تراجع سريع بعد صعود لافت: ما الذي حدث لوظيفة مهندس الأوامر؟

4 دقيقة
تراجع سريع بعد صعود لافت: ما الذي حدث لوظيفة مهندس الأوامر؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Gorodenkoff

في أعقاب إطلاق بوت الدردشة "تشات جي بي تي" والتوسع السريع في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مطلع عام 2023، برز مصطلح هندسة الأوامر (Prompt Engineering) بشكلٍ لافت، وظهرت وظيفة "مهندس الأوامر"، وهو الشخص المتخصص في صياغة التعليمات المناسبة لنماذج الذكاء الاصطناعي بهدف الحصول على مخرجات دقيقة وفعّالة، باعتبارها إحدى وظائف المستقبل الواعدة التي أنتجها الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، ما لبثت هذه الوظيفة أن واجهت تراجعاً سريعاً. وبحلول أوائل 2025 تلاشت الحاجة إلى مهندس الأوامر تقريباً، إذ أصبحت صياغة الأوامر الفعّالة متوقعة من أي موظف يعمل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، ما أفضى إلى تراجع "هندسة الأوامر" كوظيفة قائمة بذاتها واختفائها تدريجياً من سوق العمل.

الصعود السريع لمهنة مهندس الأوامر

على مدى العامين الماضيين، شكّلت وظيفة "مهندس الأوامر" محوراً رئيسياً في النقاشات حول مستقبل العمل في ظل تطور الذكاء الاصطناعي، حيث كانت تُقدَّم كمثالٍ بارزٍ على الكيفية التي ستولّد بها هذه التكنولوجيا وظائف جديدة عوضاً عن تلك التي تستولي عليها. كانت شركات التكنولوجيا تبحث عن أشخاص متخصصين في التعامل مع النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) ممن يمتلكون القدرة على صياغة الأوامر الأكثر فاعلية لطرحها على أنظمة الذكاء الاصطناعي الداخلية، ما يضمن تحقيق أفضل المخرجات.

وقد أسهمت منصات التوظيف، مثل "لينكدإن"، في تسليط الضوء على هذه المهنة، إذ شهدت المنصة انتشاراً واسعاً لإعلانات الوظائف الموجّهة لمهندسي الأوامر. وأظهرت البيانات أن وظيفة مهندس البيانات كانت إحدى أكثر الوظائف رواجاً في مجال التكنولوجيا، وكانت تدر رواتب تصل إلى 200 ألف دولار سنوياً، كما كان يُنظر إلى هندسة الأوامر عموماً على أنها مسار سهل إلى قطاع مزدهر، خاصة أنها لا تشترط خلفية تقنية عميقة.

وبحسب التقديرات، بلغ حجم سوق هندسة الأوامر على المستوى العالمي نحو 222.1 مليون دولار عام 2023، مع معدل نمو سنوي مُركّب يبلغ 32.8% بين عامي 2024 و2030، وهو ما يعكس مستوى الاهتمام الكبير الذي حظيت به هذه الوظيفة في بدايات انتشار نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

العوامل المؤثّرة في تراجع الحاجة إلى مهندس الأوامر

مع التقدم السريع الذي شهده هذا المجال، تحولت هندسة الأوامر من كونها وظيفة متخصصة إلى مهارة ضمنية يكتسبها العاملون في مجال الذكاء الاصطناعي. كما بدأت بعض الشركات تعتمد على نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها لتوليد الأوامر المثلى لأنظمتها، ما قلل الحاجة إلى تدخل بشري مباشر في صياغة التعليمات. ويقول الرئيس التنفيذي لشركة تالنت جينيس (TalentGenius)، مالكولم فرانك، إن هندسة الأوامر أصبحت فعلياً جزءاً من مهام معظم الوظائف، وصار بإمكان الذكاء الاصطناعي مساعدتك على كتابة الأوامر المثالية.

وقد أسهمت عدة تطورات في تقليص الحاجة إلى مهندسي الأوامر. فمن ناحية، أصبح أداء النماذج اللغوية أفضل فيما يتعلق بفهم نية المستخدم، وباتت هذه النماذج أكثر قدرة على فهم اللغة الطبيعية والتعامل مع الأخطاء الإملائية. فمثلاً، يمكن الآن لأدوات مثل "تشات جي بي تي" و"جيميناي" أن تتعرف إلى الهجاء الخاطئ وطرح أسئلة متابعة لجمع معلومات إضافية قبل تقديم الإجابة، ما عزّز قدرتها على التفاعل بفاعلية دون الحاجة إلى توجيه دقيق من المستخدم.

بالإضافة إلى ذلك، ظهرت طرق وأساليب جديدة تُتيح للنماذج نفسها توليد أفضل الأوامر تلقائياً، أي أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادراً على كتابة الأوامر بنفسه دون تدخل كبير من الإنسان. كما انتشرت منصات مخصصة ومواقع لتوليد الأوامر باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للمستخدم مثلاً أن يطلب من بوت متخصص على أحد هذه المواقع أن ينشئ أوامر قابلة للاستخدام مع أنظمة مثل "تشات جي بي تي".

في الوقت نفسه، بدأت الشركات تدريب موظفيها في مختلف الإدارات على أفضل السُبل لتحفيز النماذج واستخدامها، لذا لم تعد هناك حاجة كبيرة إلى شخص واحد يمتلك هذه الخبرة.

وإلى جانب العوامل التكنولوجية، ثمة عوامل تجارية واقتصادية مؤثّرة في تراجع الطلب على هذه الوظيفة. ففي ظل حالة عدم اليقين بشأن العوائد المتوقعة من الذكاء الاصطناعي والتوجه العام لضبط التكاليف، أصبحت الشركات أكثر ميلاً إلى توخي الحذر في عمليات التوظيف، ولم تعد تستثمر بالشكل ذاته في وظائف تجريبية متخصصة بقدر ما كان يحدث في بداية موجة الذكاء الاصطناعي.

هندسة التعلم الآلي وليست هندسة الأوامر

أجرت شركة مايكروسوفت مؤخراً استطلاعاً شمل سؤال 31 ألف موظف في 31 دولة لاستكشاف الأدوار الجديدة التي تُفكر مؤسساتهم في استحداثها خلال العام القادم. ويقول كبير مسؤولي التسويق في قسم الذكاء الاصطناعي في العمل لدى مايكروسوفت، جاريد سباتارو، في تصريحات لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إن هندسة الأوامر جاءت في المرتبة الثانية من أسفل قائمة الوظائف، بينما تصدرت القائمة أدوار مثل "مدرب الذكاء الاصطناعي" و"أخصائي بيانات الذكاء الاصطناعي" و"أخصائي أمن الذكاء الاصطناعي".

وتشير الرئيسة التنفيذية لمنصة إنترفيونغ آي أو (Interviewing.io)، ألين ليرنر، إلى نتيجة مشابهة. فمع تلاشي الضجة الإعلامية، تتحول سوق عمل الذكاء الاصطناعي إلى البحث عن وظائف تتطلب خبرة تقنية أعمق. ونتيجة لذلك انخفض الطلب على هندسة الأوامر بينما الطلب على هندسة التعلم الآلي آخذ في الارتفاع. 

وثمة فارق جوهري بين الوظيفتين: فبينما يركّز دور مهندس الأوامر على صياغة التعليمات وتوجيه النماذج اللغوية، يصمم مهندس التعلم الآلي هذه النماذج ويطوّرها ويحسّن أداءها. وتُضيف ليرنر: "المستقبل يكمن في العمل على النموذج اللغوي الكبير نفسه ومواصلة تحسينه باستمرار، بدلاً من الحاجة إلى شخص لتفسيره".

يمكن أن نعتبر الصعود السريع ثم التراجع المفاجئ لهندسة الأوامر بمثابة قصة تحذيرية حول مدى سرعة تغير مشهد وظائف الذكاء الاصطناعي. فعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا بلا شك ستؤدي إلى إلغاء العديد من الوظائف في مختلف القطاعات، فإنها قد لا تخلق عدداً مماثلاً من الوظائف البديلة. وفي خضم التوقعات المبالغ فيها بشأن الوظائف المستقبلية، يلوح احتمال أن تكون بعض هذه الوظائف مؤقتة بطبيعتها، تختفي بالسرعة نفسها لظهورها.

بشكلٍ عام، يمكن القول إن مهنة "مهندس الأوامر" بمفهومها المستقل قد تراجعت لصالح تحول أوسع في السوق نحو مهارات الذكاء الاصطناعي الأكثر عمقاً. بمعنى أن جوهر هندسة الأوامر لم يختفِ كُلياً، بل تحولت إلى مهارة مدمجة ضمن وظائف أخرى. والأمر المؤكد أن الميزة التنافسية في المستقبل ستؤول إلى المتخصصين الذين يجمعون بين المهارات التقنية العميقة وفهم كيفية توليد النماذج نتائجها.

المحتوى محمي