عندما تفكر في مستقبل العمل، ما أول شيء يتبادر لذهنك؟ أهو استيلاء الروبوتات على وظائفنا؟ أم قيام أصحاب العمل بشطب الوظائف في عملية جنونية لتخفيض التكاليف؟ أم تحوّل مختصي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى أهم أفراد الشركة، ما يجعل الباقين عديمي الفائدة؟
من حسن حظنا أن هذه الأفكار الشائعة قد دُحضت إلى حد بعيد، غير أنه ما زال هناك الكثير من الغموض بشأن مستقبل مكان العمل وما يمكن أن نتوقعه. وفي هذه المقالة، سنشارك ثلاثة من أهم التغيرات التي سيجلبها مستقبل العمل إلى السوق، وما يمكن لأصحاب المهن فعله للاستعداد لهذه التغيرات.
ستؤدي الأتمتة وغيرها من أشكال الذكاء الاصطناعي إلى تغيير دور البشر في مكان العمل. ويمكننا أن نلاحظ خلو الصفحات المتخصصة بعالم الأعمال من العناوين التي تدعو إلى الخوف والتشاؤم (مثل ما ظهر في فورتشن). وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي على الأرجح إلى إلغاء عدد لا بأس به من الوظائف، فسوف يؤدي في نفس الوقت إلى ظهور مجموعة جديدة من الوظائف التي لم تكن موجودة من قبل. وبهذا المعنى، تبدو هذه التكنولوجيا أقرب إلى شريك أو عامل مسهل منها إلى تهديد حقيقي. لنأخذ المصانع كمثال؛ ففي مرحلة ما، ستهيمن الآلات على خط التصنيع بأكمله من دون شك، ولكن ستكون النتيجة ظهور المزيد من الوظائف بسبب الحاجة إلى إدارة وصيانة هذه الآلات.
من الأمثلة الأخرى قطاع الخدمات المالية؛ ففي عملية الإقراض بالرهن، توظف البنوك الكبيرة فرقاً مؤلفة من عشرات الموظفين الذين يخصصون كامل وقتهم لدراسة وتحليل معلومات العملاء من أجل الموافقة على القروض. ويمكن أن تمضي هذه الفرق ساعات طويلة للتأكد من صحة معلومات العميل وإدخالها يدوياً في نظام البنك، وفي أغلب الأحيان، تكون عمليات الإدخال مليئة بالأخطاء البشرية. وبالاعتماد على الأتمتة، يمكن للبنك أن يسرع سير عملية الموافقة، ويقلل من تكاليف العمل، ويمنح الموظفين المزيد من الوقت للتركيز على المهام التي تتطلب مهارات بشرية فريدة من نوعها، مثل العلاقات مع العملاء.
ونحن نرغب في النظر إلى الذكاء الاصطناعي بعيداً عن التجرد من خلال تطبيقات مثل المساعد الذكي، أو الخوارزميات الذكية، أو حتى الموظف الذكي. ويمكن لوجهة النظر هذه أن تزيل المسحة السلبية التي تم إلصاقها بالذكاء الاصطناعي دون أن يستحق ذلك، وتغير الانطباع السائد عنه من كونه التكنولوجيا التي ستدمر دور البشر في مكان العمل إلى التكنولوجيا التي ستسمح للبشر بأن يصبحوا أكثر ابتكاراً وفائدة.
صعود "اقتصاد العمل المؤقت" وتطور مكان العمل التقليدي
بسبب توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، سنشهد انتشار نموذج "اقتصاد العمل المؤقت"، حيث يزداد عدد الاختصاصيين وأصحاب المهن الذين يعملون بصفة حرة، وينفذون المشاريع لعدد من الشركات المختلفة. وعلى الرغم من أن هذا يمثل عبئاً عليهم حالياً (بسبب صعوبة الحصول على معاش تقاعدي أو قروض بالرهن)، إلا أنه يمكننا أن نتوقع ازدياد شعبية هذا التوجه، حيث يؤمن فوائد عديدة للشركات الكبيرة بتخفيض التكاليف عن طريق الاعتماد على المتعاقدين. ولكن من الناحية الإيجابية، فإن اقتصاد العمل المؤقت سيقدم بعداً إضافياً من المرونة لأصحاب المهن بشكل لم يكن موجوداً من قبل. فبدلاً من الالتزام الكامل بوظيفة واحدة محدودة المهام والمسؤوليات من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساء، سيكون بإمكان أصحاب المهن الاستفادة من عدد من الفرص المختلفة التي تناسب حاجاتهم وأساليب حياتهم.
أيضاً، سنشهد تطور ما كنا نشير إليه بمكان العمل التقليدي؛ فمع تزايد عدد العاملين الأحرار والمتعاقدين والعاملين عن بعد، ستصبح مساحة المكتب مخصصة بشكل رئيسي لتلعب دور نقطة اجتماع ومقر مركزي، بشكل يختلف عن استخدامها الحالي كمكان عمل يومي للكثير من الأشخاص. ومع تطور التكنولوجيا ووصول الإنترنت إلى الكثير من أنحاء العالم، سيصبح استخدام المحادثات المرئية للتواصل بين زملاء العمل أكثر سهولة وأقل تكلفة. ولن يكون من المستغرب أن نرى شركات كاملة تُدار من قِبل فرق موزعة في كامل أنحاء العالم.
كما أن التركيز على "المهارات اللينة" سيزداد، وعلى الرغم من أن الآلات حلت محل البشر في الكثير من المهام اليدوية التكرارية والبسيطة، فسوف تزداد الحاجة إلى المهارات البشرية التي لا تستطيع الروبوتات اكتسابها. ويمثل الفهم العاطفي والتعاون وحل المشاكل أمثلة على مهارات هامة للغاية لنجاح أية شركة، وهي مهارات لا يمكن الاعتماد فيها على التكنولوجيا.
وبالنسبة للكثيرين، فإن الابتكار والتواصل يمثلان أهم المهارات البشرية التي يجب تطويرها. ووفقاً لبحث من مركز سياسات وأدلة الصناعات الابتكارية PEC، فإن "الابتكار يُعتبر -وبشكل مستمر- العامل الأكثر أهمية في توقع نمو وظيفة ما بين الوقت الحالي والعام 2030". كما أن مهارات التواصل تحظى بأهمية كبيرة أيضاً، وعلى الرغم من أن هذا ليس بالأمر المفاجئ، نظراً للدور الهام الذي يلعبه التواصل الشفهي في مكان العمل العصري، فإن القدرة على التفاوض وحل النزاعات والتعبير الفعال عن النفس ستصبح أكثر أهمية في بيئات تتضمن أشخاصاً من عدة ثقافات في مواقع جغرافية مختلفة.
إذن، فكيف يمكن أن نستعد لمستقبل العمل؟
أول ما يمكن فعله هو استيعاب طبيعة مستقبل العمل، وما يعنيه بالنسبة للمجتمع، والأهم من ذلك، ما لا يعنيه. وبقراءة هذه المقالة، تكون قد بدأت الطريق. وكلما تمكنا من نشر الحقيقة حول التخاريف التي تحيط بمستقبل مكان العمل، كنا أكثر استعداداً للتكيف لهذا المستقبل.
ثانياً، يجب أن نكيف من فهمنا للمسار التقليدي للمهنة. ومع تناقص عدد المستويات الإدارية في الشركات، وبدئها بالبحث عن المهارات خارج مجموعة موظفيها، سيصبح النموذج التقليدي للحياة المهنية الطويلة بائداً في وقت قريب، مما يفتح أمامنا المزيد من الفرص للاستفادة من مواهبنا ومعارفنا في العديد من المجالات المختلفة.
وأخيراً، يجب أن نسعى جميعاً إلى اكتساب المعارف والمهارات بشكل متواصل. وسواء أكانت مهارات ملموسة مثل البرمجة أو التصميم الرسومي، أو غير ملموسة مثل المهارات الإدارية وإدارة النزاعات، فإن تحديث مجموعة المهارات بشكل مستمر سيكون أمراً أساسياً للحفاظ على أهميتك ومكانتك في سوق شديدة التنافسية.