إن كنت تملك هاتفاً ذكياً -مثل الغالبية المتنامية من الناس في العالم- فلربما تشعر بأن التطبيقات في عصر الحواسيب التي بحجم الجيب مصممة لجذب انتباهك أطول فترة ممكنة. ربما أنت لا تشعر بأنها تتلاعب بك من خلال الضغط على الشاشة، أو تمرير إصبعك عليها، أو إظهار إشعار في كل مرة.
لكن تريستان هاريس يعتقد أن هذا بالضبط هو ما يحدث مع المليارات من الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وإنستغرام، وسناب شات، وتويتر، وأنه يتولى مهمة توجيهنا نحو الحلول المحتملة، أو على الأقل جعلنا ندرك أن هذا التلاعب يحدث في الواقع.
وإن هاريس –الذي عمل سابقاً مديراً للمنتجات، ثم تحول إلى أخلاقيات التصميم في جوجل- يدير شركة غير ربحية تسمى "تايم ويل سبينت"، التي تركز في عملها على طبيعة التكنولوجيا التي تسبب الإدمان، وكيف يمكن تصميم التطبيقات بشكل أفضل؛ حيث تقيم حملات التوعية العامة وتدعم معايير التصميم التي تأخذ في الحسبان ما هو مفيد لحياة الناس، بدلاً من مجرد السعي لزيادة وقت العمل على الشاشة إلى أقصى قدر ممكن.
وقد قال هاريس في أكتوبر 2017 إنه كان يتحرك بعيداً عن تايم ويل سبينت (حيث لم يكن قد سمى مشروعه الجديد بعد)، في محاولة منه لمساءلة صناعة التكنولوجيا عن الطريقة التي تقنعنا فيها بقضاء أكبر وقت ممكن على الإنترنت، مع تكتيكات تتراوح من ميزة الأثر الخاصة بسناب شات (Snapchat Streak) وصولاً إلى التشغيل التلقائي لمقاطع الفيديو على مواقع مثل يوتيوب وفيسبوك.
يقول هاريس: "نحن غافلون تماماً عما نفعله بأنفسنا. الأمر أشبه بأزمة صحية عامة، إنها تشبه مشكلة السجائر، باستثناء أنه نظراً للفوائد الكثيرة التي نتحصل عليها، فليس بمقدور الناس في الواقع أن يدركوا ويُقروا بتدهور التفكير البشري الذي يحدث في الوقت نفسه".
يرى هاريس أنه نظراً لأن نماذج الأعمال الخاصة بشركات التكنولوجيا تعتمد إلى حد كبير على إيرادات الإعلانات، فبالتالي ليس من مصلحتها حقاً أن تدفعنا إلى الانصراف عن شبكات التواصل الاجتماعي اليومية والخروج من المنزل لقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء. هو لا يقول إن فيسبوك (أو أي من أقرانه فيما يخص هذه المسألة) سيئ، أو إنه يجدر بنا التوقف عن استخدام هواتفنا الذكية.
ولكنه بعد أن أمضى سنوات داخل صناعة التكنولوجيا -حيث انضم إلى جوجل في 2011 عندما قامت بشراء الشركة الناشئة التي شارك في تأسيسها، وهي شركة مختصة في البحث ضمن صفحات الويب تسمى آبتشر- يقول إنها أقوى آلات الإقناع الاجتماعي على الإطلاق، وإنه قلق بشأن كيفية استخدامنا لها. أو بدقة أكثر، كيفية استخدامها لنا.
ويشكل هذا الأمر مصدر قلق مشروع على نحو متزايد. فبالنسبة لجميع الأشياء الرائعة التي تتيحها تكنولوجيا وسائل الاتصال المحمولة، فإن مجموعة متنامية من الأبحاث تشير إلى أن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي -بما في ذلك فيسبوك وإنستغرام وسناب شات وتويتر- قد يكون له عواقب سلبية، مثل زيادة فرصك للإصابة بالاكتئاب أو العزلة الاجتماعية. وفي الواقع، إن مجرد وجود الهاتف في حوزتك قد يخفض من مستوى قدراتك الإدراكية.
ولإيصال رسالته، كان هاريس يعمل مع زملاء من بينهم روجر ماكنامي، وهو مستثمر في مشروعات مجازفة، ومن المستثمرين الأوائل في فيسبوك وجوجل، وقد كتب في أغسطس من عام 2017 عن أسفه بشأن هذه الخطوات التي قام بها لكسب المال.
وقد أصبح بارعاً أيضاً في التحدث أمام الجمهور؛ حيث تمت مشاهدة اللقاء الذي أجراه ضمن محادثات تيد في أبريل 2017 نحو 1.5 مليون مرة، وتم عرض لقاء معه على البرنامج التلفزيوني الأميركي "60 دقيقة" خلال الشهر نفسه. لذلك فقد بدا في أروع حالاته عندما رأيته لأول مرة، وهو يقف أمام قاعة للمحاضرات مزدحمة في جامعة ستانفورد في إحدى الأمسيات الخريفية من عام 2017، حيث كان يلقي محاضرة صفية عن الذكاء الاصطناعي والمجتمع رفقة عرض تقديمي بعنوان "بناء ذكاء اصطناعي للانتباه عند البشر".
ولم تكن أجواء المحاضرة بتلك الوضعية المثالية، ففي حين أن ستانفورد تعد معقل التعليم الفسيح والمكلف والمحاط بالأشجار في وادي السيليكون، إلا أن قاعة المحاضرات هذه تحديداً كانت خالية من النوافذ، وكانت مقاعدها الخشبية قديمة وغير مريحة. وكان هاريس يرتدي قميصاً من نوع شامبري، وبنطالاً أسود، وقد بدا محصوراً خلف منبر قديم يقع في زاوية الغرفة.
ولكن إذا كان التاريخ مؤشراً، فإنه واحد من أفضل الأماكن للوصول إلى نفس الأشخاص الذين يأمل هاريس في التواصل معهم، وهم: الطلاب المتفوقون الذين ربما من المؤكد أنهم سيصبحون قادة المستقبل (كان قادراً على معرفتهم، طالما أنه خريج ستانفورد، ويعوّل عليه نظراً لأن أصدقائه هم بعض خريجي جامعة ستانفورد المشهورين في مجال التكنولوجيا، وهما مؤسِّسا إنستغرام: كيفن سيستروم، ومايك كريجر).
وحتى مع هذه الوضعية، كان هاريس شخصية جذابة، وقد كانت رسالته مزعجة لكنها وصلت. ولأكثر من ساعة من الزمن، استحوذ على انتباه الطلاب عندما تحدث عن سباق صناعة التكنولوجيا المتعلق بالانتباه، وتقنياتها لجذب المستهلكين، واقتباس إحصائيات مثل حقيقة وجود عدد من المستخدمين في 2017 على فيسبوك، يفوق عدد المسلمين حول العالم.
سأل هاريس قائلاً: "السؤال هو أنك بمجرد أن تبدأ باحتكار ما يفكر فيه الناس، فهل ذلك أمر جيد للمجتمع فعلاً؟ وما مكامن الضعف في ذلك؟ وما الأخطاء المحتمل حدوثها نتيجة ذلك؟".
وبعد سماعه يتحدث، ظهرت لدي بعض الأسئلة الخاصة بي. في البداية، وجدت خطاب هاريس مثيراً للاهتمام، ولكنه يحمل لهجة تحذيرية لم يكن هناك داعٍ لها. فأنا أستخدم فيسبوك وتويتر وإنستغرام وجوجل بالتأكيد منذ سنوات، أنا أعتمد على هذه المواقع كثيراً، حيث أجمع المعلومات وأنشرها بشكل يومي، وأعثر على تحقيقات إخبارية، وأبقى على تواصل مع الأصدقاء والعائلة، وأنشر صوراً وفيديوهات جميلة لطفلي الرضيع، وأقرأ الأخبار، وما إلى ذلك. لذلك تساءلت: هل هذا حقاً سيئ للغاية؟ هل يتم التحكم فيَّ أو التأثير عليَّ حقاً بطريقة ما؟
ولكني بعد حديث هاريس في ستانفورد، بدأت أفكر كثيراً في كيفية انجذابي لمشاهدة الإعلانات تلقائية التشغيل الخاصة بحمالات الصدر والأحذية، التي أرغب إلى حد ما في شرائها بالفعل. وكيف أشعر عندما أتلقى إشعاراً على هاتفي الذكي بأن أحدهم قد أُعجب، أو أحب، أو أعاد نشر أحد منشوراتي على فيسبوك، أو إنستغرام، أو تويتر.
بالتأكيد أشعر بشحنة صغيرة في معدتي، ونبضة تحفيزية في دماغي، وأنا أحب ذلك كثيراً. وأتوق إلى ذلك حتى بعد أن أنشر صوراً جميلة لطفلي الرضيع على وجه الخصوص، أو أنشر تحديثاً لحالتي بعد صياغته بأسلوب ذكي، وتلقي واحدة من تلك الإشعارات يدفعني حتماً إلى فتح أي من تطبيقات التواصل الاجتماعي التي وردت منه لمعرفة ما يجري. فهل سأظل أواصل الإعجاب بالصور على فيسبوك، وإعادة تغريد الأنباء المضحكة على تويتر، وتلقيم الذكاء الاصطناعي الذي يدير هذه الشبكات إلى أن أفقد وعيي وأفارق الحياة؟
في اليوم التالي، تقابلت مع هاريس وتحدثت إليه عن كل ذلك أثناء تناولنا طبقاً من السوشي على الغداء في سان فرانسيسكو. لم يكن لديه أي حل سهل ليخفف من مخاوفي، ولكنه أوضح رؤيته بشأن ما يمكن أن تكون عليه مواقع مثل فيسبوك لو لم يكن ملتزماً بجذب انتباهك، وإنما مكرس لخدمة المجتمع (وهو ما يبدو -إذا فكرت في ذلك- منسجماً مع الرؤية الأصلية لمؤسس فيسبوك مارك زوكربيرج).
لا شك أن فيسبوك الموجود اليوم قد ساعد الكثير من الناس على الاتصال والتواصل بطرق إيجابية، ولكنه أدى أيضاً إلى أشياء مثل التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة.
يقول ماكنامي، الذي يصف نفسه بأنه "مساعد" هاريس: "تكمن المشكلة في أن هذه هي العواقب غير المقصودة للإستراتيجيات حسنة النية".
ويتساءل هاريس: ماذا لو كان المحتوى الذي تراه على فيسبوك يتضمن طرقاً يمكنها أن تجعل العالم أو مجتمعك المصغر على الأقل أفضل، أو يمكنها تحسين حياتك؟ وضمن رؤيته لشبكة اجتماعية تتضمن نوعاً من الإقناع الأخلاقي، قد يقوم فيسبوك بأشياء مثل اقتراح طرق محددة عديدة يمكنك من خلالها أن تساعد في مواجهة التغير المناخي، مثل خفض درجة الحرارة الأساسية للسخان لديك بضع درجات مئوية، أو تركيب ألواح شمسية على سطح منزلك. أو ربما يشجعك على مقابلة أناس بعيداً عن فيسبوك لمناقشة السياسة بشكل شخصي.
يقول هاريس: "من الصعب جداً أن نتخيل ذلك، لأن كل شيء يرد ضمن قسم تحديث المنشورات إنما هي أشياء تستهلكها أساساً (مقالات أخرى يمكنك قراءتها أو مقاطع فيديو يمكنك مشاهدتها) بدلاً من أن تكون أشياء تخبرك عما يمكنك أن تفعله اليوم، رغم أن هذه هي التي تجعلك أقرب إلى الحياة التي ترغب في عيشها".
وقد يقول قائل إن الناس يقومون بما يريدونه بالفعل على فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يعبرون عن تفضيلاتهم من خلال عمليات النقر على الفأرة والخيارات المتعلقة بما يتابعونه من الأشخاص ومصادر الأخبار، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن هاريس لا يعتقد أننا نتحكم بشكل فعلي في وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل الذي هي عليه اليوم.
يقول هاريس: "إن كل شيء يعرفه فيسبوك عني، يمكن استخدامه لإقناعي بالتوجه نحو هدف مستقبلي معين؛ فهو يتمتع بقدرات عالية جداً، حيث يعلم ما الذي يمكنه إقناعي بالضبط، لأنه سبق له إقناعي فيما مضى".
وربما أصبحت أدوات الإقناع أكثر قوة بكثير بالنسبة للمعلنين على وجه الخصوص؛ فقد أفادت التقارير في خريف 2017 أن فيسبوك تتيح لبعض العلامات التجارية محاولة التدقيق في المنشورات والتعليقات العامة (دون الكشف عن أسماء المستخدمين) لمساعدتها على استهداف المستخدمين.
وقد تواصلت مع فيسبوك في نفس الفترة بشأن ما إذا كانت تبذل أي جهود تنطوي على الإقناع الأخلاقي؛ إلا أنها لم ترد في ذلك الوقت.
ومع ذلك، فإن هاريس لم ينتظر فيسبوك. حيث عمل مع ماكنامي على الإقناع السياسي لرفع مستوى الإدراك لدى الناس –سواء كانوا من الوسط السياسي أو عامة الناس- بشأن سيطرة شركات التكنولوجيا الكبرى على المستخدمين.
يقول ماكنامي إن مهمتهما الأولية كانت "تشجيع الحوار" بشأن الدور المناسب لاحتكارات المنصات العاملة على الإنترنت في المجتمع، إضافة إلى أنهما قد تحدثا إلى عددٍ من الناس، ولكنه لم يذكر أي أسماء. وقد عبر هاريس عن أمله أيضاً في أن يحظى عمله بمزيد من الاهتمام من قِبل الموظفين في شركات التكنولوجيا. وقد حدث هذا في حالات قليلة بالفعل، خاصة بعد ترك الأشخاص لوظائفهم.
يقول هاريس أخيراً: "لا يبدو أن الشركات ستغير من نفسها".