطات الريادية بمعدل لم تشهده صناعة الشرائح الإلكترونية منذ عقود.
إن الشركات التكنولوجية الكبرى التي تأمل في تسخير الذكاء الاصطناعي وتسويقه تجارياً -بما في ذلك جوجل، ومايكروسوفت، وأمازون بالطبع- كل منها تعمل على شريحة التعلم العميق الخاصة بها. وكذلك العديد من الشركات الأصغر حجماً تعمل على تطوير شرائح جديدة بدورها أيضاً. يقول مايك ديلمر، محلل الشرائح الصغرية في شركة لاينلي جروب المتخصصة في التحليلات: "من المستحيل تتبع جميع الشركات التي تهرع إلى العمل في مجال شرائح الذكاء الاصطناعي". ويضيف: "صدقوني إننا نكتشف وجود شركة جديدة كل أسبوع تقريباً".
وتقول سي إن الفرصة الحقيقية لا تتمثل في تطوير أقوى نوع ممكن من شرائح التعلم العميق؛ حيث إن كفاءة استهلاك الطاقة أمر مهم لأن الذكاء الاصطناعي في حاجة أيضاً إلى العمل بعيداً عن متناول مراكز البيانات الكبيرة، مما يعني الاعتماد فقط على الطاقة المتوفرة على الجهاز نفسه للعمل. وهو ما يُعرف بالعمل على "الحافة".
يقول نافين راو، نائب رئيس مجموعة منتجات الذكاء الاصطناعي في إنتل: "سيكون الذكاء الاصطناعي في كل مكان، وسيكون اكتشاف الوسائل اللازمة لجعل الأشياء أكثر كفاءة في استخدام الطاقة أمراً في غاية الأهمية".
وعلى سبيل المثال، فإن العتاد الصلب الخاص بفيفيان سي أكثر كفاءة جزئياً لأنه يحد فعلياً من الاختناقات التي تحدث بين مكان تخزين البيانات ومكان تحليلها، وأيضاً لأنه يستخدم تصاميم ذكية لإعادة استخدام البيانات. وقد كانت سي -قبل انضمامها إلى معهد إم آي تي- رائدةً في هذا الأسلوب لتحسين كفاءة ضغط الفيديو أثناء وجودها في شركة تكساس إنسترومنتس.
وبالنسبة لمجال يتطور بوتيرة سريعة مثل التعلم العميق، فإن التحدي الذي يواجه العاملين على شرائح الذكاء الاصطناعي هو التأكد من أنها مرنة بما يكفي ليتم تعديلها كي تعمل مع أي تطبيق كان. ورغم أن من السهل تصميم شريحة فائقة الكفاءة قادرة على القيام بشيء واحد فقط، إلا أن منتجاً كهذا سوف يتقادم بسرعة.
ويُطلَق على شريحة سي اسم "آيريس Eyeriss"، وقد تم تطويرها بالتعاون مع جويل إيمر، وهو عالم أبحاث في شركة إنفيديا وبروفيسور في إم آي تي، وقد جرى اختبارها إلى جانب عدد من المعالجات المعيارية لمعرفة الكيفية التي تتعامل بها مع مجموعة من خوارزميات التعلم العميق المختلفة. ومن خلال تحقيق التوازن بين الكفاءة والمرونة، تتفوق الشريحة الجديدة على العتاد الصلب الموجود اليوم من حيث كفاءة الأداء بنحو 10 أضعاف أو حتى 1,000 ضعف، وذلك وفقاً لما جاء في ورقة بحثية تم نشرها على الإنترنت العام الماضي.
تُحدث شرائح الذكاء الاصطناعي الأكثر بساطة اليوم تأثيراً كبيراً، فالهواتف الذكية المتطورة تتضمن أساساً شرائح مصممة بالشكل الأمثل لتنفيذ خوارزميات التعلم العميق للتعرف على الصور والصوت. ويمكن للشرائح الأكثر كفاءة أن تسمح لهذه الأجهزة بتنفيذ رماز برمجي للذكاء الاصطناعي أكثر قوة مع إمكانات أفضل. كما أن السيارات ذاتية القيادة تحتاج أيضاً إلى شرائح حاسوبية فعالة للذكاء الاصطناعي، حيث تعتمد معظم النماذج الأولية حالياً على مجموعة كبيرة من الأجهزة الحاسوبية.
يقول راو إن شرائح إم آي تي واعدة، ولكن هناك العديد من العوامل التي ستحدد ما إذا كانت بنية العتاد الصلب الجديد ستنجح أم لا. كما يقول إن أحد أهم العوامل هو تطوير برنامج يتيح للمبرمجين تنفيذ الرماز البرمجي على هذا العتاد. ويضيف: "إن جعل شيء قابلاً للاستخدام من وجهة نظر المترجم ربما يكون العقبة الأكبر والوحيدة أمام اعتماده".
إضافة إلى ذلك فإن مختبر سي يعمل في الحقيقة على استكشاف طرق لتصميم البرمجيات بحيث يستثمر بشكل أفضل خصائص الشرائح الحاسوبية الموجودة حالياً. وهذا العمل لا تقتصر حدوده على التعلم العميق.
قامت سي رفقة سيرتاك كارامان، من قسم الملاحة الجوية والفضائية في إم آي تي، بتطوير شريحة منخفضة الطاقة تُسمى نافيون، وهي تنجز رسم الخرائط ثلاثية الأبعاد والتنقل بكفاءة مذهلة، ليتم استخدامها على متن طائرة صغيرة مسيرة. وقد لعب كلٌّ من صناعة الشريحة اللازمة لاستثمار سلوك الخوارزميات التي تركز على التنقل، وتصميم الخوارزمية لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من شريحة مخصصة، دوراً بالغ الأهمية بالنسبة لهذا الجهد.
وإلى جانب العمل على التعلم العميق، تعكس نافيون الطريقة التي بدأت برمجيات الذكاء الاصطناعي والعتاد الصلب الآن تتطور وفقها في تناسق تام.
وقد لا تكون شرائح سي ملفتة للانتباه مثل طائرة مسيرة ترفرف بأجنحتها، ولكن الحقيقة القائلة بأنه تم عرضها في مؤتمر مارس، تمنح بعض الإحساس بمدى أهمية التكنولوجيا الخاصة بسي، والابتكار في مجال السيليكون بصورة أعم، بالنسبة لمستقبل الذكاء الاصطناعي.
وتقول سي بعد أن قدمت عرضها التقديمي إن بعضاً من متحدثي مارس الآخرين قد عبروا عن اهتمامهم باكتشاف المزيد، وتضيف: "وجد الناس الكثير من حالات الاستخدام المهمة".
بعبارة أخرى، تُوقع للروبوتات والطائرات المسيرة الملفتة للنظر في مؤتمر مارس القادم أن تخفي في داخلها أشياء خاصة إلى حد ما.