يأخذ الذكاء الاصطناعي حيزاً كبيراً من حياتنا، إذ يوفّر الوقت والمجهود من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات وتحليلها بسرعة، سعياً لتقديم إجابات دقيقة للاستفسارات المعقدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي للرد على التساؤلات الدينية وفهم المعتقدات يُعدُّ أمراً مطروحاً للنقاش. فهل يمكنه توفير الإرشاد للأفراد الراغبين في التعمق في المسائل الدينية؟ وكيف يختار المصادر المعتمدة لتوفير الإجابات عن أصعب الأسئلة؟
تتمثل أهم ميزات الذكاء الاصطناعي في إتاحته المعلومات المدعومة بالأدلة بسرعة، لذا يمكنه نشر التفسيرات الدينية بأساليب حديثة من خلال المنصات الرقمية، ما يجعله أداة فعّالة لإيصال المعرفة لأوسع شريحة ممكنة من الأفراد، طالما استُخِدم بطريقة مدروسة حتى يوفّر النتائج الدقيقة فقط بعد فحصها جيداً.
وفي هذا السياق، قال أستاذ الإسلام وأخلاقيات الطب الحيوي في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، الدكتور محمد غالي: "إن التحولات التقنية الكبرى عبر التاريخ أثّرت في مجالات التقنية والصناعة، وطرق اكتساب المعرفة وتشكيل المجتمعات".
هل يُغيّر الاعتماد على الذكاء الاصطناعي طريقة تفاعل الأفراد مع التراث الديني؟
شهد الذكاء الاصطناعي ثورة أثّرت في توجهات الأفراد للبحث عن الإجابات عن كل أسئلتهم، وصولاً إلى استفساراتهم الدينية، إذ تمثّل هذه الثورة تحولاً طبيعياً وضرورياً أصبح من المستحيل تجاهل تأثيراتها، ما يتطلب التفكير العميق في كيفية التعامل معها، وقال غالي: "شهدنا التحول من المشافهة والتلقي المباشر من الشيخ أو المعلم إلى عصر الكتاب المخطوط، الذي أتاح للناس استقاء المعرفة دون الحاجة إلى التواصل المباشر مع مؤلف الكتاب. ثم جاء التحول إلى عصر الطباعة، ويليه الرقمنة، وهي تحولات غيّرت طرق إنتاج المعرفة جذرياً، وحدّدت سُبل الوصول إليها، لتسهم في تشكيل ملامح السُلطة العلمية والمعرفية. وعليه، فمن المهم أن نفهم طبيعة التحول الرقمي لنتمكن من إدراك التحول الذي نشهده اليوم في ظل الذكاء الاصطناعي".
تحوّلت الكتب والبحوث العلمية في عصر الرقمنة إلى صيغ رقمية وظهرت قواعد بيانات رقمية تُتيح للأفراد البحث عن المعلومات بطرق أسهل وأسرع من الطرق التقليدية. ثم ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت طرقاً جديدة للكتابة والنشر للعديد ممن لا ينتمون للنخبة العلمية القادرة على تأليف الكتب، ما أتاح فرصة لاستغلال البيانات الشخصية لتوجيه الإعلانات التجارية. وأوضح غالي أنه "مع هذا الانفجار الرقمي، أصبح من المستحيل تقريباً استيعاب الكم الهائل من المعلومات المتاحة رقمياً باستخدام الوسائل التقليدية. وبالتالي، أصبح من الضروري استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لمعالجة هذه البيانات وتحويلها إلى إجابات واضحة وسريعة عن الأسئلة التي يطرحها الأفراد".
تشير بعض الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم بشكلٍ متزايد لاستكشاف الممارسات الدينية والمعتقدات والاستفسارات. على سبيل المثال، طُوِّرت أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتوفير التوجيه الروحي والمساعدة على فهم النصوص الدينية المعقدة، مثل مشروع فنار الذي يُعدُّ ثمرة التعاون بين وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وجامعة حمد بن خليفة، باعتباره نموذجاً لغوياً يمثّل قيم المجتمعات العربية والإسلامية.
وأوضح العالم في مجموعة تقنيات اللغة العربية في معهد قطر لبحوث الحوسبة، الدكتور مجد حواصلي "أن فنار لديه من الدرایة بالثقافة الإسلامیة ودعوة الإسلام ما یجعله وسیلة میسرة ومتاحة في كل وقت لمَن یودُّ التعرف إلى الإسلام وفھم عقائده وشرائعه بأسلوب آمن. إذ یسمح لطالب المعرفة أن یسأل باللغتين العربیة والإنجلیزیة، ویتعاون باحثو فنار مع أكادیمیین متخصصین في العلوم الإسلامیة لإثراء المحتوى الإسلامي الذي یُعالج القضایا الحساسة والجدلیة لزیادة دقته".
تحديات يواجهها الذكاء الاصطناعي
تحوم بعض المخاوف من الاعتماد على نتائج الذكاء الاصطناعي، وتحوله إلى حاطب بالليل، وهو تشبيه استُخدِم قديماً للتعبير عن الحاطب الذي يجمع كلَّ ما هو سليم وسقيم دون أن يرى ليلاً. وهذا بالضبط ما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدّمه دون استشارة الباحثين والاستناد إلى المعلومات الموثوقة المتعلقة بالأمور الدينية. فقد قال غالي: "إن معايير الجودة والضوابط الأخلاقية التي يجب مراعاتها عند تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي تواجه بعض التحديات، كي لا تؤول الإجابات إلى خبط عشواء، أو يصبح الذكاء الاصطناعي حاطباً بالليل كما يُقال".
وأوضح أن هذه التحديات تتمثل في جانبين رئيسيين، يتعلق الجانب الأول منها بالشق التقني خاصة مع نقص البيانات الضخمة المتخصصة في التراث الإسلامي والعلوم الشرعية، إذ تظل المصادر العربية في مجال التراث الإسلامي شحيحة للغاية، ما يتطلب تدخلاً من المتخصصين في الهندسة، وعلوم الحاسوب، والإنسانيات الرقمية، والفنيين بشكلٍ عام، لتوفير قاعدة بيانات ثرية ومتكاملة. أمّا الجانب الثاني فيتعلق بمجال الدراسات الإسلامية نفسه، الذي يضم قوالب علوم متنوعة من علوم القرآن والحديث، إلى الفقه والعقيدة وعلم الكلام والفلسفة، وغيرها، وكل حقل منها يشتمل على مدارس ومذاهب قد تختلف في تفسير النصوص وتأويلها واستنباط الأحكام منها.
من هنا، فإن إدراج هذه المصادر في أدوات الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون مدروساً بعناية، ومشروطاً بمشاركة العلماء والباحثين، لذا يعمل مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد خليفة، على إسلام جي بي تي 1.0 (IslamGPT 1.0) وهو نموذج لغوي كبير مدعم بالذكاء الاصطناعي ومصمم خصيصاً للمصادر العربية في الدراسات الإسلامية، بهدف مواجهة هذه التحديات من خلال فريق بحثي يجمع بين هذه التخصصات.
ويُعدُّ التدريب أهم السُبل لتعزيز عمل أدوات الذكاء الاصطناعي لتوفير الإجابات الموثوقة، إذ قال حواصلي إن "التوازن والموضوعیة كانا ھدفین أساسیین في تدریب نموذج فنار، بهدف الإجابة عن التساؤلات بطریقة مفیدة وآمنة في آنٍ واحد. على سبيل المثال، عند معالجة سؤال متعلق بالإسلام، یتم البحث في قاعدة بیانات كبیرة لمحتوى إسلامي موثوق عما یتعلق بموضوع السؤال وتستخلص المقاطع ذات الصلة ثم تقدم إلى فنار لیعالجھا ویھذبھا ویصیغھا باعتباره الجواب الصحيح. ویسمح ھذا الأسلوب الذي یدمج البحث والتولید بالحفاظ على دقة المعلومة والرسالة مع التفاعل مع المستخدم وخدمته بالشكل المطلوب".
ضرورة الاجتهاد البشري لدعم أدوات الذكاء الاصطناعي
يوجّه الإبداع البشري أدوات الذكاء الاصطناعي ويسهم في تطويرها، بما يعزّز دورها لخدمة الأفراد والرد على الاستفسارات بطريقة صحيحة. وقال غالي "إن هناك جانباً آخر يعتقد كثيرون أن الإنسان سيظل متفوقاً فيه على الآلة، وهو ما يُعرف بالنظر والتعليل الفقهي. ويتعامل هذا النوع من الاجتهاد مع معالجة المعلومات المتاحة في المصادر للوصول إلى حكم جديد في مسألة لم تتطرق لذكرها المصادر، وهو ما يُعرف بالوقائع أو المستجدات أو النوازل الفقهية. وتتطلب هذه العملية جهداً بشرياً خاصاً، يتمثل في مسؤولية الإنسان واستحكامه ضميره واستفتاء قلبه، لكن كلّها أمور يجب التفكير فيها بعد حل التحديات التي تواجه أدوات الذكاء الاصطناعي".
وأضاف أن "التغلب على التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي لتوفير إجابات صحيحة ودقيقة دينياً، سيمكّن مثل هذه الأدوات المتطورة من استخراج إحصاءات دقيقة لآراء الفقهاء في مسألة ما عبر قرون متعاقبة، وهو ما قد يصعب أو يتعذر على الباحث المتمرس في هذا المذهب، نظراً للإمكانات الذهنية المحدودة للإنسان في حفظ هذا الكم من المعلومات واستدعائها في ثوانٍ معدودة".
ويرى حواصلي "أن حلول الذكاء الاصطناعي التوليدي تقدّم تجربة فريدة في مجال التعلم المخصص والتفاعلي في الأوقات والأماكن كلّها. وحينما تربط ھذه الحلول المبتكرة مع قواعد بيانات موثوقة ومعتمدة، في فروع الثقافة الإسلامیة، فإن النتیجة تتجاوز الحلول التقلیدیة للتعلم من حیث شمولیتها وتوفرھا ومراعاتھا لحال المتعلم".
موضحاً أن تقنیات الذكاء الاصطناعي التولیدي ما زالت في طور التطویر ولم تنضج بعد النضج الكامل، إذ تظل إمكانیة الخطأ فیھا واردة، لذا لا غنى عن العنصر البشري الذي یُقیِّم أداء ھذه النُظم ویتكامل معھا.
وبينما يمكن لهذه التكنولوجيا أن تسهم في تسهيل الوصول إلى التفسيرات الدينية ونشرها، تبقى الحكمة البشرية والمراجعة الأخلاقية أمرين ضروريين لضمان التوازن بين الابتكار والالتزام بالقيم. ويمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لفتح آفاق جديدة لاكتساب المعرفة وتبسيط المسائل المعقدة وتوفير الوقت، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التكنولوجيا تتطلب مجهوداً بشرياً ودرجة عالية من الحرص والتحقق لضمان صحة الإجابات واستنادها إلى مصادر موثوقة. لذا تولي مؤسسة قطر اهتماماً كبيراً لتطوير هذه التكنولوجيا ودعم الابتكار في مجالات عدة تتضمن تكنولوجيا المعلومات والتعليم والبيئة والرعاية الصحية.
وتسعى مؤسسة قطر إلى طرح تقنيات جديدة في السوق العالمية ورصد التحديات واستكشاف الفرص، إذ تمتلك منظومة بحثية عزّزتها على مدار عقد ونصف العقد، في إطار دعمها رؤية قطر الوطنية في مجالات التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وتشمل هذه المنظومة البحثية دورة البحوث المتكاملة في مجالات التعليم والبحث والتطوير والابتكار والتسويق وريادة الأعمال.