تقرير خاص

كيف يبدو مشهد الملكية الفكرية في العصر الرقمي؟

5 دقيقة
كيف يبدو مشهد الملكية الفكرية في العصر الرقمي؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/Sumitbiswas1

في ظل التطور التكنولوجي السريع، أصبح نشر الأعمال الفنية والبرمجيات المبتكرة والمؤلفات الفكرية أسهل من أي وقتٍ مضى، كما لم تعد الملكية الفكرية تقتصر على براءات الاختراع وحقوق التأليف التقليدية، بل امتدت لتشمل كل منتج إبداعي يمكن الوصول إليه رقمياً وإعادة استخدامه. ومن هذا المنطلق تبرز معضلة أساسية ألَا وهي كيف يمكن حماية هذه الإبداعات في عالم رقمي تتضاعف فيه القدرة على النسخ وإعادة النشر بلمح البصر؟ فالحدود بين الملكية والاستخدام باتت غير واضحة، ما يجعل حماية الحقوق الفكرية أكثر تعقيداً في البيئة الرقمية المتغيرة.

ومع ذلك، يجدر التنويه بأن البيئة الرقمية تشهد تحولات سريعة لدرجة يصعب على أي منشور يناقش القضايا الرقمية أن يعكس الوضع الحالي بدقة كاملة. ونظراً لتفاوت التطورات التقنية والتشريعية بين مختلف الدول، فإن أي استقصاء تحليلي قد لا يكون سوى لمحة انتقائية من واقع متغير باستمرار، كما أن التكنولوجيات الناشئة قد تكون على وشك إحداث تحول جذري في قطاع النشر، ما قد يُعيد رسم ملامحه بالكامل. إضافة إلى ذلك، تختلف الأسواق الرقمية حول العالم بشكلٍ كبير، حيث تتأثر القطاعات المتشابهة ظاهرياً بطرق متباينة وفقاً لتفاعلها مع التحولات الرقمية، فهل يمكن أن تكون التكنولوجيا القفل الذي يغلق الأبواب والمفتاح الذي يفتحها في الوقت ذاته؟

مفهوم الملكية في الاقتصاد الرقمي

إذا ألّفت كتاباً، لا يمكن لدار نشر طباعته دون إذنك، وإذا اخترعت منتجاً جديداً، تحميك قوانين البراءات من المنافسين. لم يكن النظام مثالياً، لكنه كان واضح المعالم في العالم الواقعي.

لكن مع ظهور الإنترنت، أصبحت حقوق الملكية الفكرية أكثر عرضة للانتهاك، كصناعة الموسيقى والأفلام والبرمجيات، وجميعها واجهت موجات من القرصنة الرقمية التي قلبت موازين السوق، والمحتوى الذي كان يوماً ما محمياً أصبح يُنسخ ويُوزَّع بسهولة، وغالباً دون أي عواقب.

واليوم تزداد الأمور تعقيداً، إذ لم تعد الأصول الرقمية مجرد ملفات يمكن تحميلها، بل أصبح من المحتمل أن تشكّل اقتصادات رقمية كاملة. فقد استثمرت شركات مثل نايكي وأديداس وغوتشي الملايين لعرض علاماتها التجارية في العالم الرقمي، حيث تبيع منتجات افتراضية في العوالم الافتراضية "الميتافيرس".

هذه ليست مجرد موجة، فعلى الرغم من تراجع الزخم، فإنه ما زال موجوداً، ومن المحتمل أن يتألق كما كان قبل سنتين. هذه العوالم الافتراضية هي سوق جديدة تُعيد تعريف مفهوم "الملكية".

وتكمن المعضلة هنا في أن القوانين التقليدية لا تنطبق دائماً على هذا العالم الجديد، فكيف نحمي قطعة رقمية من التزوير بينما يمكن نسخها بلا نهاية؟ ظهرت الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) وسيلةً لإثبات الملكية.

ثم هناك تحدٍ أكبر: المحتوى المُنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإذا أنشأت خوارزمية الذكاء الاصطناعي صورة أو مقطعاً موسيقياً أو حتى رواية كاملة بناءً على مدخلات بشرية، مَن الذي يمتلك هذا المنتج النهائي؟ هل هو الشخص الذي درّب الذكاء الاصطناعي أمْ الشركة المطورة له أمْ الملايين من الفنانين والكُتّاب الذين أسهمت أعمالهم في بناء النموذج الذكي؟

هل يمكن للتكنولوجيا حل المعضلات التي أوجدتها؟

بينما جعلت التكنولوجيا انتهاك حقوق الملكية الفكرية أسهل من أي وقتٍ مضى، فقد تكون هي أيضاً الوسيلة الأكثر فاعلية لحمايتها. إليك بعض الحلول التي يُجري تطويرها حالياً:

1- البلوك تشين والذكاء الاصطناعي: إثبات الملكية وتعزيز إنفاذ الحقوق

تقنية البلوك تشين تُقدَّم حالياً عبر العديد من المنصات حلاً لإثبات ملكية المحتوى الرقمي عبر تسجيل الأصول الرقمية على سجل غير قابل للتغيير، يمكن للمبدعين توثيق ملكيتهم لأعمالهم سواء كانت تصاميم فنية أو مقاطع موسيقية أو برمجيات.

لكن بالرغم من أنها تُثبت الملكية، فإنها لا تمنع الانتهاكات والاستخدامات غير المصرّح بها، حيث يمكن لأي شخص نسخ محتوى مسجل وتوزيعه دون إذن، ما يجعل تقنيات الذكاء الاصطناعي ضرورية لحماية الملكية الفلكية، عبر مراقبة انتهاكات حقوق الملكية الفكرية المسجلة من خلال تتبع السجل، حيث يوفّر دليلاً قانونياً للامتلاك عبر الشبكة الرقمية.

تستخدم منصات مثل YouTube Content ID تقنيات التعلم الآلي لمسح الإنترنت بحثاً عن المحتوى المنسوخ أو المُستخدم دون إذن، بالتالي تقنيات مماثلة يمكن أن تساعد على رصد انتهاكات حقوق التأليف في الصور والموسيقى والنصوص.

2- العقود الذكية: حماية تلقائية للملكية الفكرية

أحد الحلول الواعدة هو استخدام العقود الذكية، وهي عقود رقمية تنفّذ نفسها تلقائياً عند استيفاء شروط معينة ويمكن لأصحاب الحقوق ترخيص أعمالهم عبر هذه العقود، بحيث تُفرض الشروط تلقائياً دون الحاجة إلى طرف ثالث.

على سبيل المثال، إذا تم بيع تصميم رقمي، يمكن للعقد الذكي التأكد من استلام المصمم المبلغ فوراً، مع تحديد قيود الاستخدام بحيث لا يمكن استغلال العمل بطريقة غير مشروعة، ما يجعل هذه العقود تنظّم العلاقة التعاقدية من خلال آلية موثوقة لحماية الحقوق وتحديد الاستخدامات المسموح بها بطريقة واضحة وشفافة.

سن التشريعات المنظمة للعالم الرقمي: بين التطور المستمر والتحديات المتزايدة

تخيل أنك اكتشفت أن شخصاً في دولة أخرى يبيع نسخة مقرصنة من تصميمك الرقمي. اتخاذ إجراء قانوني في مثل هذه المنازعات يحتّم عليك أن تنظر في الصورة بشكلٍ شامل، حيث إن هذه المنازعات تمتد عبر  أنظمة قضائية مختلفة، وتكاليفها القانونية باهظة، وحتى لو كسبت القضية، فإن تنفيذ الحكم قد يكون معضلة بحد ذاته.

بالنسبة للأطراف المشاركة في تلك المنازعات، غالباً ما يكون اللجوء إلى إجراءات التقاضي التقليدية غير مناسب، لأنه قد يعطّل علاقاتهم التجارية المستمرة، وقد تعجز المحاكم على توفير ما يلزم من سرعة وسرّية وخبرة قطاعية وحلول اقتصادية. وفي مثل هذه الحالات، تُعدّ خيارات الحلول البديلة لتسوية المنازعات، بما في ذلك الوساطة أو التحكيم أو قرارات الخبراء، بدائل أكثر ملاءمة. وقد أدّى الاعتماد المتزايد للأدوات الإلكترونية لتسوية المنازعات، من قبيل سجلات القضايا عبر الإنترنت وأدوات عقد المؤتمرات عبر الفيديو، في سياق الخيارات البديلة لتسوية المنازعات إلى زيادة جاذبية هذه الخيارات.

على نحو ما توثّقه تقارير الويبو، فإن منازعات حقوق الملكية الفكرية تشمل قطاعات الإعلانات والرسوم المتحركة والبث والأفلام وحماية قواعد البيانات والكتب والنشر بشكلٍ عام، بما في ذلك الكتب الإلكترونية وتطبيقات الهاتف المحمول والمصنفات الموسيقية والتسجيلات الصوتية والصور الفوتوغرافية والبرمجيات وبرامج التلفزيون وألعاب الفيديو. وغالباً ما يتعلق موضوع هذه المنازعات بوجود حقوق صحيحة وهوية صاحبها وما إذا كانت قد انتُهكت، بالإضافة إلى المعاملات المتعلقة بالحقوق. على سبيل المثال، نقل أصل الملكية الفكرية، وأخيراً وليس آخراً العوائد المالية المناسبة لاستخدام المحتوى المحمي على سبيل المثال، تحديد رسوم الترخيص.

التحكيم والوساطة: بدائل فعّالة لحل نزاعات الملكية الفكرية

نظراً لتعقيد قضايا الملكية الفكرية، أصبحت الوساطة والتحكيم أدوات رئيسية لحل النزاعات بشكلٍ أسرع وأقل تكلفة من المحاكم التقليدية. تقدّم منظمة WIPO للتحكيم والوساطة خدمات متخصصة في النزاعات المرتبطة بالملكية الفكرية، ما يسمح للأطراف بحل خلافاتهم بسرية وسرعة دون اللجوء إلى المحاكم.

بالنسبة للشركات التي تعمل على مستوى عالمي، لا يُعتبر التحكيم خياراً ثانوياً، بل بات الخيار الأمثل لحماية حقوقها الرقمية.

آليات الإبلاغ وحذف المحتوى: هل يمكن توحيدها عالمياً؟

إحدى الأدوات الأكثر استخداماً لحماية الحقوق الرقمية هي أنظمة الإبلاغ والحذف (Notice & Takedown). يُتيح هذا النظام لأصحاب الحقوق مطالبة المنصات بإزالة المحتوى المُقرصن، كما الحال مع قانون DMCA في الولايات المتحدة.

لكن المشكلة أن هذا النظام يستجيب بعد وقوع الانتهاك، ولا يمنعه استشرافاً، حيث إنه بحلول الوقت الذي يكتشف فيه صاحب المنفعة أن عمله قد سُرق، يكون قد تم تحميله آلاف المرات، ما يجعل استرجاعه أمراً شبه مستحيل.

حل أكثر فاعلية قد يكون إجبار المنصات جميعها على اعتماد معايير موحدة للإبلاغ والحذف، مدعومة بأدوات ذكاء اصطناعي قادرة على اكتشاف المحتوى غير المصرح به قبل انتشاره.

الملكية الفكرية في العصر الرقمي: تحديات وحلول قيد التطوير

جعلت التكنولوجيا حياتنا أكثر سهولة وكفاءة، لكنها في المقابل زادت من تعقيد حماية الحقوق، خاصة الملكية الفكرية. ومع ذلك، فإن القوانين والأنظمة القانونية تتطور باستمرار لمواكبة التحولات الرقمية.

قد لا يكون لدينا حتى الآن حل مثالي، لكن من الواضح أن المستقبل سيتطلب مزيجاً من التشريعات القانونية، والتكنولوجيا الذكية، والوعي المجتمعي لضمان أن يبقى الإبداع والابتكار محميين في عالمنا الرقمي المتسارع.

المحتوى محمي