إذا كان البشر ينوون استعمار المجرّة، فلا بدّ من القيام برحلة إلى أحد النجوم القريبة والذي يضم كوكباً صالحاً للحياة. في العام الماضي، أثار علماء الفلك إمكانية أن يحتوي أقرب النجوم إلينا - قنطور الأقرب (بروكسيما سنتوري) - على العديد من الكواكب الخارجية القابلة للحياة والتي يمكن أن تكون ملائمة.
يقع نجم قنطور الأقرب على بعد 4.2 سنة ضوئية من الأرض، وهي مسافة تستغرق حوالي 6300 سنة للوصول إليها باستخدام التقنيات الحالية. وتتطلب مثل هذه الرحلة العديد من الأجيال. وفي الواقع، فإن معظم البشر المشاركين بالرحلة لن يتمكنوا من العودة إلى الأرض أو الوصول إلى الكواكب خارج المجموعة الشمسية. إذ لا بدّ لهؤلاء البشر من التكاثر مع بعضهم البعض خلال الرحلة بطريقة تضمن وصول أشخاص سليمين إلى النجم.
يطرح هذا الأمر سؤالاً مثيراً للاهتمام. فما هو أصغر عدد لطاقم الرحلة والذي يمكن أن يضمن إنتاج أشخاص سليمين وراثياً خلال هذه الفترة الزمنية؟
سنتمكّن اليوم من أن نحصل على إجابة بفضل أعمال الباحث فريدريك مارين في جامعة ستراسبورغ والباحثة كاميل بيلوفي في شركة Casc4de المتخصصة بالأبحاث، وكلاهما في فرنسا. حيث قاما بحساب احتمالية البقاء على قيد الحياة لبعثات مختلفة العدد بالإضافة إلى قواعد التكاثر المطلوبة لتحقيق النجاح.
لنتحدث أولاً عن بعض المعلومات المرتبطة بهذا المجال. لقد درس علماء ومهندسو الفضاء طرقاً مختلفة للوصول إلى النجوم القريبة. ولكن المشكلة بالطبع هي المسافات الشاسعة التي ينطوي عليها ذلك، والسرعات البطيئة نسبياً التي يمكن أن تسير بها المركبات الفضائية البشرية.
من الجدير بالذكر أن سرعة بعثة أبولو 11 الفضائية بلغت حوالي 40 ألف كيلومتراً في الساعة، ويتطلب الوصول إلى نجم قنطور الأقرب بهذه السرعة أكثر من 100 ألف سنة. ولكن المركبات الفضائية أصبحت أسرع من ذلك الآن. فمن المقرر إطلاق مركبة باركر سولار بروب الفضائية هذا العام، والتي ستصل سرعتها إلى أكثر من 700 ألف كيلومتر في الساعة، أي ما يعادل 0.067 بالمئة من سرعة الضوء.
لذلك اعتمد كل من مارين وبيلوفي على هذه السرعة على أنه يمكن تحقيقها من خلال تقنيات الفضاء الحديثة. حيث قالا: "بهذه السرعة، ستستغرق هذه الرحلة النجمية حوالي 6300 سنة للوصول إلى نجم قنطور الأقرب".
ولن يكون من السهل اختيار طاقم لهذه الرحلة الفضائية متعدّدة الأجيال. وتتضمن المعايير المهمة العدد الأولي للرجال والنساء ضمن الطاقم وعمرهم ومتوسط الحياة المتوقع ومعدلات العقم والسعة القصوى للمركبة الفضائية، وما إلى ذلك. كما يتطلب الأمر وضع قواعد حول العمر الذي يُسمح فيه بالإنجاب ومدى صلة القرابة بين الوالدين وعدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول عليهم وغير ذلك.
وبمجرد تحديد هذه المعايير، فيمكن وضعها ضمن خوارزمية تدعى هيريتيج (Heritage)، والتي تحاكي بعثة فضائية متعدّدة الأجيال. تقوم الخوارزمية أولاً بإعداد طاقم مع صفات محددة. ثم تقوم بمعالجة البعثة الفضائية، بحيث تأخذ بالاعتبار الوفيات الطبيعية والعرَضية كل عام وتتحقق من أعضاء الطاقم الذين يقعون ضمن حدود الإنجاب المسموح بها.
بعد ذلك، تقوم الخوارزمية بشكل عشوائي بعملية تزاوج بين اثنين من أفراد الطاقم من جنسين مختلفين وتقيّم فيما إذا كان بإمكانهم الإنجاب اعتماداً على معدلات العقم وفرص الحمل ومحدّدات زواج الأقارب. إذا كان الحمل يعتبر ناجحاً، فإن الخوارزمية تقوم بإنشاء عضو جديد ضمن الطاقم ثم تكرّر هذه الحلقة لحين وفاة الطاقم أو وصوله إلى نجم قنطور الأقرب بعد 6300 عام.
كما تتضمن كل بعثة فضائية كارثةً من نوع ما - كالوباء أو الاصطدام أو الحوادث الأخرى - والتي تقلّل عدد أفراد الطاقم بمقدار الثلث.
ثم تقوم الخوارزمية بتكرار كل بعثة فضائية 100 مرة لتحديد مدى احتمالية وصول هذا العدد من الطاقم إلى وجهته.
أحد الأسئلة الرئيسية هو حول درجة القرابة المسموح بالزواج فيها. يقوم مارين وبيلوفي بقياس ذلك باستخدام أحد المقاييس الذي يتمّ فيه تسجيل التزاوج بين التوائم المتطابقة على أنه 100 بالمئة، وبين الأخ وأخته أو الأب وابنته أو الأم وابنها على أنه 25 بالمئة، وبين العمّ وابنة أخيه أو الخال وابنة أخته أو العمّة وابن أخيها أو الخالة وابن أختها على أنه 12.5 بالمئة، وبين أبناء العمّ أو الخال على أنه 6.25 بالمئة.
أحد الخيارات هو الحدّ من زواج الأقارب إلى أقل من 5 بالمئة، لذلك يتعيّن على الأزواج أن يكونوا أبعد قرابة من أبناء العمّ أو الخال. بينما يشترط خيار آخر ألا يكون الأزواج من ذوي القرابة على الإطلاق، بحيث يكون زواج الأقارب هو 0. ويستخدم مارين وبيلوفي السيناريو الثاني في محاكاتهما.
بعد ذلك تقوم الخوارزمية بتحديد احتمالية نجاح أكثر من 100 بعثة فضائية بأعداد أولية مختلفة لأفراد الطاقم.
وتعدّ النتائج مثيرة للاهتمام. إذ تتنبأ خوارزمية هيريتيج بأن الطاقم الأولي المكون من 14 زوجاً ليس لديه أي فرصة للوصول إلى نجم قنطور الأقرب. حيث لا تملك مثل هذه المجموعة الصغيرة ما يكفي من التنوع الجيني للبقاء على قيد الحياة.
وقد لاحظ الباحثون عند الحيوانات بأن التنوع الجيني لعدد أولي مؤلف من 25 زوجاً يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية عند إجراء التزاوج بشكل دقيق. ولكن عندما قامت خوارزمية هيريتيج باعتماد هذا العدد كطاقم أولي - 25 رجلاً و25 امرأة – فقد تنبّأت بالموت باحتمال 50 بالمئة قبل وصولهم إلى وجهتهم. ويرجع ذلك إلى الأحداث العشوائية التي يمكن أن تؤثر على هذه البعثة الفضائية.
ووفقاً لخوارزمية هيريتيج، لا تصل فرص النجاح إلى 100 بالمئة إلا عندما يبلغ عدد الطاقم الأولي 98 شخصاً، أو 49 زوجاً. يقول مارين وبيلوفي: "وبالتالي يمكننا أن نستنتج أنه بموجب المعايير المستخدمة في هذه المحاكاة، فلا بدّ بالحدّ الأدنى من وجود طاقم مكوّن من 98 شخصاً في رحلة فضائية متعددة الأجيال ولمدة 6300 سنة باتجاه نجم قنطور الأقرب".
ويعدّ هذا العمل مثيراً للاهتمام ويمهّد الطريق لإجراء المزيد من عمليات المحاكاة الأكثر تفصيلاً. فعلى سبيل المثال، قد تكون معدلات الخصوبة في الفضاء السحيق مختلفة تماماً عن تلك الموجودة على الأرض. وقد تكون احتمالات ولادة طفل سليم من حمل ناجح أقل بكثير بسبب ارتفاع معدلات الطفرات الناجمة عن الإشعاعات.
وقد تكون فرص وقوع الكوارث الناجمة عن الحوادث أو الأوبئة أقل بكثير من فرص حدوث الكوارث الناجمة عن العوامل الاجتماعية مثل الصراع. ويمكن برمجة كل ذلك في النسخة الأحدث من الخوارزمية.
وفي الواقع، لقد تم بالفعل استكشاف هذه القضايا من قبل كتّاب الخيال العلمي. فعلى سبيل المثال، في كتاب Seveneves، يتخيل المؤلف نيل ستيفنسون مستقبلًا تعاني فيه البشرية من أزمة سكانية، وينحدر جميع الأفراد من سبع نساء.
وبالنظر إلى بحث مارين وبيلوفي، فإن المستقبل الذي تخيّله ستيفنسون يبدو مستبعداً إلى حدّ كبير. ولكن من المهم بالتأكيد أخذ هذا السيناريو في الاعتبار في ضوء التهديدات المتعددة التي تواجهها حضارتنا.
المرجع: arxiv.org/abs/1806.03856 : Computing the Minimal Crew For A Multi-Generational Space Journey Towards Proxima Centauri b