أغرقت عاصفة متأخرة كاليفورنيا في أوائل شهر مارس بعد شتاء جاف غير معتاد، فتراكم الجليد -حتى بلغ ارتفاعه عدة أقدام- على مكامن الجرانيت المرتفعة في جبال سييرا نيفادا.
وبعدما تحسن الطقس في صباح يوم الأحد، صعد باحثان من وكالة ناسا على متن طائرة صغيرة في مطار ماموث يوسمايت الذي يضم مدرجاً واحداً يمتد أمام قمة هرم جبل موريسون، وبعد فحص السلامة النهائية، انطلق الطياران في رحلة الطيران الأولى هذا الموسم بالنسبة لمرصد الجليد الطائر؛ وهو عبارة عن طائرة ذات محركين من طراز بيتشكرافت كينج إير 90، ومزودة بجهازي استشعار يخرجان من مقطع زجاجي في الجزء السفلي من الطائرة، حيث يقيس الليدار حجم الكتلة الجليدية على الجبل، في حين يقيس المطياف انعكاسيتها، إلى جانب تقديم تقديرات دقيقة للغاية لكمِّ المياه التي ستتدفق على الجبل في فصل الربيع، ووقت تدفقها عبر السدود والخزانات والقنوات المائية في ولاية كاليفورنيا.
وتتيح هذه البيانات لهيئات المياه أن تتعامل بحرص مع المياه التي تمد محطات توليد الطاقة الكهرمائية، وتغذي المدن والبلدات، وتروي إحدى المناطق الزراعية الأكثر إنتاجاً في الولايات المتحدة، كما تتزايد أهمية القيام بهذه المهمة على أفضل وجه في ظل معاناة الولاية من تعاقب فترات الجفاف الطويلة، والفيضانات واسعة النطاق، ويبدو أن تغير المناخ سيزيد من التقلبات الموسمية.
ويصرح توماس بينتر (الباحث الرئيسي في برنامج مرصد الجليد الطائر، الخاضع لإدارة مختبر الدفع النفاث، التابع لوكالة ناسا في باسادينا) قائلاً: "لا يمكنك أن تُدير ما لا تستطيع قياسه".
صدمة مناخية
تمتد سييرا نيفادا على مساحة 400 كيلومتر على طول الحدود الجنوبية الشرقية لولاية كاليفورنيا، ويوفر ذوبان الكتلة الجليدية المتراكمة هناك كل عام حوالي ثلث احتياجات الولاية من المياه، وإدارة هذا المورد ليست سهلة؛ حيث يجب على الجهات القائمة على الخزانات أن تخرج كميات كافية لتجنب انغمارها، وتزوِّد الأسماك والنظم الإيكولوجية بالماء، وتعيد تخزين المياه الجوفية، وتمد المدن والصناعات باحتياجاتها من المياه، كما يلزمها أيضاً الاحتفاظ بكميات كافية لتلبية احتياجات المزارعين والشركات والسكان في أثناء أشهر الصيف الجافة.
وقد بدأ برنامج المرصد مسح الثلوج في ربيع عام 2013، في أثناء اجتياح جفافٍ مدمر لولاية كاليفورنيا، وقد فرضت موجة الجفاف التاريخية قيوداً إلزامية على المياه، وتسببت في هلاك أكثر من 100 مليون شجرة، وازدادت وتيرة حرائق الغابات، وانخفضت أرباح الصناعات الزراعية الضخمة في الولاية، ثم توقفت تلك الموجة فجأة في شتاء 2016-2017 بعد هبوب سلسلة من العواصف التي أمطرت ما يقرب من 95 بوصة من الأمطار في بعض مناطق سييرا، ليصبح هذا العام ثاني الأعوام الأكثر مطراً في سجلات كاليفورنيا.
وقد أصبحت هذه "الصدمة المناخية" -وفقاً لما ورد في ورقة بحثية نشرت في Nature Climate Change- تحدث ضِعف عدد مرات حدوثها في الولاية؛ وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة بخار الماء في الغلاف الجوي، والتحولات المناخية الأخرى، وقد توصل مؤلفو البحث إلى أن الفيضانات التي كانت لا تقع إلا مرة كل 200 عام، سيزيد معدل حدوثها إلى أكثر من مرة في كل 40 عاماً بحلول منتصف هذا القرن.
وقد لا يتغير إجمالي هطول الأمطار عن المتوسط في ظل هذه التحولات الحادة بين السنوات الجافة للغاية والرطبة للغاية، لكن "الأمور لا تتساوى في النهاية" على حد تعبير دانيال سوين (الكاتب الرئيسي للدراسة، وعالم المناخ في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس)، وقد أضاف قائلاً: "تجتمع لنا كل سلبيات السنوات الرطبة والسنوات الجافة، وتزيد مخاطر المياه، وتقل فوائدها".
ووسط هذه التقلبات، الرؤية التي يستطيع برنامج المرصد
وعلى حد تعبير سوين، فإن الرؤية التي سينص عليها برنامج المرصد -وسط هذا التقلبات- عند تغير حالات الكتل الجليدية ستكون "مهمة جداً في سبيل إدارة المياه" ضمن نظام مصمم للمناخ في الماضي.
ويساعد البرنامج الجهات القائمة على الخزانات في منع المياه في السنوات الرطبة من تجاوز الأحواض واجتياح المجتمعات المحلية التي تعيش عند المصبات، أما في السنوات الجافة فتمكِّنهم البيانات من الاستغلال الفعال للإمدادات المائية المحدودة. يقول جيف باين (مدير الوكالة العامة للسياسة المائية): إن هيئة مياه فريانت (التي تدير أحد السدود والقنوات التي تروي مليون فدان من الأراضي الزراعية في منطقة سنترال فالي) ستوفر المزيد من المياه لزراعة الفواكه والخضروات في الولاية.
ليزر الانعكاس
بعد الوصول إلى ذروة المنحدر الشرقي المواجه لسلسلة الجبال، وصلت الطائرة لامتداد حوض سان هواكين المرتفع، والذي يخزن المياه في صورة مجمدة حتى تصل في فصل الربيع إلى آلاف المزارع في منطقة فريانت عند الحاجة إليها.
وقد ارتدى دان بيريسفورد (التقني في وكالة ناسا، والبالغ من العمر 38 سنة) قبعة صغيرة محبوكة ونظارة شمسية عاكسة، وجلس في المقعد الخلفي الأيسر أمام شاشة الليدار، ثم ضغط على مفتاح (بدء جمع البيانات) من جهاز الاستشعار.
وقد قطعت الطائرة مسار تهذيب الحشائش فوق التضاريس، والذي يغطي خطوطاً طويلة قبل الميل بمقدار 180 درجة، فيصدر الليدار أشعة ليزر نبضية لمئات آلاف المرات في الثانية تعمُّ المسطح المرئي أفقياً، فتتمكن برامج الجهاز من رسم خريطة ثلاثية الأبعاد لسطح الثلج، وذلك عبر قياس الوقت الذي يستغرقه الضوء لينعكس من السطح ويعود إلى أجهزة الاستشعار، ويقوم العلماء بجمع هذه المعلومات مع الملاحظات السابقة من أجل حساب "المكافئ المائي للثلج"، أو هو إجمالي حجم المياه المخزنة في مستجمعات المياه في ذلك الوقت.
والمهمة الرئيسية لبيريسفورد على الطائرة هي مراقبة الجودة؛ إذ يراقب الإشارات الدالة على انعكاس الضوء من السُّحُب أو الرطوبة الجوية.
وهناك مطياف يعمل في نفس الوقت (وهو في الأساس كاميرا تستطيع الكشف عن الضوء البعيد عن مدى رؤية العين البشرية)، ويحدد مدى انعكاس أشعة الشمس التي تصطدم بالثلج على السطح.
والثلوج الجديدة تتمتع بقدرة عاكسة كبيرة؛ مما يؤدي إلى إبطاء الذوبان وإعادة الحرارة إلى الغلاف الجوي مرة أخرى، ولكن الكتلة الجليدية تصير أقل انعكاسية عند ظهور بلورات الثلج وتكاثرها، وعند تلوث الهواء، وحين تغطي العواصف الحقولَ ببقع داكنة ماصة في صورة غبار وسخام.
ويقول بيريسفورد: إن تحديد مستويات تغير الانعكاس يساعد الفريق على حساب مدى سرعة ذوبان الثلوج، ووقت ووصول المياه في نهاية المطاف إلى خزانات المصب.
الأكثر دقة
يحاول سكان كاليفورنيا منذ أكثر من قرن من الزمان قياس كتلة سييرا الجليدية بشكل دقيق، حيث ترسل هيئة الموارد المائية بكاليفورنيا كلَّ شتاء مسَّاحين على زلاجات وأحذية ثلوج إلى مئات النقاط المحددة في جميع أنحاء الولاية؛ من أجل غرس أنابيب القياس المصنعة من الألومنيوم في أعماق الثلوج، وتُستكمل هذه البيانات بالنتائج التي ترصدها محطات الاستشعار عن بعد، والتي يزيد عددها عن مائة، وتنتشر في جميع أنحاء سلسلة الجبال؛ حيث تعطي "وسائد الجليد" تقديرات بناءً على تغير ثقل الثلوج فوقها.
هذه المقتطفات السريعة لا تضيف في الغالب صورةً دقيقة عن مستجمعات المياه الجبلية المرتفعة والمترامية الأطراف؛ ففي بعض السنوات تُقدَّر كمية المياه التي تصل إلى خزانات مثل نظام هيتش هيتشي (الذي يخدم حوالي 3 ملايين عميل في جميع أنحاء سان فرانسيسكو) بما يصل إلى 40%، وهذا مع زيادة عشرات المليارات من جالونات المياه أو نقصانها.
وقد قال بينتر إن معدل خطأ برنامج ناسا بعد خمس سنوات من العمل -ومروراً بسنوات رطبة للغاية، وجافة للغاية، ومتوسطة- قد بلغ في المتوسط 2%. ويضيف: "إن هذا المسح هو الأكثر دقة من بين كل دراسات الكتل الجليدية السابقة".
القياس من الفضاء
إن برنامج مرصد الجليد الطائر التابع لوكالة ناسا -الذي انتقل من الطور التجريبي إلى الطور التشغيلي- لا يغطي حتى الآن سوى حوالي ثلث منطقة سييرا، لكن وكالة ناسا وهيئة الموارد المائية بكاليفورنيا والعديد من إدارات المياه الأخرى تبذل قصارى جهدها لتوسع رقعة البرنامج في كاليفورنيا، وهذا يتطلب مزيداً من الطائرات والمرافق، وتمويلاً بملايين الدولارات سنوياً، وقد عُقدت مناقشات بين ممثلين لهيئة مياه فريانت وإدارات المياه الأخرى وبين المشرِّعين؛ من أجل تخصيص أموال للبرنامج.
ويقول بينتر: إن وكالة ناسا تعقد مناقشات من أجل بذل جهود مماثلة في حوض نهر كولومبيا الممتد عبر ولاية أوريجون وواشنطن وكندا، وحوض نهر كولورادو الذي أجروا عنده رحلات مسح جوي مبكرة.
وإن أهداف ناسا النهائية أسمى بكثير؛ حيث يواصل مركز جودارد لرحلات الفضاء في الحزام الأخضر بولاية ماريلاند إجراء سلسلة من الاختبارات على الجبال المغطاة بالثلوج والهضاب، والقريبة من جراند ميسا بولاية كولورادو؛ وهذا المشروع البحثي الممتد لعدة سنوات -والمعروف باسم SnowEx- يهدف إلى تحديد أيِّ مجموعة من أجهزة الاستشعار والتقنيات هي التي ستمكِّن ناسا من قياس المكافئ المائي للثلج من الفضاء.
ولا تستطيع الأقمار الصناعية الحالية إلا تحديد كمية الثلج عبر القارات، دون تحديد مقدار الماء الذي تحتوي عليه.
وقد يُسهم هذا الجهد في مساعدة المناطق الأخرى التي تواجه نفس التحديات والتقلبات المائية التي تواجهها ولاية كاليفورنيا، ويمكن أيضاً أن تقدم بيانات عن الانعكاسية المتغيرة للكوكب في ظل ارتفاع درجات الحرارة وقلة تراكم الثلوج، بما يتيح الاطلاع على آلية تعقيب هامة لتغير المناخ.
يقول تشارلز جاتيبي (نائب مدير مشروع SnowEx): "إننا في حاجة إلى بعثة فضائية تستطيع قياس الثلوج على مستوى العالم، ونحن نبحث عن الأدوات".
صعوبة التكيف
إن وجود معلومات أكثر وأفضل قد يحقق الكثير في نهاية المطاف، وإذا تغيرت أنماط هطول الأمطار بالقدر الذي تتوقعه دراسة سوين، فسيتطلب الوضع تغيرات أكبر بكثير في الممارسات وفي البنية التحتية للمياه في كاليفورنيا، وسيصعب التكيف مع وضع جديد يتصف بالتقلب المستمر.
ومن الجدير بالذكر أن البعض يرى أنه كلما زادت وساءت نوبات الجفاف، فستحتاج الولاية إلى بناء خزانات إضافية، لكن هذا الإجراء نفسه سيزيد من مخاطر الانغمار في السنوات الرطبة، إذا غمرت الأمطار الغزيرة الأحواض.
ويعتقد خبراء آخرون في إدارة مياه كاليفورنيا أن الولاية ستحتاج إلى اتباع نظام أكثر مرونة؛ وذلك عن طريق زيادة الاعتماد على سهول الفيضانات الطبيعية ومستودعات المياه الجوفية بدلاً من الخزانات الصناعية، ويتطلب هذا بنيةً تحتية مختلفة تماماً، قد تتضمن سدوداً وخطوط أنابيب وقنوات؛ من أجل حماية المجتمعات المحلية ونقل المياه؛ يقول سوين: "إن هذه الطريقة قد تكون هي الواعدة من أجل الحد من المخاطر، لكنها -بصدق- ستكون تحدياً صعباً؛ حيث سيصعب التكيف معها".