في أحد مختبرات جامعة مانشستر عام 2004، استخدم أندريه غايم وكونستانتين نوفوسيلوف شيئاً لا يشبه أبداً أدوات الاكتشافات الكبرى: شريط لاصق عادي وقلم رصاص. كانا يلصقان الشريط على قطعة من الغرافيت، ثم ينزعانه، فينفصل جزء رقيق جداً. أعادا العملية مرات عديدة، حتى حصلا على طبقة واحدة فقط من ذرات الكربون، مرتبة في شبكة سداسية أشبه بسلك دجاج نانوي. هذه الطبقة حملت اسماً جديداً: الغرافين، وحملت معها موجة عالمية من الحماس العلمي، انتهت بعد ستة أعوام فقط بجائزة نوبل في الفيزياء عام 2010 للعالمين غايم ونوفوسيلوف.
منذ ذلك الحين، خرج الغرافين من مختبر بريطاني إلى عناوين الصحف بوصفه "المادة الأعجوبة". فهو أرق مادة ممكنة (سماكة ذرة واحدة)، وأقوى من الفولاذ عشرات المرات، وأفضل موصل تقريباً للكهرباء والحرارة، وكل ذلك من عنصر واحد بسيط: الكربون.
لكن بعد مرور نحو عشرين عاماً، يسأل الكثيرون إذا كان الغرافين بهذه الروعة فلماذا لا نراه في كل شيء حولنا؟ ولماذا بدأ اسم جديد يظهر في أبحاث المواد المتقدمة، هو الماكسين (MXene)، بوصفه منافساً حقيقياً وربما مكملاً للغرافين في سباق "مواد المستقبل"؟
جامعة خليفة تتابع
جرى طرح هذا السؤال خلال الدورة الثانية من القمة الدولية للمواد ثنائية الأبعاد والمواد المتقدمة التي استضافتها جامعة خليفة في أبوظبي بين 17 و20 نوفمبر 2025، وهي فعالية علمية وصناعية كبرى هدفت إلى تسريع الابتكار في مجال الغرافين والماكسين والمواد ثنائية الأبعاد.
شارك في القمة كبار العلماء ومطورو التقنيات والباحثون الصناعيون والمستثمرون من مختلف أنحاء العالم، وقدمت عشرات الندوات وورش العمل المتخصصة في الطاقة والمياه والصحة والإلكترونيات والفضاء، إضافة إلى فعالية "عرض الشركات الناشئة" التي أتاحت للباحثين والمبتكرين تقديم أفكارهم أمام المستثمرين وصناع القرار.

في إحدى الجلسات الرئيسية، قدم كولين إلكوت من إحدى الشركات التي بدأت إنتاج الغرافين في دولة الإمارات، طرحاً لافتاً اختزل فيه أزمة الغرافين الحالية بجملة مباشرة: "مشكلتنا ليست في المواد، مشكلتنا في السوق"، مؤكداً أن العقبة لم تعد علمية، بل مرتبطة بغياب منظومة صناعية متكاملة، وبطء اعتماد المواد الجديدة، وتشتت سلاسل التوريد في غياب معيار موحد للجودة. ثم أضاف في معرض حديثه: "الغرافين لم يعد مكلفاً، التحدي الآن هو القدرة على التوسع".
وقد استعرض أمثلة من الصناعة توضح أن خفض السعر وحده لا يكفي لتسريع استخدام هذه المادة، وأن التحول الحقيقي يتطلب شراكات إقليمية، ورأس مال صبوراً، وتناغماً بين السياسات الحكومية والأبحاث الأكاديمية.
وفي جلسة أخرى خلال القمة، تناول الباحث كاري هيلت من مركز تشالمرز للصناعة في السويد المسار الطويل الذي تسلكه المواد الجديدة قبل دخولها خطوط الإنتاج، مؤكداً أن "الانتقال من نجاح المختبر إلى اعتماد السوق يحتاج في المتوسط سبع سنوات"، وأوضح أن الغرافين مثال واضح على هذه الفجوة بين الحماس الأكاديمي ومتطلبات الصناعة، داعياً إلى بناء جسور أقوى بين الجامعات والمصانع، واعتماد معايير واضحة تتيح دمج هذه المواد في المنتجات الفعلية.
شهدت القمة جلسة رئيسية قدمها البروفيسور سير كوستيا نوفوسيلوف، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء، حيث تناول التطورات المتسارعة في المواد المتقدمة وكيف يمكن أن تقود موجة جديدة من الابتكارات في مجالات الإلكترونيات والكم.

كما استضاف المعرض 22 شركة متخصصة في هذه المواد، فيما تولى الدكتور مأمون طاهر تصميم ورئاسة جلسة عرض الأفكار التي جمعت 20 شركة ناشئة عرضت حلولاً مبتكرة تعتمد على تقنيات مواد ثنائية الأبعاد.
وما توصلت إليه القمة، التي جمعت نخبة من الباحثين العالميين وخبراء التقنية والتطبيقات المتقدمة، في تقديم صورة واقعية ومشوقة عن مستقبل الغرافين والماكسين، هو أن هذه المواد تمتلك قدرات هائلة، لكن إطلاق إمكاناتها يتطلب منظومة كاملة: من المختبر إلى المصنع، ومن التجربة إلى السوق، ومن الاكتشاف إلى الاستثمار الحقيقي.
الغرافين: من شريط لاصق إلى وعود كبرى
من الناحية العلمية، يمكن أن نعرّف الغرافين بأنه طبقة ثنائية الأبعاد من الكربون، حيث ترتبط كل ذرة بثلاث ذرات أخرى في شبكة سداسية. هذا الترتيب يمنح المادة مزيجاً نادراً من:
1. قوة ميكانيكية عالية جداً.
2. موصلية كهربائية وحرارية ممتازة.
3. شفافية ومرونة.
هذه الخصائص تجعل الغرافين مرشحاً طبيعياً لدخول حياتنا في عدة مجالات:
● إلكترونيات أرق وأسرع: ترانزستورات عالية السرعة، ودوائر مرنة، وشاشات يمكن ثنيها أو ارتداؤها.
● بطاريات وسوبركاباسيتورز أفضل: أقطاب تعتمد على الغرافين لتحسين سرعة الشحن وكثافة الطاقة.
● أغشية لتنقية المياه: مسام نانوية دقيقة تسمح بمرور الماء وتمنع الأملاح والملوثات.
● مركبات خفيفة الوزن: مواد مركبة في السيارات والطائرات والأدوات الرياضية تجمع بين الخفة والمتانة.
هذه ليست أحلاماً نظرية فقط؛ فشركات عدة دمجت مشتقات الغرافين في مضارب التنس والدراجات وأجزاء من الطائرات، وفي تحسين أداء بعض البطاريات والطلاءات الموصلة.
ومع ذلك، لا يزال الغرافين بعيداً عن أن يصبح "المادة اليومية" التي تحيط بنا في كل منتج، كما أوحت موجة الحماس الأولى.
لماذا لا نعيش في عالم مغطى بالغرافين؟
هناك فجوة واضحة بين وعود الغرافين وواقع الصناعة اليوم، ويمكن تلخيص أهم العوائق في أربع نقاط رئيسية:
1. مشكلة الإنتاج على نطاق واسع
طرق إنتاج الغرافين عالي الجودة (مثل الترسيب الكيميائي CVD) لا تزال بطيئة ومكلفة، وتنتج مساحات محدودة، في حين لا تناسب طرق الإنتاج الأرخص (مثل التقشير الكيميائي) التطبيقات التي تحتاج إلى طبقة مثالية خالية من العيوب. كثير من الشركات تعاني مزيجاً مزعجاً: جودة متفاوتة، وعيوب في البنية، وصعوبة ضمان خصائص متكررة من دفعة إلى أخرى.
2. التكلفة المرتفعة للمتر المربع
تقدر بعض التحليلات أن تكلفة المتر المربع من الغرافين عالي الجودة لا تزال مرتفعة جداً، وهو ما يجعل منافسة النحاس أو الألومنيوم أو البوليمرات التقليدية أمراً غير واقعي في كثير من التطبيقات الجماهيرية.
3. دمجه في سلاسل الإنتاج القائمة
لا يكفي أن تكون المادة "ممتازة" في المختبر، فالشركات تحتاج إلى أن تعرف كيف تلصق الغرافين بالبلاستيك والمعادن، وكيف تطبعه على رقائق إلكترونية، وكيف تتحكم في عيوبه على خطوط إنتاج سريعة. هذه المعرفة الصناعية تتطور، لكنها لا تزال محدودة مقارنة بالمواد التي نستخدمها منذ عقود.
4. غياب المعايير الموحدة
حتى وقت قريب، لم يتفق المجتمع العلمي والصناعي على تعريف عملي واحد لما يمكن تسميته "غرافين"، ما فتح الباب أمام منتجات تجارية تضيف "شيئاً قريباً من الغرافين" أكثر مما تضيف غرافين حقيقياً، وأدى ذلك إلى فقدان الثقة أحياناً في السوق.
على الرغم من هذه العوائق، شهدت السنوات الأخيرة موجة جديدة من الواقعية والهدوء، مع تركيز أكبر على التطبيقات التي يستطيع الغرافين تحسينها فعلاً، لا تلك التي وُعد بها نظرياً فقط. في الوقت نفسه، ظهرت عائلة جديدة من المواد ثنائية الأبعاد، لا تنافس الغرافين فقط، بل تكمله في مجالات عدة: الماكسينات.
ما هو الماكسين؟ جيل جديد من المواد الثنائية الأبعاد
الماكسين (MXene) ليس مادة واحدة بل عائلة كاملة من الكربيدات والنتريدات الثنائية الأبعاد، تتكون من:
● معدن انتقالي (مثل التيتانيوم أو الفاناديوم).
● طبقات من الكربون أو النيتروجين.
● مجموعات سطحية نشطة (مثل O وOH وF).
يحصل الباحثون على الماكسين عبر إزالة طبقة "A" من مركبات تسمى MAX، باستخدام أحماض انتقائية، ليتبقى هيكل رقيق ثنائي الأبعاد عالي الموصلية، يمكن تفريقه في الماء على شكل رقائق نانوية.
هذه البنية تجعل الماكسين مادة هجينة بين عالم المعادن وعالم المواد ثنائية الأبعاد، وتمنحه مميزات مهمة لصناعة الغد:
1. موصلية كهربائية ممتازة، أحياناً تضاهي أو تتفوق على الغرافين في بعض التركيبات.
2. سطح شديد النشاط الكيميائي يسمح بربط الماكسين مع البوليمرات والمعادن والجسيمات الأخرى بسهولة.
3. قدرة عالية على إدخال الأيونات وخروجها، ما يجعله مثالياً لتخزين الطاقة.
4. أداء مميز في حجب التداخل الكهرومغناطيسي (EMI shielding)، وهي مشكلة تتزايد مع تضخم عدد الأجهزة المتصلة حولنا.
كيف يمكن أن يغير الماكسين حياتنا؟
إذا نظرنا إلى التحديات الكبرى في المنطقة والعالم اليوم، سنجد ثلاثة مجالات تبرز بوضوح: الطاقة، والماء، والتداخل الكهرومغناطيسي. الماكسينات تظهر مرشحاً قوياً في هذه الملفات الثلاثة:
1. بطاريات المستقبل وتخزين الطاقة
مراجعات علمية حديثة ترصد أداءً مميزاً للماكسين في أقطاب بطاريات الليثيوم والصوديوم والزنك، وكذلك في المكثفات الفائقة بسبب قدرته على تمرير الأيونات بسرعة واحتضانها على سطحه كبير المساحة.
2. تنقية المياه ومعالجة الملوثات
أوراق بحثية عدة تدرس استخدام الماكسين لإزالة المعادن الثقيلة والملوثات العضوية، ولإنتاج هيدروجين نظيف، مستفيدة من سطحه النشط ومرونته في تشكيل أغشية ومرشحات.
3. دروع كهرومغناطيسية للأجهزة والمدن الذكية
مع انتشار شبكات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء، تزداد الحاجة إلى مواد تحجب التداخل الكهرومغناطيسي وتحمي الأجهزة الحساسة. أفلام رقيقة من Ti₃C₂Tx MXene أظهرت قدرة عالية جداً على امتصاص الإشعاع الكهرومغناطيسي، ما يجعلها مرشحاً لدروع خفيفة في الإلكترونيات، وحتى في التطبيقات الدفاعية.
إلى جانب ذلك، يجري تطوير مركبات تجمع الماكسين مع البوليمرات لصناعة أحبار وطلاءات موصلة يمكن طباعتها ثلاثية الأبعاد أو رشها على الأسطح، وهو طريق عملي لدمج هذه المواد في المنتجات اليومية.
هل الماكسين أقرب إلى الصناعة من الغرافين؟
بدأ العلماء يدرسون ليس فقط خواص الماكسين، بل أيضاً جدواه الاقتصادية. إحدى الدراسات التي حللت تكلفة إنتاج Ti₃C₂Tx (أشهر أنواع الماكسين) قدرت تكلفة الغرام الواحد بنحو 12–20 دولاراً، وهو رقم لا يزال مرتفعاً لكنه يقترب من أسعار السوق الحالية، ويعطي صورة أوضح لمسار خفض التكلفة مع توسيع الإنتاج.
في المقابل، لا تزال تقديرات تكلفة الغرافين عالي الجودة لكل متر مربع مرتفعة، مع صعوبات في توحيد الجودة على مساحات واسعة، ما يبطئ مسار اعتماده في صناعات تتطلب رقائق كبيرة ومنتظمة.
لا يعني ذلك أن الماكسين سيحل محل الغرافين؛ الأرجح أن المستقبل سيشهد تقاسماً للأدوار بين عائلة الغرافين وعائلة الماكسين، وربما بينهما وبين مواد ثنائية الأبعاد أخرى (مثل الموليبدينوم ثنائي الكبريت MoS₂ وغيرها). كل مادة ستتخصص في مساحة معينة:
- الغرافين في الإلكترونيات العالية السرعة والمركبات خفيفة الوزن.
- الماكسين في البطاريات، وتنقية المياه، والدروع الكهرومغناطيسية.
- مواد أخرى في الحساسات والبصريات الكمية.
مستقبل المواد الثنائية الأبعاد
تبدو قصة الغرافين والماكسين أكثر من مجرد حكاية علمية. فهذه المواد تتقاطع مباشرة مع أجندات الطاقة المتجددة، والأمن المائي، والمدن الذكية التي تتصدر رؤى دول الخليج وشمال إفريقيا.
الجامعات ومراكز الأبحاث في المنطقة بدأت تدخل هذا السباق بالفعل، من خلال مختبرات مواد متقدمة، وشراكات مع مراكز عالمية تعمل على الغرافين والماكسين، وبرامج لتحويل الأبحاث إلى شركات ناشئة في مجالات البطاريات والمياه والمواد المركبة.
بعد عشرين عاماً على اكتشاف الغرافين، ربما تراجع وهج "المادة الأعجوبة" في الإعلام، لكنه لم يتراجع في المختبرات. وفي الوقت نفسه، صعد نجم الماكسين كأحد أهم المرشحين ليكون مادة الجيل القادم في الطاقة والماء والاتصالات.
ربما لا نرى اسم الغرافين أو الماكسين على عبوات المنتجات في المتاجر قريباً، لكننا على الأغلب سنرى أثرهما في:
● بطارية تشحن أسرع.
● وشبكة اتصالات تعمل بكفاءة أكبر.
● وكوب ماء أنقى في مدينة صحراوية.
هذه هي اللحظة التي تنتقل فيها المواد الثنائية الأبعاد من قصص الشريط اللاصق في المختبر إلى البنية التحتية غير المرئية التي تعيد تشكيل حياتنا اليومية.