كان اكتشاف دلائل الحياة الفضائية على الزهرة من بين أهم الأخبار الفلكية لذلك العام، ولكن، وخلال أيام، تلاشى الخبر من العناوين الرئيسية. ولم يكن هذا حدثاً فريداً في التاريخ: فبالعودة بالزمن إلى العام 1996، نتذكر الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عندما وقف في الحديقة الجنوبية من البيت الأبيض ليعلن الاكتشاف المفترض لمتعضيات ميكروية فضائية متحجرة ضمن نيزك مريخي. وحتى عندما يتم الإعلان عن هذه الاكتشافات المحتملة وغيرها، فإنها تأتي مصحوبة بموجة من الجدل، وينتهي بها المطاف إلى الإخفاق، لأننا لا نستطيع تأكيد اكتشاف الحياة الفضائية فعلياً.
اكتشافات عابرة في جهود البحث عن الحياة الفضائية
ولم تكن الضجة الإعلامية المرافقة للاكتشاف في 2020 مختلفة عن سابقاتها. فقد أعلن الباحثون عن اكتشاف الفوسفين على الزهرة كدليل محتمل على وجود الحياة الفضائية، مع الأخذ بعين الاعتبار احتمال تشكل الفوسفين في بيئة الزهرة بغياب الحياة، على الرغم من محاولة الباحثين لاستبعاد هذا الاحتمال. ولكن المنتقدين أشاروا بسرعة إلى أن الدليل على وجود الفوسفين كان ضعيفاً بحد ذاته، وانتهى الإجماع إلى أن هذا الاكتشاف كان على الأرجح غير صحيح. ولكن، وحتى لو تأكد اكتشاف الفوسفين، فإن النقاش الأكثر عمقاً حول ما إذا كان ناتجاً عن وجود الحياة أم لا كان سيبدأ على الفور. وهذا النقاش –أو ما يقابله في الضجة الإعلامية المقبلة- لن يُحسم على الأرجح في وقت قريب، لأن طريقتنا الحالية في البحث عن الحياة غير كافية.
يعمل أخصائيو البيولوجيا الفلكية، بشكل أساسي، على البحث عن دلالات الحياة أو الآثار الحيوية بناء على ما نعرفه عن الحياة على الأرض. ومن الأمثلة المألوفة على هذا البحث عن الأوكسجين في الغلاف الجوي للكواكب الخارجية، فالأوكسجين الأرضي ناتج عن عملية التمثيل الضوئي، وبغياب الحياة، لن يكون الأوكسجين متوافراً بكثرة في غلافنا الجوي. كما أن الأوكسجين قابل للرصد عن مسافات بعيدة من رتبة المسافات الفاصلة بين الكواكب، وهو أمر هام لاكتشافه عن بعد.
ولهذه الأسباب، اعتقد أخصائيو البيولوجيا الفلكية أن اكتشاف الأوكسجين في كوكب خارجي شبيه بالأرض سيكون دلالة دامغة على وجود الحياة. ولكن نماذج المحاكاة للكواكب الخارجية في ظروف متنوعة بينت، وبشكل متكرر، كيف يمكن إنتاج الأوكسجين في هذه الكواكب دون وجود الحياة. وبنفس الطريقة، فإن إنتاج الفوسفين في الغلاف الجوي للمشتري وزحل دون وجود الحياة أمر معروف، فإذا تأكد وجوده في الغلاف الجوي للزهرة، فهذا ليس دليلاً قاطعاً على أنه لا يُنتج بآلية ما غير معروفة ولا تتعلق بالحياة.
اقرأ أيضاً: هل تبخرت آمالنا في وجود الحياة على كوكب الزهرة؟
بحث عن الحياة يتجاهل السؤال الجوهري: ما هي الحياة؟
إن التحدي الذي يمثله وجود الفوسفين على الزهرة يمثل نموذجاً مصغراً عن الأزمة التي سيواجهها البيولوجيون الفلكيون في العقود المقبلة، وهي أزمة الإعلانات المتكررة والخلافات المتواصلة. يجب أن يكون اكتشاف الحياة على كوكب آخر حدثاً مفصلياً في تاريخ البشرية، ولكن أي إعلان عن اكتشاف دلالة حيوية ما في الوقت الحالي لن يكون مرحلة مهمة، بل مصدراً إضافياً للفوضى، لأن العلماء لن يجمعوا حتى على ما إذا كان هذا الأمر يُعتبر اكتشافاً. فهنا على الأرض، لا نتعرف على الحياة من خلال نواتجها في الغلاف الجوي. وفق الواقع، فإن جميع الدلالات الحيوية الحالية لا تجيب عن سؤال مهم: ما هي الميزة الموجودة لدينا والتي تجعلنا أحياء؟ فدلائلنا الحيوية ليست دلالات قاطعة على وجود الحياة، لأنه ليس لدينا نظرية متماسكة حول ماهية الحياة نفسها.
ولتفادي هذه الأزمة، يجب على البيولوجيين الفلكيين أن يواجهوا، وبشكل مباشر، السؤال الذي لطالما حاولنا خلسة تجنب الإجابة عنه حتى الآن: ما هي الحياة؟ لن نستطيع الإجابة عن هذا باكتشاف الحياة الفضائية، لأننا لا نستطيع اكتشاف الحياة الفضائية دون محاولة الإجابة عن هذا السؤال أولاً. يجب أن نجيب عن هذا السؤال بفهم المبادئ المجردة التي تحكم الحياة هنا على الأرض. وبعد ذلك، يمكننا استخدام بحثنا عن الحياة الفضائية لاختبار الإجابة.
حتى الآن، يبدو أننا نحاول تحقيق التقدم بتجاهل هذا السؤال بالكامل، والاستعاضة عن الإجابة عنه بمحاولة إرضاء أنفسنا بتعاريف رمزية. قد يبدو للوهلة الأولى أن تعريف الحياة أمر سهل، ولكن، وبالنسبة لأي تعريف مُقترح، فإن معايير هذا التعريف ستؤدي من جهة إلى استبعاد بعض الأشكال الحياتية، وستكون من جهة أخرى متوافقة مع بعض الأجسام الجامدة. وفي إحدى أفكاره الشهيرة، بيّن البيولوجي الفلكي الأميركي كارل ساغان أن اعتماد تعريف يتضمن القدرة على تناول الطعام والاستقلاب وطرح المخلفات والتنفس والحركة والاستجابة للمحفزات الخارجية –وكلها تبدو معايير مباشرة وبديهية- قد يدفع بأي كائنات فضائية تكتشف الأرض إلى افتراض أن السيارات هي نمط الحياة المهيمن عليها.
أما التعريف الشائع والذي يقول إن "الحياة نظام كيميائي ذاتي الاكتفاء وقادر على التطور الدارويني" يستبعد أي متعضيات لا تستطيع التكاثر، لأنها غير قادرة على التطور، ولهذا فإن البغال والكثير من البشر كبار السن مستبعدون من تعريف الحياة وفق هذا التعريف، إذا التزمنا به بصرامة. لقد واجه تعريف الحياة العديد من التحديات والصعوبات، إلى درجة دفعت بالبعض حتى إلى الإعلان عن أن الحياة غير موجودة، أو على الأقل إلى الإقرار بعبثية محاولة تعريفها علمياً. ولكن، وعلى الرغم من صعوبة تعريف الحياة، فإن وضع حدود قاطعة ومثيرة للجدل بين ما هو حي وما هو غير حي، واشتقاق نظرية تشرح الحياة، يجب ألا يعتمد فقط على توقعاتنا الساذجة، ويمكن بدلاً من هذا أن يزيد من فهمنا واستيعابنا.
اقرأ أيضاً: كيف تُستخدم الميكروبات لاستخلاص المعادن من الصخور الفضائية؟
غياب الأساس النظري للبيولوجيا الفلكية
وتعتمد العديد من الاختصاصات العلمية الأخرى على هذا النوع من الأساس النظري، وبصورة راسخة. ففي الفيزياء الفلكية، لعبت التوقعات المبنية على قوانين رياضية تفسيرية وأنماط مرصودة دوراً مهماً في توجيه بحثنا عن الظواهر الموجودة نظرياً ولكن دون أدلة تجريبية راسخة. وعلى سبيل المثال، نشر ألبرت أينشتاين نظريته حول النسبية العامة في 1915، محدداً قواعد نظرية جديدة لتفسير الفيزياء الثقالية. وقد فعل هذا بالتوصل إلى صلة معاكسة للحدس ونافذة التبصر بين خصائص الضوء والجاذبية، في عملية أعادت صياغة تصورنا حول المكان والزمن.
ومن بين العديد من التنبؤات الكثيرة التي توصل إليها بفضل نظريته وجود الأمواج الثقالية، والتي اكتُشفت بعد قرن كامل في 2015. لقد كان هذا الاكتشاف فائق الأهمية، ولكنه لم يكن ليتحقق لولا الأساس النظري الذي وضعه آينشتاين منذ قرن. كما احتاج إلى عملية دامت عدة عقود من الزمن لتطوير التجهيزات فائقة الحساسية وأساليب التحليل الإحصائي المعقدة، ومن المرجح أن يحتاج النجاح في اكتشاف الحياة الفضائية إلى متطلبات مماثلة. ومن المحتمل أن أي نظرية نضعها لتفسير الحياة قد تتضمن أساساً معاكساً للحدس وتؤدي حتى إلى أفكار أكثر ثورية حول بنية الكون، فالحياة بطبيعة الحال أكثر تعقيداً من الجاذبية. ولكننا الآن نبحث دون نظرية ترشدنا. ودون نظرية كهذه، فقد تبدو فترة المئة سنة التي احتاجها اكتشاف الأمواج الثقالية قليلة للغاية مقارنة مع الفترة التي تفصلنا عن اكتشاف الحياة الفضائية، إن كانت موجودة هناك بالفعل.
اقرأ أيضاً: عربة بيرسيفيرانس الجوالة التابعة لناسا توشك على بدء البحث عن الحياة على المريخ
الحاجة إلى نظرية شاملة حول الحياة
ما الشكل الذي يجب أن تأخذه نظرية شاملة حول الحياة؟ يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مميزات الأنظمة الحية التي لا يمكن لقوانين الفيزياء والكيمياء الحالية تفسيرها. ما يعني أنها يجب أن تشير إلى عمليات تحدث في الكون فقط بسبب وجود الحياة. ومن المحتمل أن يؤدي هذا التوجه إلى مزيد من التعقيد. وعلى سبيل المثال، لا تستطيع الفيزياء وحدها تفسير قدرة الحياة على بناء أجسام معقدة عبر معالجة المعلومات، أي الأجسام التي يستحيل وجودها إحصائياً دون وجود المعلومات أو الإرشادات اللازمة لبنائها. فإذا عثرنا على مفك براغٍ أو غيره من الأجسام المعقدة –وليكن بروتيناً على سبيل المثال- على المريخ، فقد يكون مؤشراً على وجود الحياة، لأننا لا نتوقع وجود هذه الأجسام بسبب قوانين الفيزياء لوحدها.
هذه الأفكار تخضع حالياً لعملية تنظيم وصياغة ضمن مقاربات جديدة عديمة الارتباط، أي لا تأخذ بعين الاعتبار تصوراتنا الحالية للحياة على الأرض، ولا تتطلب وجود نفس البنية الكيميائية المتعلقة بها، ولكنها تركز بدلاً من ذلك على تكميم خصائص الجزيئات التي تحمل دلالات التاريخ التطوري المعروفة.
إن مجموعات الجزيئات فائقة التعقيد، والتي لا يمكن أن تتشكل بالصدفة وحدها، تتطلب نظاماً فيزيائياً مع معلومات حول كيفية تجميعها، أي أن الجزيئات المعقدة تمثل مؤشرات إحصائية على وجود الأنظمة الحية. وسيكون هذا التعريف أكثر رسوخاً من الدلائل الحيوية الحالية، وعلى الرغم من أن أفضل نتيجة يمكن أن نتوصل إليها حول الأوكسجين في الغلاف الجوي لكوكب خارجي تتلخص بعبارة "نحن لا ندري كيف يمكن أن يوجد هذا الأوكسجين دون الحياة كما نعرفها"، فإن الدلالات الحيوية عديمة الارتباط تسمح لنا بتقييم الاحتمال الرياضي لكون ما عثرنا عليه ناتجاً عن نظام حي لمعالجة المعلومات وناشئ عن عملية تطورية، ما يؤدي إلى فرضيات أكثر وضوحاً حول المبادئ الكونية للحياة.