تعد مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي الركيزة التقنية الأساسية في سباق التفوق العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، فيما بدأت منطقة الشرق الأوسط تفرض نفسها لاعباً محورياً بفضل سلسلة من المبادرات الجديدة التي وضعتها في موقع متقدم على المستوى الدولي.
لقد شهد الطلب على القدرة الحوسبية الخاصة بالذكاء الاصطناعي نمواً متسارعاً وغير مسبوق. وعلى الرغم من ظهور عوامل موازنة مثل تطور شركات ناشئة كشركة ديب سيك Deepseek وتحسن كفاءة الشرائح الإلكترونية، فإن الخبراء يتوقعون أن استمرار تعقيد نماذج الذكاء الاصطناعي وتوسع نطاق استخدامها سيستمر في دفع هذا النمو التصاعدي الحاد.
وفي منشورنا الأخير بعنوان "كسر الحواجز أمام نمو مراكز البيانات"، نتوقع أن يبلغ إجمالي الطلب العالمي على الطاقة في مراكز البيانات 127 غيغاواط بحلول عام 2028، مقارنة بـ 60 غيغاواط عام 2023.
ومن المتوقع أن يخصص ما يقارب 35% من هذا الطلب عام 2028 لدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)، على أن يستخدم أكثر من 90% من هذا الاستهلاك لأغراض الاستدلال (Inferencing)، وهو أمر منطقي بالنظر إلى أن الاستدلال يمثل الاستخدام اليومي والمتكرر لنموذج الذكاء الاصطناعي بعد تدريبه.
استثمارات جادة والرهان قد بدأ: الشرق الأوسط يدخل بقوة في سباق الذكاء الاصطناعي
يبرز الشرق الأوسط بسرعة كبيرة كحلقة وصل رئيسية للذكاء الاصطناعي، حيث تسعى الحكومات الكبرى في المنطقة إلى تنفيذ استراتيجيات واستثمارات وطنية واسعة النطاق في مجال الذكاء الاصطناعي. وتشمل مشاريع التطوير الجديدة ما يلي:
المملكة العربية السعودية:
- إطلاق مشروع هيوماين HUMAIN بدعم من صندوق الاستثمارات العامة الذي يعد الجهة الرائدة في الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية باستثمارات وعمليات تشغيلية تشمل سلسلة القيمة الكاملة للذكاء الاصطناعي.
- شراكة هيوماين مع شركة إنفيديا لبناء مركز بيانات للذكاء الاصطناعي بقدرة تصل إلى 500 ميغاواط خلال خمس سنوات.
- شراكة بقيمة 10 مليارات دولار بين شركة هيوماين وشركة أيه إم دي AMD لبناء مركز بيانات للذكاء الاصطناعي بقدرة 500 ميغاواط خلال السنوات الخمس القادمة.
- شراكة بقيمة 5 مليارات دولار بين شركة هيوماين وشركة خدمات أمازون السحابية لبناء منطقة ذكاء اصطناعي متقدمة.
- استثمار بقيمة 5 مليارات دولار من داتا فولت لإنشاء أول حرم ذكاء اصطناعي مستدام بالكامل وصافي انبعاثات صفرية في أوكساچون.
- شراكة بقيمة 1.5 مليار دولار بين شركتي أرامكو وشركة غروك لبناء أكبر مركز حوسبة للذكاء الاصطناعي في العالم.
الإمارات العربية المتحدة:
- حرم ذكاء اصطناعي بقدرة 5 غيغاواط في أبوظبي ضمن شراكة تسريع الذكاء الاصطناعي بين الولايات المتحدة والإمارات، تنفذه شركة جي 42 الإماراتية بالتعاون مع شركات أميركية، وسيُبنى مركز البيانات على مساحة 10 أميال مربعة وسيكون أكبر مدينة ذكاء اصطناعي خارج الولايات المتحدة.
- سيتم استيراد 500,000 وحدة لمعالجة الرسومات، منها 20% لشركة جي 42 والباقي للشركات الأميركية التي ستبني مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.
- مراكز بيانات بقدرة 160 ميغاوات في عجمان وأبوظبي من قبل مراكز بيانات شركة خزنة.
يشهد الشرق الأوسط تحولاً متسارعاً ليصبح مركزاً محورياً للاستثمار والابتكار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، مدعوماً بعدد من المزايا الاستراتيجية اللافتة.
فموقعه الجغرافي الفريد يتيح له خدمة ما يقارب 3 مليارات نسمة (نحو 40% من سكان العالم) ضمن دائرة قطرها 2000 ميل، تشمل أوروبا وآسيا وإفريقيا. وتعد هذه الميزة الجغرافية مثالية لاستضافة خدمات الاستدلال غير الحساسة للزمن على نطاق واسع، ما يرسخ مكانة الشرق الأوسط مزوداً رئيسياً لخدمات الحوسبة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في دول الجنوب العالمي، كما تمثل الكفاءة الاقتصادية في التكاليف ميزة تنافسية إضافية، حيث تقل تكلفة الإيجارات بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالمعدلات العالمية، إلى جانب واحدة من أدنى تعريفة كهرباء في العالم.
تبرز مراكز البيانات الناشئة في المنطقة مستويات متقدمة من الابتكار، حيث تعتمد تقنيات تبريد حديثة تهدف إلى الريادة في مؤشرات كفاءة استخدام الطاقة (PUE)، مع تقليل كبير في إجمالي تكلفة التملك، كما توفر المنطقة مزايا واضحة في سرعة الوصول إلى السوق، بفضل دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التي خصصت فرقاً استثمارية متخصصة، وأنشأت آليات تنظيمية مرنة، ومسارات ترخيص سريعة، إلى جانب مناطق اقتصادية خاصة تبسط الإجراءات وتقلص أزمنة تنفيذ مشاريع مراكز البيانات.
وعلى مستوى البنية التحتية، تتمتع دول الخليج بمساحات أرضية شاسعة، وإمدادات طاقة قابلة للتوسعة، وتوسعات مخطط لها في الربط الدولي من خلال مشروع الكابل البحري "Fibre in Gulf (FIG)" الذي يُتوقع أن تصل سرعته إلى نحو 720 تيرابت في الثانية.
النجاح يتطلب أكثر من القوة الحاسوبية
تتسابق دول العالم لاقتناص فرص البنية التحتية للذكاء الاصطناعي المتنامية، مدركة ما تحمله من فوائد اقتصادية واستراتيجية.
ولكي يرسخ الشرق الأوسط مكانته كأحد رواد هذا السباق، ينبغي للحكومات والشركات التركيز على أربعة مجالات حاسمة.
أولاً، خفض إجمالي تكلفة التملك (TCO) باعتبارها المؤشر الأهم في نظر المستثمرين الدوليين، حيث تشكل القدرة على تقليل التكاليف وتعزيز التنافسية محور القيمة الوطنية.
ثانياً، جذب مزيج متنوع من المستأجرين، بمن فيهم مزودو خدمات وحدات معالجة الرسومات كخدمة، وشركات الحوسبة الفائقة (Hyperscalers)، ومقدمو الاستضافة التشاركية (Colocation)، لضمان بناء منظومة مستدامة تخفف من مخاطر اختلال العرض والطلب وتحقق أعلى درجات الاستفادة.
ثالثاً، بناء شراكات قوية داخل المنظومة البيئية، من خلال التعاون مع شركات الشرائح والمكونات التقنية والمؤسسات البحثية، بهدف تعزيز القيمة المحلية وربط سلسلة القيمة الخاصة بمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. وأخيراً، تطوير الكفاءات الوطنية والاحتفاظ بها، لأن وجود رأس مال بشري مؤهل هو عنصر أساسي لدفع الابتكار في نماذج الذكاء الاصطناعي ومنصاته وتطبيقاته، وضمان ريادة طويلة المدى تتجاوز مجرد البنية التحتية.
الخلاصة
في الوقت الذي يعيد فيه الذكاء الاصطناعي تشكيل الاقتصاد العالمي والمشهد الجيوسياسي، تصبح البنية التحتية خط الدفاع الأول.
ويتمتع الشرق الأوسط بموقع فريد يؤهله ليكون قوة عالمية في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، من خلال موقعه الجغرافي الاستراتيجي، وانخفاض التكاليف، والزخم السياسي، والانسجام الجيوسياسي.
ولكن اغتنام هذه الفرصة يتطلب أكثر من مجرد إنتاج ميغاواط إضافية، بل يحتاج إلى شراكات استراتيجية، وعمق في المنظومة البيئية، وخط مستدام من الكفاءات البشرية المؤهلة على المدى الطويل.