تتفق الثورات الصناعية في العالم كله بإطلاق الوعد ذاته: المزيد من الإنتاج بأقل جهد. وقد أصبح هذا الوعد أكثر طموحاً وخطورة في الوقت نفسه بعد توظيف الذكاء الاصطناعي؛ فالأدوات الذكية لا تكتفي بمضاعفة الإنتاجية الفردية، بل تعيد تعريف معنى العمل نفسه. ومع أنها تتيح للفرد إنجاز ما كان يتطلب فريقاً كاملاً، إلا أنها تطرح سؤالاً مقلقاً: من سيشتري هذا الإنتاج كله إن لم يعد كثيرون يعملون ليكسبوا قوتهم؟!
ولتوضيح هذه المسألة تخيل سوقاً صغيرة لتصميم المواقع. عام 2020، كان هناك مئة مشروع تصميم، وكان كل مصمم قادراً على تنفيذ مشروع واحد في الشهر، ما يعني أن السوق تحتاج إلى مئة مصمم لإنجاز المشاريع كلها، ويحصل كل منهم على دخل ثابت. ولكن عام 2025، دخل الذكاء الاصطناعي إلى المشهد، وأصبح كل مصمم قادراً على تنفيذ ثلاثة مشاريع في الشهر بفضل الأدوات الذكية التي تختصر الوقت والجهد. ماذا تغير إذاً؟ لم يزد عدد المشاريع (الطلب)، بل بقي عند مئة مشروع. أما القدرة الإنتاجية (العرض الفردي) فقد تضاعفت ثلاث مرات.
النتيجة واضحة: السوق لم تعد بحاجة إلى مئة مصمم، بل يكفي نحو 33 مصمماً فقط لإنجاز العمل نفسه. أما البقية، وعددهم يقارب 67 مصمماً، فسيفقدون مشاريعهم أو يضطرون إلى خفض أسعارهم بشكل كبير من أجل البقاء في المنافسة.
يمكن تشبيه ذلك بتجربة بسيطة: لديك مئة تفاحة، وهناك مئة شخص وكل شخص يحصل على واحدة فقط. فإذا أصبح كل شخص قادراً على أخذ ثلاث تفاحات بينما لم يزد عدد التفاحات، فمن الطبيعي أن يقل عدد من يتمكنون من الحصول على شيء من التفاح. في الاقتصاد الكلاسيكي، تعرف هذه الحالة باسم زيادة الإنتاجية دون نمو في الطلب، وغالباً ما تؤدي إلى بطالة تكنولوجية مؤقتة أو إلى إعادة توزيع للثروة.
لنأخذ مثالاً واقعياً من الصناعة التحويلية. عام 2012، كانت شركة رينو تُنتج نحو 70,000 سيارة سنوياً في مصانعها في المغرب بجهود 5,086 موظفاً. بعد عشر سنوات، وتحديداً في 2021، بلغ الإنتاج 700,000 سيارة سنوياً، أي زيادة بمقدار عشرة أضعاف، بينما ارتفع عدد الموظفين فقط إلى 11,000 بزيادة بنسبة 2.16 مرة.
هذا يعكس ظاهرة أوسع في قطاع السيارات، خصوصاً في مجال السيارات الكهربائية. فقد زاد إنتاج السيارات الكهربائية عالمياً بنسبة تفوق 1000% خلال العقد الأخير، لكن عدد العاملين في مصانعها لم يزد بالوتيرة نفسها، نظراً لأن عمليات التجميع الآلي تتطلب عمالة أقل بكثير مقارنة بمحركات الاحتراق التقليدية. وفقاً لتقرير الوكالة الدولية للطاقة، ينتج مصنع سيارات كهربائية واحد ما يعادل إنتاج ثلاثة مصانع تقليدية باستخدام عدد الموظفين نفسه تقريباً.
هذا الاتجاه يبرز كيف يمكن للأتمتة والذكاء الاصطناعي أن يرفعا الإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة دون زيادة متكافئة في فرص العمل. إنها معادلة الكفاءة مقابل التشغيل، والذكاء الاصطناعي يعمق هذه المفارقة أكثر فأكثر.
ليست الصورة قاتمة بالكامل. تاريخ الأتمتة يظهر أن كل موجة من التكنولوجيا تخلق وظائف جديدة لم تكن موجودة سابقاً. تقرير ماكنزي العالمي يشير إلى أن 60% من الوظائف عام 2030 ستتطلب مهارات لم تكن موجودة في 2010. الذكاء الاصطناعي لا يقصي البشر بقدر ما يجبرهم على إعادة تعريف أدوارهم.
حين يخفض الذكاء الاصطناعي كلفة الإنتاج، تنشأ مشاريع كانت مستحيلة سابقاً. الشركات الصغيرة تستطيع اليوم تحليل البيانات والتسويق بكفاءة تشبه الشركات الكبرى، والأفراد أصبحوا بمثابة شركات مصغرة بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي المختلفة.
على المدى القصير، سيؤدي الذكاء الاصطناعي إلى ضغط على سوق العمل التقليدي، إذ تتفوق سرعة الأدوات على قدرة الاقتصاد في خلق طلب جديد. تشير تقديرات غولدمان ساكس إلى أن الأتمتة القائمة على الذكاء الاصطناعي يمكن أن تؤثر في 300 مليون وظيفة عالمياً، لكنها قد ترفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7% خلال العقد المقبل.
أما على المدى البعيد، فالقضية تتحول من سؤال كم ننتج؟ إلى لماذا ننتج؟ عندها يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإعادة تشكيل الغايات الاقتصادية، وليس فقط لتأمين وسائلها.
التحدي الحقيقي في اقتصاد ما بعد العمل هو تحويل الوفرة التقنية إلى فرص عمل جديدة، ولعل السؤال المهم: هل ستؤدي زيادة الناتج المحلي الإجمالي إلى زيادة فرص العمل أم إلى تقليلها مع زيادة الإنتاجية؟ وهل ستنعكس زيادة الناتج الإجمالي بسبب الروبوتات إيجاباً علينا معشر البشر؟