يقال إنه إذا كان الشيء يبدو كبطة، ويسبح كبطة، ويُوَقوق مثل بطة، فهو بطة على الأرجح. ولكن إذا ظهر شخص ما في مقطع فيديو، وكان مماثلاً لك من حيث العرق والجنس والعمر، وكان يحمل نفس الإيماءات والتعابير العاطفية -بل أيضاً كان مبنياً عليك في الواقع- غير أنه لا يبدو مثلك، فهل هو أنت أم لا؟
الجواب هو كلا، على الأقل وفقاً لجيل بيري، أحد مؤسسي شركة الخصوصية دي آي دي، الذي يقول إن هذا هو سبب نجاح شركته الناشئة. حيث تقوم دي آي دي باستخدام الرؤية الحاسوبية والتعلم العميق على مقاطع الفيديو -المُلتقطة داخل متجر مثلاً- لتشكيل مقطع فيديو بديل يحمي هوية الأشخاص ضمنه، وذلك بتحويل الشكل الأصلي للشخص ضمن الفيديو إلى شكل بديل يتمتع بجميع المواصفات المميزة ولكنه مختلف قليلاً.
الناحية الإيجابية في هذا الأسلوب هو أن الفيديو الجديد "منزوع الهوية" لا يتضمن الهوية الفعلية للزبون، وهو ما يعني -وفقاً لبيري- أن الشركات التي تعتمد على خدمات دي آي دي تستطيع أن "تستغني عن الحاجة إلى الموافقة" وتقوم بتحليل الفيديو لأغراض الأعمال والتسويق. وعلى سبيل المثال، يمكن أن يقوم المتجر بتلقيم مقطع فيديو لامرأة سعيدة الشكل من العرق الأبيض إلى خوارزمية تعرض أكثر الإعلانات فعالية بالنسبة لها في الزمن الحقيقي. ومن الجدير بالذكر أن شرعية استخدام التعرف على العواطف أصبحت مثار جدل كبير، ووصل الأمر بإحدى المجموعات البحثية الهامة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى الدعوة إلى حظر استخدامها كلياً.
وقد حققت أمثلة مختلفة من خدمة "إزالة الهوية الذكية" من دي آي دي درجاتٍ متفاوتة من النجاح في إزالة الهوية من الفيديو. ففي إحدى التجارب، يبدو الشكل الجديد لرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون قريباً إلى شكله الأصلي، ولكن بشارب. وفي صورة ساكنة أخرى، تبدو امرأة مختلفة نوعاً ما عن شكلها الأصلي، ولكن الشكلين ما زالا متشابهين إلى درجة كبيرة. وفي صورة ثالثة، يتغير شكل الممثل براد بيت إلى درجة يستحيل معها التعرف عليه.
ولم تفصح دي آي دي عن أسماء محددة لعملائها، ولكن بيري قال إن الشركة تعمل بشكل أساسي مع شركات للتجارة بالتجزئة، وشركات للسيارات، و"مجموعات شركات كبيرة لتركيب كاميرات المراقبة في أوروبا". وبالنسبة لآن كافوكيان، وهي عضو في المجلس الاستشاري في دي آي دي والمفوضة السابقة للخصوصية في مقاطعة أونتاريو الكندية، فإن هذ الحل يمثل "مكسباً للجميع".
غير أن خبراء آخرين يقولون إن الشركة أساءت تفسير القانون العام الأوروبي لحماية البيانات، ولا تعمل كما يُفترض بها أن تعمل، بل يجب على الأرجح ألا تعمل على أية حال.
انتهاك للقانون العام لحماية البيانات؟
تحدث ثلاثة من كبار خبراء الخصوصية في أوروبا مع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، عبروا عن قلقهم إزاء تكنولوجيا دي آي دي ونواياها. وقد قال ثلاثتهم إن دي آي دي -في رأيهم- تنتهك القانون العام لحماية البيانات، على الرغم من أن عملها قد يكون قانونياً تماماً خارج مناطق الاتحاد الأوروبي.
يُذكر أن العرق يعتبر أحد الخصائص المميزة وفق القانون العام لحماية البيانات، مما يعني أن معالجة البيانات التي تتضمن العرق تتطلب موافقة صريحة، كما يشرح جيتان جولدبيرج، وهو محامٍ مختص بخصوصية البيانات، ويعمل مع منظمة إن أو واي بي المختصة بمراقبة تطبيق القانون العام لحماية البيانات. ويمكن أن يؤدي انتهاك قواعد هذا القانون إلى غرامات تصل إلى 20 مليون يورو أو 4% من الدخل السنوي للشركة، أيهما أعلى.
ولكن عندما عُرضت هذه المخاوف على محامي الخصوصية ديفيد ميرتشين، الذي يقدم استشاراته لدي آي دي، أعربَ عن وجهة نظر مخالفة للخبراء؛ حيث يزعم أنه "لا توجد أية مرحلة في الحل الذي قدمته دي آي دي للإزالة الذكية للهوية تتضمن أي شكل من التحليل أو الكشف أو التخزين" لهذه البيانات الحساسة، ويضيف بيري أن دي آي دي مستعدة لإزالة هوية البيانات العرقية أيضاً. غير أن المحامين الخارجيين قالوا من جهة أخرى إن مجرد تحديد الوجوه، سواء بهدف "إزالة هويتها" أو غير ذلك، يمثل انتهاكاً للقانون.
يقول بيري وميرتشين أيضاً إنه من المسموح تلقيم بيانات القياسات الحيوية منزوعة الهوية إلى الخوارزميات. ولكن على الرغم من أن القانون العام لحماية البيانات لا ينطبق على البيانات منزوعة الهوية، فإن الشركة الناشئة لا تقوم في الواقع بنزع هوية الفيديو على أي حال، وذلك وفقاً لمايكل فيل، خبير الخصوصية في جامعة لندن، حيث إن الفيديو المعدل لا يُعتبر منزوع الهوية وفق القانون العام لحماية البيانات؛ وذلك لأن نزع الهوية بشكل فعلي من البيانات يقتضي استحالة ربط معلومة واحدة مع فرد معين حتى عند جمعها مع بيانات أخرى، وهو معيار صارم للغاية.
ولكن حتى لو لم يكن الفيديو المُعدل مطابقاً للشكل الأصلي، فإن من الممكن جمعه مع معلومات أخرى -مثل بيانات الموضع المأخوذة من مواقع التواصل الاجتماعي، أو سجلات بطاقة الائتمان- وربطه مع الشخص الحقيقي. إضافة إلى ذلك، يقول فيل إن هذه التكنولوجيا لا تعني حصول الشركات تلقائياً على تفويض مطلق "لاستغلال كاميرات المراقبة لأغراض سخيفة تتعلق بالأعمال، ولا تفيد الصالح العام مثل مكافحة الجريمة".
روح القانون
إن مجرد تقديم دي آي دي لنفسها على أنها مختصة بحلول الخصوصية يكشف بعض الأشياء عنها؛ فمع ظهور قوانين جديدة لحماية البيانات، مثل القانون العام لحماية البيانات وقانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا، وكونها ما زالت مفتوحة أمام التأويلات المختلفة، أثبتت بعض الشركات عبقرية لافتة في تسويق نفسها؛ حيث إن هذه التكنولوجيات "تتوافق" مع القوانين بطريقة تفيد الشركات التي تريد جني الأرباح من البيانات، بدلاً من إفادة الناس أصحاب هذه البيانات، وهو -وفقاً للمنتقدين- انتهاك لروح القانون. وبالنسبة لبريت باريس، وهو أكاديمي مختص بعلم المعلومات في جامعة روتجيرز، فإن دي آي دي تحمل طابعاً انتهازياً، وتُعتبر مثالاً على "زيادة استغلال انتشار البيانات في كافة نواحي الحياة اليومية".
ولكن كافوكيان من دي آي دي تقول إنها ليست "متشددة إزاء الخصوصية"، وتعتقد أنه لا توجد أية مشكلة في جمع البيانات بشرط إخفاء الهويات الحقيقية للأشخاص، وتقول: "إذا كنت تريد منع جمع أية بيانات عنك على الإطلاق في هذا العصر -على الرغم من عدم وجود أية مشكلة في الخصوصية بعد نزع الهويات- فلن تتمكن من الابتعاد كثيراً عن منزلك. إنها حقائق العصر".
أصبحت المراقبة أكثر انتشاراً وتوسعاً. وقد وجدت دراسة حديثة من مركز بيو البحثي أن معظم الأميركيين يعتقدون أنهم قيد التتبع باستمرار، ولكن لا يوجد ما يمكن فعله إزاء هذا الأمر، وأنه من المتوقع أن تنمو سوق التعرف على الوجوه من حوالي 4.5 مليار دولار في 2018 إلى 9 مليار دولار بحلول العام 2024. وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع الراهن حول المراقبة لم يردع الناشطين عن محاولة تغيير الأمور. وقد تعتبر دي آي دي نفسها بمثابة حل وسط بين التشدد في الخصوصية والاستغلال الكامل للبيانات، ولكن من دون هذه التكنولوجيا، فإن الشركات الخاضعة للقانون العام لحماية البيانات قد تتخلى تماماً عن استخدام بيانات الفيديو هذه.
وتقول ليليان إدواردز، وهي خبيرة في القانون العام لحماية البيانات في مدرسة نيوكاسل للقانون: "لقد وضعت هذه القوانين لهدف محدد، أليس كذلك؟ تقول دي آي دي إنها تجمع البيانات المرئية مع الالتزام الكامل بقوانين الخصوصية، غير أن ما تقوم به فعلياً هو جمع البيانات المرئية مع تفادي قوانين الخصوصية. يجب ألا نتعامل مع القوانين بهذه الدرجة من الاستغباء".