يومياً في حوالي الساعة الرابعة ظهراً، تتعالى أصوات الشريط اللاصق في أرجاء هواشيانج بي، وهو حي ضخم يضم محلات الأجهزة والعتاد الصلب في شينجن، حيث يقوم أصحاب المحلات بتوضيب المبيعات اليومية، مثل عصي السيلفي والدوارات (لعبة يتم تدويرها باليد للتخلص من التوتر fidget spinner) والسكوترات الكهربائية والطائرات المسيرة، وبحلول الساعة الخامسة، تندفع حشود كبيرة من الناس بسرعة يطلق عليها المحليون اسم "سرعة شينجن"، وهم ينقلون الصناديق على دراجات نارية وشاحنات، وحتى ألواح تزلج في حال كانت الحمولة خفيفة. ومن هواشيانج بي، يتم نقل الصناديق إلى مخازن شركات اللوجستيات المحلية، وتحميلها على الطائرات وسفن النقل. وضمن السفن، تنضم الصناديق إلى 24 مليون طن من حمولات الحاويات التي تغادر مرفأ شيكو شهرياً، والذي يعني اسمه حرفياً "فم الأفعى"، وهو مرفأ الشحن الثالث على مستوى العالم من حيث كثافة الحركة، بعد مرفأي شانغهاي وسنغافورة.
بعد بضعة أيام أو أسابيع، تصل الصناديق إلى وجهتها، والتي قد تكون قريبة مثل مانيلا وبنوم بين، أو بعيدة مثل دبي وبوينس آيرس ولاجوس وبرلين، وتظهر محتوياتها في أضخم المدن العالمية وأصغر القرى، من عصا سيلفي ترتفع أمام معبد هندي، إلى سكوتر كهربائي من شياومي (بعد تغيير علامته التجارية) يتجول في أسواق سان فرانسيسكو، وصولاً إلى طائرات دي جي آي التي تحلق تقريباً في كل مكان. وباختصار، إذا كان جهازك يحمل عبارة "صنع في الصين"، فعلى الأرجح أن مصدره شينجن.
نما التعداد السكاني لمدينة شينجن من 30,000 نسمة في بداية السبعينيات إلى أكثر من 10 ملايين، مع مبان مرتفعة متألقة، ونظام نقل عصري، ومتاجر عالمية المستوى. تقدم الحكومة المحلية منحاً لتقديم طلبات براءات الاختراع وبناء منشآت التصنيع. وقد أدت التحسينات المستمرة وارتفاع أجارات السكن إلى تحويلها إلى أكثر مدن الصين غلاء، مع انتقال المصانع التي مولت ازدهارها بشكل متواصل إلى خارجها نحو بقية منطقة دلتا نهر اللؤلؤة.
غير أن شينجن بدأت تتغير بطرق أخرى أيضاً. وبدلاً من الاقتصار على العتاد الصلب (مثل ألواح التزلج ثنائية العجلات)، بدأت بتصنيع منتجات أكثر تعقيداً، تجمع ما بين العتاد الصلب والبرمجي، مثل السكوترات التي يمكن حجزها بشكل فوري، والطائرات المسيرة بالتطبيقات، كما أخذت منتجات الذكاء الاصطناعي بالتزايد، مثل أدوات الترجمة والألعاب الروبوتية والسيارات لمؤتمتة جزئياً. وقد بدأت شينجن بالابتعاد عن سمعتها في تطوير منتجات مقلدة رخيصة اعتماداً على أفكار الغير، لتصبح أقرب إلى مركز تجمع للابتكار والتصنيع والمعرفة في كافة أرجاء العالم.
هذا يعني أن شينجن يمكن أن تصبح شيئاً لم يتمكن وادي السيليكون من التحول إليه، على الرغم من التركيز الهائل للمواهب والأموال فيه: مركز للتكنولوجيا المتاحة لجميع البلدان وجميع الميزانيات تقريباً. ويبقى السؤال ما إذا كانت قادرة على مواصلة التكيف والنمو في وجه ثلاثة تهديدات مجتمعة: تصاعد العوائق أمام العولمة، وتزايد تسلط الحكومية الصينية، وتكاليف النجاح.
شانجاي وجبل لصوص التكنولوجيا
نتج التواصل للمرة الأولى ما بين شينجن والزبائن العالميين في معظم الحالات من خلال منتجات مثل عصا السيلفي، أي المنتجات التي تبدو ترفيهية الطابع، وسهلة التصنيع، والتي نشأت من عملية تطوير وتوزيع تسمى شانجاي (山寨)، وهو مصطلح يعني حرفياً "المخبأ الجبلي" (ويقال إنه عائد إلى المصانع التي كانت موجودة في تلال هونج كونج).
استوحت طريقة شانجاي ظاهرة البرمجيات مفتوحة المصدر، والتي تتيح لتجمع عالمي من المطورين إمكانية نسخ وتعديل العمل، وظهور عدة إصدارات متمايزة من البرنامج لتلبية احتياجات مختلفة، وذلك من أجل إعطاء ما يسمى "التصاميم العامة في العتاد الصلب"، وهي أدوات تم تصميمها وبناؤها بسرعة من قطع يمكن الحصول عليها بسرعة واستخدامها بعدة طرق مختلفة. وكما تختبر وسائل الإعلام الرقمية عدة عناوين رئيسية وتغريدات لمعرفة مقدار النقرات الذي ستجلبه كل منها، يقوم مصنّع شانجاي بإطلاق 10 منتجات تحمل تركيبات مختلفة من التصاميم المستنسخة والجديدة، واعتماد التصاميم الأكثر نجاحاً.
إذا احتاج المنتج ما بين 12 و 18 شهر لإطلاقه من قبل شركة غربية، فهو لا يتطلب سوى أربعة إلى ستة أسابيع ضمن نظام شانجاي. وقد كان من الشائع للشركات الغربية التي كانت قد أعلنت عن جهاز جديد أن تجد عدة نسخ شانجاي منه في المتاجر قبل أن تقوم بإطلاقه بنفسها. وتعود الكثير من نجاحات شانجاي إلى استنساخ هواتف أو علامات تجارية ذائعة الصيت، مثل نوكيا وسامسونج وآبل.
من السهل أن نستهين هذه المنتجات بوصفها مجرد نسخ رخيصة، ولكنها تضمنت الكثير من التجارب على ميزات جديدة أيضاً. ومن الأمثلة الشهيرة النظام مزدوج الشرائح في الهواتف الخليوية، والذي لم يظهر في هواتف آبل إلا مؤخراً، على حين أنه كان متوافراً منذ عقد كامل في منتجات شانجاي.
كان من الممكن إجراء هذه التجارب بفضل الشبكة النشطة من المزودين والمصانع الصغيرة في منطقة دلتا نهر اللؤلؤة، إضافة إلى التساهل الصيني إزاء مسائل حماية الملكية الفكرية. ويستطيع رواد أعمال شانجاي أن يقرروا ماذا سينتجون عن طريق زيارة سوق هواشيانج بي الواسع، حيث تفتح مئات المصانع متاجر صغيرة، لا يتجاوز عرض كل منها مترين، وذلك لعرض منتجاتها. وكان أي منتج ناجح في هواشيانج بي معرضاً للاكتشاف والاستنساخ من قبل المنافسين، سواء أكان يحمل علامة تجارية صينية أو غربية، وكانت تكفي عملية تسويق واحدة ناجحة، لا تتجاوز 10,000 وحدة، للحصول على أرباح وتمويل تسع عمليات أخرى فاشلة.
وعلى الرغم من أنه سيكون هناك دائماً سوق متاحة أمام أية منتجات جديدة مشابهة للدوارات، فإن شانجاي لديها حدودها أيضاً. حيث أن الشركات التي تكتسب منتجاتها موطئ قدم في أسواق البلدان الأخرى تصبح أيضاً معرضة لقوانين حماية الملكية الفكرية في هذه البلدان. ومع انتقال هذه الشركات من الدوارات وألواح التزلج الكهربائية ثنائية العجلات إلى المصابيح المتصلة بالإنترنت والأدوات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، فسوف تصبح بحاجة إلى المزيد من الخبرات في مجال التصميم والعلامات التجارية.
لو فشلت شانجاي في التطور، لبقيت على أي حال علامة فارقة في تاريخ العولمة، ولكن لا شيء يبقى على حاله في شينجن.
من المصنع إلى استوديو التصميم
على بعد رحلة بالتاكسي من ضوضاء هواشيانج بي تقع مكاتب شركة استشارية للتصميم تسمى إينوزين. وبعد منطقة مفتوحة، توجد غرفة اجتماعات بسيطة التصميم تحوي رفاً مخصصاً للجوائز، بما فيها عدة جوائز عالمية في مجال التصميم. يقول مايكل زينج، أحد مؤسسي إينوزين: "تعتبر شانجاي شكلاً من (التصميم الأعمى)". ويقول إن العملية لا تتضمن أية أهداف شاملة، كما أن "الحدود التكنولوجية تتوسع باستمرار".
تنتمي شركة زينج إلى نوع جديد من الشركات الاستشارية، والتي تُعرف محلياً باسم شركات التصميم الصناعي، والتي ظهرت في شينجن لمساعدة الشركات الغربية والصينية على تطوير المنتجات (مثل سماعات الأذن الصغيرة التي تقوم بالترجمة، والأقلام الذكية، ونظارات الواقع الافتراضي) لتصبح أكثر رقياً مما ينشأ عادة من شانجاي. يعمل زينج جنباً إلى جنب مع أشخاص مثل دوني زانج، وهو مدير شركة استشارية أخرى، وهي عبارة عن مكتب تصميمي أشبه بشركة هندسية مع بعض المهارات التصميمية.
يمثل زينج وزانج طبقة جديدة من المبتكرين في الصين. فقد درسا في لندن ونيويورك، على الترتيب، ويتكلمان الصينية والإنجليزية بطلاقة، ويشعران بالألفة تجاه المعايير التصميمية والجمالية الغربية شأنها شأن ثقافة الأعمال وعمليات الإنتاج الصينية. ومعاً، يساعدان الزبائن على تحقيق أفكارهم، وتنسيق العمل بين المصانع وورشات الصب بالقوالب ومطوري البرمجيات. ويعرفان من أين يمكن تعهيد (أي تكليف الآخرين) المكونات وتجميعها، ولكنهما أيضاً يفهمان حاجات وقيم الزبائن العالميين.
تعتبر شركات التصميم الصناعي ومكاتب التصميم المستقلة أحدث الأجزاء في البيئة الشاملة لخدمات الأعمال، والذي يتضمن حاضنات الشركات، ومساحات العمل المشتركة، ومختبرات التصنيع مثل مختبر شينجن للابتكار المفتوح "زويل SZOIL"، والذي يقع قرب الحدود مع هونج كونج. يتعامل زويل مع المصنّعين الأجانب والصينيين على حد سواء، ويعلمهم أساسيات التصنيع وبناء النماذج الأولية، ويلعب دور صلة الوصل مع شركات التصميم مثل إينوزين.
شهد القطاع المالي تطوراً مماثلاً. حيث أن رواد أعمال شانجاي الناشئين كانوا مضطرين للاستدانة من مزودي القطع وأفراد عائلاتهم. أما الآن، توجه شركات الاستثمارات الكبيرة والشركات التكنولوجية الكبيرة، مثل شياومي وتينسينت، استثماراتها نحو عمل الفرق الصغيرة. وتسمح بعض المواقع مثل كيكستارتر وأمازون للمصنعين بتجاوز صعوبات هواشيانج بي والوصول إلى الأسواق الأجنبية مباشرة. كما أن منصات الدفع على الإنترنت مثل ويتشات باي وأليباي تزيد من سلاسة المبيعات وتخفف من التكاليف.
مع تطور المنتجات، تصبح أيضاً أكثر ارتباطاً بالنظام البرمجي العالمي ومعاييره. وتستخدم الكثير من الأجهزة المتوافرة حالياً في هواشيانج بي تطبيقات متاجر آبل وجوجل ومتجر 360، وهو من أهم متاجر تطبيقات أندرويد في الصين. وتتراوح المنتجات ما بين "سماعة ذكية" ترتبط مع واجهة برمجة التطبيقات للمساعد الذكي أليكسا من أمازون، وصولاً إلى الألعاب المسيرة بالتطبيقات والتي تغني وترقص عند الطلب وتتعلم الأوامر الصوتية من المستخدمين. وتتم كتابة البرمجيات من قبل وسط كامل من المطورين الذين ظهروا في تجمع برمجي في الطرف الغربي من شينجن، إضافة إلى مراكز برمجية في شانغهاي وبكين. وتتطلب منتجات كهذه استثمارات أكبر بكثير في مجال التصميم والتطوير البرمجي وتجربة المستخدم. وعلى سبيل المثال، وخلال زيارة أحد الاستديوهات، رأينا غرفة مليئة بالعاملين الذي يقومون بتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي للسيارات ذاتية التحكم.
بفضل هذه الشبكة من شركات التصميم وخدمات التصنيع والتمويل والتطوير البرمجي، إضافة إلى تزايد الاعتراف بجودة المنتجات الصينية، تمكنت شركات شينجن من التوغل أكثر من ذي قبل في الأسواق العالمية. ومن أبرز الأمثلة السكوترات الكهربائية التي ظهرت في الكثير من المدن حول العالم، حيث أنها تُصنع جميعاً في الصين، ولكن الشركات التي تضع علامتها التجارية عليها وتقوم بتسويقها قد تكون في برشلونة (جويور) ومكسيكو سيتي (جرين) أو كاليفورنيا (بيرد أند لايم). وفي بعض الحالات، يستخدم الموزعون السكوترات نفسها حتى، ولكن فقط بعلامات تجارية وتطبيقات مختلفة.
يطلق مؤسس زويل ديفيد لي على هذه المنظومة اسم "الخدمة الصينية". فبدلاً من أن تضطر شركات جويور وجرين وبيرد أند لايم لتعلم كيفية بناء السكوترات الكهربائية، يمكن أن تركز على العمل الذي يتطلب معلومات وخبرة محلية، مثل التوزيع واستصدار الرخص من الجهات الحكومية.
العتاد الصلب من دلتا نهر اللؤلؤة
لقد أصبح من المألوف أن تسمى شينجن "وادي السيليكون للعتاد الصلب". وعلى الرغم من أن اسم وادي السيليكون مستوحى من كونه المركز الأول للعتاد الصلب الحاسوبي، فمن المفيد أن نتأمل هذا التشبيه.
على غرار وادي السيليكون، تحتوي منطقة دلتا نهر اللؤلؤة على مزيج من الخبرات والإمكانيات. ومن الصعب تكرار أو استنساخ مصانعها ومزودي المكونات والخدمات فيها، وقوة العمل الماهرة. وكما استفاد وادي السيليكون من حركة البرمجيات مفتوحة المصدر، ازدهرت شينجن بفضل نظام شانجاي للإنتاج والذي يُعتبر مفتوح المصدر. إضافة إلى هذا، تشبه الدلتا وادي السيليكون في كونها لا تمثل منطقة جغرافية واحدة، بل عقدة اتصال عالمية، بحيث تجذب الاستثمارات والشراكات وتصدر تأثيرها إلى العالم عبر البنى التحتية التكنولوجية.
غير أن النمو السريع لشينجن لم يخلُ من تكاليف بشرية، تشبه إلى حد كبير ما حدث في منطقة خليج سان فرانسيسكو.
حقبة شانجاي (باللون الأحمر): وهي فترة تتميز بالتصنيع السريع للإلكترونيات، والتي كانت في أغلب الأحيان نسخاً من المنتجات الغربية، وقد شهدت نمواً بسبب الطلب العالمي على الهواتف الذكية البسيطة، خصوصاً في الأسواق الناشئة. ونظراً للاعتماد على حلقات تطوير قصيرة للمنتجات ونظام من مزودي العناصر، اتصفت أغلب المنتجات بانخفاض السعر والنوعية.
حقبة التشكل (باللون الأرجواني): أدت ثلاثة عوامل إلى ظهور هذه الفترة: فقد أصبح العاملون أكثر مهارة وطالبوا لهذا السبب بأجور أعلى، كما قررت الشركات الناجحة المحافظة على سمعتها والانتقال نحو المنتجات التي تحمل علاماتها التجارية الخاصة بها، وبدأت الحكومة بالتشدد في قوانين سرقة الملكية الفكرية من أجل الإيفاء بمتطلبات منظمة التجارة العالمية.
حركة المصنّعين (اللون الأزرق): بعد زيارة رئيس مجلس الدولة لي كيشيانج في 2015، تم تجهيز أكثر من ألف "مساحة تصنيع" لتشجيع الشركات على تطوير منتجات جديدة بدلاً من استنساخ المنتجات الموجودة. وفي الواقع، كان الكثير منها عبارة عن مساحات عمل مشترك وحسب، وقد تم إغلاق جميعها تقريباً بعد أن فشلت نماذج العمل فيها.
حقبة العولمة: ظهرت بيئة ابتكارية أكثر نضجاً واستيعاباً لكيفية خدمة السوق العالمية. وقد تحقق هذا بفضل إمكانية الوصول إلى رؤوس الأموال الاستثمارية، ومنصات التعهيد الجماعي العالمية، وقنوات المبيعات الخاصة، ونهضة طبقة المبتكرين الصينيين القادرين على العمل مع المعايير العالمية للتصميم.
يعني ارتفاع تكاليف المعيشة أن الكثيرين ممن ينتمون إلى الموجات الأولى المهاجرة إلى شينجن لم يعودوا قادرين على العيش هناك. إضافة إلى هذا، فقد تردت نوعية الهواء، ولهذا بدأ نقل المصانع وغيرها من النشاطات الملوثة إلى خارج المدينة، مع الوظائف التي كانت تؤمن معيشة هؤلاء المهاجرين الأوائل. وقد تفاقمت ضغوطات الحياة الحضرية بسبب سياسة الولد الواحد التي اتبعتها الصين حتى العام 2016، والتي تضع عبئا ثقيلاً على الناس الذين يعتنون بالوالدين والأجداد كبار السن. وفي ثقافة مادية إلى هذه الدرجة، فإن التوقف يعني التخلف عن الركب: حيث أن الضغوط الاجتماعية التي تدعو إلى الزواج تأتي أيضاً مع توقعات بشراء شقة وسيارة. تكافح النساء للحصول على الترقيات في بيئة عمل يهيمن عليها الرجال، وتحول الإرهاق المستمر إلى نمط حياة، وأصبحت فرص الاستغلال مرتفعة.
من ناحية أخرى، فإن بعض القيود التي تعاني منها المدينة غير موجودة خارج الصين. وعلى الرغم من ازدياد منتجات شينجن الجديدة المتصلة بالإنترنت، فإن حكومة شي جينبينغ تزيد من صرامة تحكمها بالإنترنت. صحيح أن المواقع مثل كيكستارتر وأمازون ليست محظورة بالمعنى الحرفي، ولكن بعض الأساليب الأساسية التواصل مع الجماهير العالمية مثل إنستجرام وتويتر لا يمكن الوصول إليها إلا من البر الرئيسي عبر الشبكات الخاصة الافتراضية VPN، والتي تتزايد صعوبة استخدامها باستمرار بسبب التشديد الحكومي. أما ويتشات باي وأليباي، فيتطلبان فتح حساب صيني، ما يجعل من الصعب الحصول على دفعات من زبائن أجانب. ويؤدي كل هذا في المحصلة إلى إعاقة أحلام الانتقال نحو العالمية لدى شركات شينجن.
أخيراً، وعلى الرغم من رسوخ البيئة التكنولوجية في شينجن، فإنها تعتمد إلى حد كبير على وجود التجارة الحرة وعمالة السوق الرمادية، والمعرضتين لضغوط مستمرة، حيث تعاني الأولى من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتعاني الثانية من تصاعد المطالبات بأجور أفضل للطبقة المتوسطة الصينية. كما أن الشك بجودة المنتجات المصنوعة في الصين بدأ يزداد في الخارج، فقد تبين أن الكثير من منتجات إنترنت الأشياء، مثل المقابس الكهربائية الذكية وكاميرات المراقبة الذكية، قابلة للاختراق بسهولة، وفي بدايات 2018، قال مدراء الوكالات الاستخباراتية الأميركية الرئيسية أن الأميركيين يجب ألا يشتروا هواتف هواواي وزد تي إي لأن الحكومة الصينية قد تستخدمها للتجسس أو التدخل في شبكات الاتصالات الأميركية. وهذه ليست مشكلة تقتصر على علاقة الصين والولايات المتحدة، بل هي مشكلة "قومية تكنولوجية" عالمية قد تؤدي إلى تثبيط نهضة العولمة.
ولكن، ومع تعرض رواد الأعمال لهذه العوائق، فقد بدؤوا بتجاوزها، ليس فقط بتصدير منتجات شينجن، ولكن أيضاً بتصدير نموذج شينجن نفسه.
يمثل ريكس تشين، وهو مهندس ومصمم موشوم انتقل إلى شينجن منذ حوالي سنتين، صورة نموذجية لرائد الأعمال الصيني العصري الذي يفهم الحساسيات الغربية. فقد وضع فكرة للوح تزلج كهربائي يمكن أن يعمل بانسيابية بدون بطاريات بشعة، وجمع ما يقارب 750,000 دولار مما يزيد عن 1,100 ممول على كيكستارتر. يتحرك تشين بخبرة كبيرة عبر شبكة معقدة من الخدمات وعمليات التصنيع في شينجن، ولكنه قادر على اختبار منتجاته في أوساط الحفلات في شانغهاي، وهو يستوعب تماماً جميع النواحي في التكنولوجيا التي يبنيها.
يقول تشين أنه يوجد أمامه حوالي ثلاثة أشهر بدءاً من الفكرة الأولية حتى الإطلاق وجني الأرباح قبل ظهور المنتجات المستنسخة التي ستملأ السوق وتوصله إلى مرحلة الإشباع. عادة ما يعرض مزودو القطع نموذج دفع بتأخير 90 يوماً، وهو ما يسمح لتشين بتمويل عملية التصنيع وإعادة استثمار الأرباح في فكرته التالية.
يقول تشين: "لا يهتم رجال الأعمال الصينيون بالمنافسة مثلكم. فكلما ازداد عدد الذين يصنعون نفس المنتج، كان أكثر أماناً". وبالفعل، فإذا كانت الفكرة جديدة وغير مثبتة، يطلب مزودو القطع دفعة مسبقة. وهو ما يؤدي إلى عملية تطور بدلاً من ثورة في التصميم، مثل الانتقال من لوح تزلج كهربائي إلى سكوتر كهربائي. ولكن ضغوط العمل بسرعة موجودة على الدوام، كما يقول تشين: "يمكننا الانتقال من الفكرة إلى السوق خلال ثلاثة أشهر، ولكن حتى في هذه الحالة فنحن متأخرون بمقدار شهر كامل".
قال لنا روبين وو في مكتبه ضمن مبنى مرتفع في غرب شينجن: "تناولوا بعضاً منها، إنها لذيذة للغاية"، مقدماً لنا بضع حبات من المورينجا، وهي بذرة تحمل مسحة من المرارة وتؤكل في إثيوبيا لما يشاع عنها من فوائد صحية. قدم لنا وو الشاي الصيني في أكواب بلاستيكية، ومع بدء الحوار، كان يحدق بين الحين والآخر إلى جهازه لتفقد الرسائل، وإلى واجهة عرض بانورامية مؤلفة من ثلاث شاشات للاتصالات المرئية والعروض التجريبية. ظهر وو في عناوين الصحف في 2010 بوصفه "ملك شانجاي" إثر نجاحه في إنتاج جهاز شبيه بجهاز آيباد بعد أن طرحت آبل منتجها الأصلي بستين يوماً، وهو حالياً يمتلك ويشغل مجموعة من المصانع في إثيوبيا. وبعد أن بدأ رحلته في شينجن ببيع أقراص الدي في دي المقرصنة في بدايات هواشيانج بي، أصبح وو الآن جزءاً من توجه الشركات الصينية نحو الاستثمار العالمي في مجال التصنيع.
نظراً لارتفاع تكاليف العمالة في شينجن، إضافة إلى التعرفات الجمركية المتبادلة التي فرضتها الصين والولايات المتحدة على بعضهما البعض، فقد بدأت المصانع بالانتقال إلى خارج البلاد بأسرها، لا إلى خارج المدينة فقط. وهو ما يضيف إلى التوجه الصيني الموجود مسبقاً للاستثمار في الإنتاج على مستوى العالم، خصوصاً في المناطق الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب شرق آسيا، والمدفوع أيضاً بمبادرة الحزام والطريق، وهو برنامج أطلقته حكومة شي لتوسيع المرافئ والسكك الحديدية وغيرها من البنى التحتية عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا.
قد يؤدي تصدير نموذج شينجن الإنتاجي في بعض الأحيان إلى تصدير أسلوب استغلال العمالة في شينجن أيضاً. وقد تورطت بعض الشركات الصينية في فضائح تتعلق بالأجور وظروف العمل في أفريقيا على سبيل المثال. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت المرابح الاقتصادية متوزعة بالتساوي على المنطقتين أو أن أغلبها يتدفق نحو الصين. وقد لاحظ الباحثان ديبورا بروتيجام وتانج شياويانج أن مناطق التعاون الاقتصادي الصيني المتعلق بالتجارة قد ظهرت في عدة أماكن في أفريقيا، غير أن البيانات حول تأثيراتها ما زالت شحيحة.
غير أن أخصائيي التكنولوجيا في أفريقيا وحول العالم مصممون على التعلم من نموذج شينجن. تقول سيرام آفل، وهي بروفسورة مساعدة في جامعة ماساتشوستس، أميرست، والتي كانت تدرس العلاقات ما بين شينجن والقارة الأفريقية منذ 2015: "هناك حماس حقيقي في شينجن للتواصل مع الآخرين والترحيب بالتعاون والعمل المشترك". وقد قامت بتوثيق سفر رواد الأعمال من بلدان مثل غانا وإثيوبيا إلى الصين أو استخدامهم لخدمات الإنترنت من أجل بناء الشركات لتلبية الاحتياجات المحلية، والتي تتراوح من شواحن الهواتف الخليوية المزودة بأضواء الليد إلى اختبار النماذج الأولية للتجهيزات الزراعية والطبية، وتقول: "أعتقد أن البطولة الحقيقية في هذه القصة تعود إلى الشركات الصغيرة في أكرا ولاجوس ونيروبي وشينزين، والتي تحاول التواصل مع بعضها البعض وتبني منتجات تعتقد أنها ذات قيمة للناس في مناطقها".
أثرت شينجن أيضاً بشكل غير مباشر على أنواع المنتجات التكنولوجية التي يصنعها العالم بأسره. وعلى الرغم من أن العتاد الصلب ذا التصاميم العامة، مثل عصي السيلفي وألواح التزلج الكهربائية ذات العجلتين، يضمحل تدريجياً بعد نوبة سريعة من الانتشار والشهرة –كما في حالة الصور المضحكة على الإنترنت- فهو يترك خلفه أثراً يظهر فيما بعد في ظروف مختلفة. فقد تحولت عصا السيلفي لاحقاً إلى منصة التصوير المتوازنة المحمولة التي تحول أية كاميرا إلى منظومة شبه احترافية لتصوير الفيديو بمبلغ مائة دولار فقط. وقد يكون لوح التزلج الكهربائي ذو العجلتين مجرد فقاعة قصيرة الأمد على وسائل التواصل الاجتماعي، غير ان السكوترات وألواح التوازن بدأت تتحول إلى وسائل واقعية للنقل قصير المدى. ولا يمكن أن ننسى الحوامات رباعية المراوح، والتي لم تكن أكثر من مجرد ألعاب وإزعاجات طائرة، والتي تمكنت بعد ازدياد حجمها وتزويدها ببرمجيات خاصة من إحداث تغيرات في صناعة الأفلام وعمليات المسح.
ما يميز شينجن حالياً كتجمع كبير للتصنيع هو قدرتها على استيعاب كل شيء، من الجدي إلى السخيف، ومن التجريبي إلى المستدام، ومن الأجهزة المصممة للتخفيف من آثار الفقر إلى السلع المصممة لإثارة الضجيج الإعلامي. وعندما سألنا زانج حول الجينات الثقافية التي تحويها منتجات شينجن، رد قائلاً: "تحمل منتجات شينجن جينات صينية بالكامل، وجينات غربية بالكامل، وتعود الجينات الغربية إلى أن العالم بأسره يستهلك هذه المنتجات، على الرغم من أنها مصنوعة في الصين".