مغالطة البواب: الوجه الإنساني المفقود في سباق الأتمتة

4 دقيقة
مغالطة البواب: الوجه الإنساني المفقود في سباق الأتمتة
حقوق الصورة: shutterstock.com/ metamorworks

يتزايد الجدل حول تأثير التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي على الوظائف البشرية، بين من يراه وسيلة لرفع الكفاءة ومن يحذر من استبدال البشر بالآلات بطريقة تتجاهل قيمتهم الحقيقية.

- يوضح روري ساذرلاند من خلال "مغالطة البواب" أن التركيز على خفض التكاليف فقط يهمل الأدوار غير ال…

إحدى أبرز القضايا الخلافية التي يثيرها التوسع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي هي كيفية تأثير هذه التقنيات في الوظائف البشرية، فبينما يرى البعض أن الأتمتة والتحول الرقمي يفتحان آفاقاً جديدة لرفع الكفاءة الإنتاجية وخفض التكاليف، يحذر آخرون من أن اندفاع بعض المؤسسات إلى استبدال البشر بالآلات سعياً وراء مكاسب اقتصادية سريعة هو نظرة ضيقة تتجاهل القيمة غير الملموسة التي يضيفها العنصر البشري، وتتسبب في النهاية في تزايد حالات الإخفاق في تحقيق العوائد المتوقعة، فيما يعرف باسم مغالطة البواب (Doorman Fallacy).

مغالطة البواب: القيمة غير المرئية في الأدوار البشرية

يشرح خبير الاقتصاد السلوكي وعلم نفس المستهلك، روري ساذرلاند، في كتابه "الكيمياء: الفن الغامض والعلم الغريب لخلق السحر في العلامات التجارية والأعمال والحياة"، مغالطة البواب باعتبارها استراتيجية تبدو منطقية لتقليل التكاليف لكنها تفشل في النهاية لأنها تتجاهل القيم غير القابلة للقياس. تتمثل هذه المغالطة في الخطأ الذي يقع عندما تختزل استراتيجية العمل في هدفي خفض النفقات وزيادة الكفاءة فحسب.

يقول ساذرلاند: أولاً، أنت تحدد دور بواب الفندق بأنه "فتح الباب" فقط. وإذا كان هذا هو جوهر عمله، فيمكن للحلول التكنولوجية -مثل زر أوتوماتيكي لفتح الباب- أن تحل محله بسهولة، ما يقلل التكاليف. غير أن هذا التصور يغفل أن فتح الباب ليس سوى جزء بسيط من مهامه، إذ تتمثل قيمته الحقيقية في أدوار أخرى يصعب قياسها، مثل استدعاء سيارات الأجرة وتعزيز الأمن وردع المتسكعين والتعرف إلى النزلاء وإضفاء طابع من الهيبة على الفندق، وهي عناصر قد تسهم في نهاية المطاف في رفع العائد المالي من سعر الإقامة.

تتجلى مغالطة البواب بوضوح في الاندفاع غير المدروس نحو الذكاء الاصطناعي، إذ تظهر النظرة السطحية أن كثيراً من الوظائف قابلة نظرياً للأتمتة. فعلى سبيل المثال، أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على توليد مقاطع الفيديو وتحريرها وتأليف الأغاني وأدائها، بل والبرمجة بكفاءة تفوق أداء الكثير من المبرمجين البشر. غير أن هذه القدرات لا تعني بالضرورة إمكانية الاستغناء عن المغنيين أو مهندسي البرمجيات، لأن جوهر عملهم يتجاوز المهام التقنية المدرجة في وصف وظائفهم إلى أبعاد إبداعية وإنسانية أعمق. فبفضل الذكاء العاطفي والخبرة العملية، يتمكن هؤلاء المهنيون من ابتكار حلول للمشكلات تتجاوز حدود المنطق، وتستند إلى فهم سياقات وظروف يصعب على الذكاء الاصطناعي إدراكها أو محاكاتها بدقة.

اقرأ أيضاً: كيف ستؤثر الأتمتة على حياتنا؟

عوائد الذكاء الاصطناعي الموعودة لم تتحقق بعد

تظهر الإحصاءات أن اعتماد الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل يتسارع مدفوعاً بتوقعات بتحسين الكفاءة وخفض التكاليف، إذ كشف استطلاع أجرته شركة "ماكنزي آند كومباني" أن 80% من المشاركين أكدوا أن مؤسساتهم تضع الكفاءة في صدارة أهداف مبادرات الذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، تكمن المفارقة في أن كثيراً من هذه المؤسسات لم تحقق بعد العوائد المنتظرة، بل إن حالات الإخفاق المكلف تتزايد. ووفقاً لتقرير صادر عن مختبر الوسائط في جامعة "إم آي تي"، فإن 95% من المؤسسات لا ترى حتى الآن أي عائد ملموس من استثماراتها في تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويعزى ذلك في الغالب إلى هشاشة سير العمل ونقص الفهم السياقي وضعف توافق هذه التقنيات مع العمليات التشغيلية اليومية.

كما أظهر استطلاع مشترك أجرته منصة التدريب بيتر أب (BetterUp) ومختبر وسائل التواصل الاجتماعي بجامعة ستانفورد أن استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل قد يؤدي أحياناً إلى تباطؤ الإنتاجية بدلاً من تعزيزها، إذ أفاد 40% من أصل 1150 عاملاً في أميركا بأنهم تلقوا "نتائج رديئة" من أدوات الذكاء الاصطناعي، ما اضطرهم أو زملاءهم إلى إعادة إنجاز المهام لتصحيح الأخطاء. وتقدر المؤسسات التي تضم أكثر من 10 آلاف موظف أنها قد تخسر ما يصل إلى 9 ملايين دولار سنوياً من إنتاجيتها بسبب هذه الظاهرة.

اقرأ أيضاً: أتمتة المهام الروتينية: 5 أدوات تزيد إنتاجية المدير

قرارات تسريح متسرعة تكشف حدود الأتمتة

يشير المحاضر في جامعة جنوب أستراليا، جيديميناس ليبنيكاس، إلى أن السبب ربما يكمن في أن انتشار الذكاء الاصطناعي دفع كثيراً من الشركات إلى تقييم موظفيها كما يقيم صاحب الفندق أداء البواب. إذ يستند التقييم فقط إلى ما يمكن أتمتته والتكاليف التي يمكن خفضها. وما يغفل غالباً هو القيمة الأكبر التي يضيفها من خلال الخبرة والسياق والمساهمات غير المرئية التي تعزز ازدهار بيئة العمل.

ويستشهد ليبنيكاس باستطلاع أجرته منصة البرمجيات أورغفيو (Orgvue) أشار إلى أن ما يصل إلى 55% من الشركات التي استبدلت موظفيها بتقنيات الذكاء الاصطناعي أقرت باتخاذ قرارات خاطئة بشأن قرارات التسريح المتسرعة، كما تراجعت التوقعات بين قادة الأعمال بأن الذكاء الاصطناعي سيحل محل البشر.

بين عامي 2022 و2024، أقدمت شركة التكنولوجيا المالية السويدية "كلارنا" على إلغاء نحو 700 وظيفة، معظمها في خدمات العملاء والدعم الفني، واستبدلتها بمساعد ذكي طور بالتعاون مع شركة "أوبن أيه آي". وذكرت الشركة حينها أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لديها كانت تدير ما بين ثلثين إلى ثلاثة أرباع تفاعلات العملاء، معتبرة هذه الخطوة ضرورية لتعزيز الكفاءة وتحسين الهوامش التشغيلية في ظل تباطؤ قطاع التكنولوجيا المالية. ومع ذلك، فقد تراجعت "كلارنا" مؤخراً عن هذا النهج، معلنة نيتها إعادة توظيف عدد من العاملين، بعدما أقر الرئيس التنفيذي سيباستيان سييمياتكوفسكي بأن التوسع المفرط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي أدى إلى تراجع جودة الخدمة وازدياد شكاوى العملاء، بالإضافة إلى صعوبات تشغيلية داخلية.

ربما لهذا السبب يتطلب اعتماد الذكاء الاصطناعي فهماً عميقاً للعناصر البشرية داخل كل دور وظيفي، إذ ينبغي توسيع مفهوم "الكفاءة" ليشمل تقدير تجربة العملاء والنتائج طويلة المدى، وليس مجرد خفض التكاليف. وقبل أن تباشر أي مؤسسة أتمتة المهام أو تفويضها إلى الذكاء الاصطناعي، يجب أن تفهم بدقة طبيعة هذه الأدوار، لأن المهام التي تتطلب إشرافاً وتدخلاً بشرياً قد لا تكون مناسبة للأتمتة.

اقرأ أيضاً: دليلك لأتمتة مهام العمل باستخدام الذكاء الاصطناعي

التحول التكنولوجي يبدأ من الثقافة لا من الأدوات

ترى خبيرة التكنولوجيا في جامعة لندن متعددة التخصصات، كيسترال جايان، أن التحول التكنولوجي لا يقتصر على الأنظمة الجديدة فحسب، بل يشمل أيضاً دمج هذه الأنظمة في ثقافة تحتضنها، وتوحيد الفريق بأكمله وراء رؤية مشتركة، وضمان استخدام الأدوات لخدمة الأفراد وليس العكس. وتضيف أن النجاح في ذلك لا يتحقق بمجرد إنشاء بيئة تعلم افتراضية أو نظام لإدارة علاقات العملاء أو توسيع الأتمتة، بل من خلال إشراك الأفراد في عملية التحول وبناء جسور التفاهم بين الموظفين التقنيين وغير التقنيين، لخلق ثقافة تسهم فيها التكنولوجيا في التمكين بدلاً من أن تصبح عائقاً.

في المقابل، يمكن تطبيق الذكاء الاصطناعي في الأدوار التي لا تحتاج إلى رقابة بشرية مثل إدخال البيانات ومعالجة الصور والصيانة التنبؤية لمراقبة حالة المعدات، وهي مهام تعتمد على القواعد وقابلة للقياس، ما يتيح للموظفين التركيز على أعمال أكثر قيمة.

اقرأ أيضاً: تعلّم كيفية أتمتة عملك وإنجاز المزيد من المهام في وقت أقل

ويشرح الخبير في توجهات المستهلكين هنري كوتينيو-ميسون أن الاعتماد المفرط على الكفاءة وحدها لا يلبي دائماً احتياجات البشر، فلو كان كل ما يهمنا هو السرعة والسعر، لما وجدت المقاهي، ولكننا جميعاً اشترينا قهوتنا من آلات البيع.

المحتوى محمي