كيف سيغيّر أسرع الحواسيب الفائقة في العالم مستقبل الحوسبة؟

6 دقائق
كيف سيغيّر أسرع الحواسيب الفائقة في العالم مستقبل الحوسبة؟
صورة لفرونتيير، وهو حاسوب من فئة إكساسكيل في مختبر أوك ريدج الوطني.

تلقي سلسلة "ماذا بعد" من إم آي تي تكنولوجي ريفيو نظرة شاملة على الصناعات والتوجهات والتكنولوجيات كي تقدّم لك لمحة مبكرة عن المستقبل. ويمكنك قراءة الأجزاء الأخرى من السلسلة هنا.

قد يكون من الصعب عليك أن تستوعب مستوى القدرات الحسابية لأسرع الحواسيب الفائقة في العالم. لكن عالِم الحاسوب جاك دونغارا، من جامعة تينيسي، يعبّر عنها بالطريقة التالية: "إذا أجرى كل شخص على وجه الأرض عملية حسابية واحدة في الثانية، فسوف نحتاج إلى أربع سنوات لإنجاز ما يستطيع هذا الحاسوب تنفيذه في ثانية واحدة".

يحمل هذا الحاسوب الفائق اسم فرونتيير. ويشغل مساحة تعادل ضعف مساحة ملعب التنس في مختبر أوك ريدج الوطني في منطقة تلال تينيسي الشرقية، حيث كُشف الستار عنه في مايو/ أيار عام 2022.

ونقدّم فيما يلي بعضاً من المواصفات الفنية لهذا الحاسوب: يعتمد فرونتيير على 50,000 معالج تقريباً، على حين يستخدم أقوى الحواسيب المحمولة 16 أو 24 معالجاً. ويستهلك من الطاقة 20 مليون واط، على حين يستهلك الحاسوب المحمول 65 واط تقريباً. وقد كلف بناؤه 600 مليون دولار.

فرونتيير: أقوى الحواسيب في العالم

عندما بدأ فرونتيير بالعمل، أطلق حقبة جديدة تحمل اسم حوسبة الإكساسكيل (exascale)، حيث تستطيع الآلات تنفيذ إكسا فلوب، أي كوينتيليون (1018) عملية فاصلة عائمة في الثانية. منذ ذلك الحين، ركّز العلماء جهودهم على بناء المزيد من هذه الحواسيب الفائقة السرعة، ومن المقرر أن تبدأ عدة آلات إكساسكيل بالعمل في الولايات المتحدة وأوروبا في 2024.

لكن السرعة ليست الهدف بحد ذاتها. فالباحثون يبنون حواسيب إكساسكيل لدراسة أسئلة علمية وهندسية كانت مستحيلة من قبل في علم الأحياء والمناخ والفلك، وغيرها من المجالات. في السنوات القليلة المقبلة، سيستخدم العلماء فرونتيير لتنفيذ أعقد عمليات المحاكاة التي أجراها البشر على الإطلاق. ويأملون في الإجابة عن أسئلة حيّرت الجميع حتى الآن حول الطبيعة، وتصميم تكنولوجيات جديدة في عدة مجالات، بدءاً من النقل وصولاً إلى الطب.

اقرأ أيضاً: ما المتوقع في مجال الحوسبة إن نجحت آي بي إم ببناء حاسوب كمومي بسعة 100 ألف كيوبت؟

عمليات حسابية فائقة لحواسيب إكساسكيل 

على سبيل المثال، تستخدم إيفان شنايدر من جامعة بيتسبرغ الحاسوب فرونتيير لإجراء عمليات محاكاة لتطور مجرتنا مع مرور الوقت. وتهتم شنايدر على وجه الخصوص بتدفق الغاز من مجرة درب التبانة وإليها. ووفقاً لنظرة معينة، فالمجرة تتنفس، حيث تتدفق الغازات داخلة إليها، وتتكتل بفعل الجاذبية متحولة إلى نجوم، غير أن الغازات تتدفق أيضاً خارجة منها، عندما تنفجر النجوم وتطلق موادها، على سبيل المثال. وتدرس شنايدر آليات زفير المجرات. تقول شنادير: "يمكننا مقارنة عمليات المحاكاة مع نتائج الرصد الحقيقي للكون، وهو ما يُتيح لنا تحديد مستوى دقة نمذجتنا الفيزيائية".

تستخدم شنايدر فرونتيير لبناء نموذج حاسوبي لدرب التبانة بدقة عالية إلى درجة كافية للتركيز على نجوم منفجرة بعينها. وهو ما يعني أن النموذج يجب أن يشمل الخصائص الواسعة النطاق لمجرتنا على امتداد 100,000 سنة ضوئية، إضافة إلى خصائص المستعرات العظمى على امتداد 10 سنوات ضوئية تقريباً.

تُضيف شنايدر قائلة: "هذا عمل غير مسبوق". لتوضيح معنى هذه الدقة، يمكن أن نشبهها ببناء نموذج صحيح فيزيائياً لعلبة من اللبن الرائب مع خلايا الخميرة الإفرادية كلها داخلها، والتفاعلات كلها على كل مستوى بين هذين المستويين.

أمّا ستيفان برايب، وهو أحد كبار المهندسين في شركة جنرال إلكتريك (GE)، فهو يستخدم فرونتيير لمحاكاة خصائص ديناميكا الهواء للجيل المقبل من تصاميم الطائرات. وتعمل جنرال إلكتريك على دراسة تصميم جديد للمحرك باسم "بنية المروحة المفتوحة" لزيادة كفاءة استهلاك الوقود. تعتمد المحركات النفاثة على المراوح لتوليد الدفع، وتؤدي زيادة حجم المراوح إلى زيادة الكفاءة. ولجعل المراوح أكبر حتى، اقترح المهندسون إزالة الهيكل الخارجي، المعروف باسم الباسنة (Nacelle)، بحيث تصبح شفرات المراوح مكشوفة، كما في دولاب الهواء (المصنوع من الورق).

اقرأ أيضاً: تعرف إلى العظماء الذين وقفوا وراء صناعة الرقاقات الإلكترونية

يقول برايب: "تُتيح لنا عمليات المحاكاة بناء تصور دقيق حول الأداء من حيث الديناميكا الهوائية في بدايات مرحلة التصميم". ويعتمد المهندسون على عمليات المحاكاة لتحديد الشكل الأفضل لشفرات المراوح لتحسين خصائص الديناميكا الهوائية، أو جعلها أكثر هدوءاً، على سبيل المثال.

وسيكون فرونتيير مفيداً على وجه الخصوص في الدراسات التي يجريها برايب حول اضطرابات الجريان، وهي الحركة العشوائية للمائع –وهو الهواء في هذه الحالة- المضطربة حول المروحة. يُعد اضطراب الجريان ظاهرة شائعة. فنحن نراها في تصادم أمواج المحيطات، والتفاف الدخان الصاعد من شمعة انطفأت للتو. لكن العلماء ما زالوا يجدون صعوبة في تحديد المسار الدقيق لتدفق مائع مضطرب الجريان.

ويُعزى هذا إلى أن حركته تتأثر بعوامل شاملة، مثل تغيرات الضغط والحرارة، وعوامل دقيقة، مثل احتكاك الجزيئات الإفرادية للنيتروجين في الهواء ببعضها بعضاً. يؤدي التفاعل المتبادل بين القوى على عدة مستويات مختلفة إلى تعقيد الحركة.

يقول الفيزيائي الفلكي برونسون ميسر، وهو المدير العلمي في منشأة الحوسبة الرائدة في أوك ريدج، حيث يوجد فرونتيير: "في مدرسة الدراسات العليا، قال لي أحد الأساتذة: اسمع يا برونسون، إذا أخبرك أحد بأنه يفهم اضطراب الجريان، يجب أن تمسك محفظتك بيدك وتسير إلى الخلف خارجاً من الغرفة، لأنه يحاول استدراجك بالكذب إلى شراء شيء ما. لا أحد يفهم اضطراب الجريان، وهو في الواقع آخر المعضلات الكبرى في الفيزياء الكلاسيكية".

اقرأ أيضاً: هل حصل اختراق علمي حقاً في مجال التوصيل الفائق وماذا يعني ذلك للبشرية؟

الحواسيب الفائقة لحل المعضلات العلمية

تبرز هذه الدراسات العلمية الميزة الأساسية للحواسيب الفائقة، وهي محاكاة الأجسام الفيزيائية على عدة مستويات في الوقت نفسه. وتعبّر تطبيقات أخرى عن هذه الميزة أيضاً. ففرونتيير يُتيح زيادة دقة النماذج المناخية، التي يجب أن تحاكي الطقس على عدة مستويات مكانية على امتداد الكوكب بأسره، وأيضاً على المدى الزمني القصير والطويل. ويستطيع الفيزيائيون أيضاً محاكاة الاندماج النووي، وهو العملية المضطربة التي تُتيح للشمس توليد الطاقة بدمج الذرات معاً لتوليد عناصر مختلفة. ويسعى العلماء إلى بناء تصور أفضل حول هذه العملية لتطوير تكنولوجيا الاندماج والحصول على طاقة نظيفة. وعلى حين كانت عمليات المحاكاة المتعددة المستويات من أبرز نواحي الحوسبة الفائقة على مدى سنوات عديدة، فإن فرونتيير قادر على استيعاب نطاق أوسع من المستويات المختلفة على نحو غير مسبوق.

لاستخدام فرونتيير، يسجّل العلماء الحاصلون على الموافقات دخولهم إلى الحاسوب الفائق عن بُعد، ويسلمون عملهم عبر الإنترنت. وللاستفادة إلى أقصى حد من هذا الحاسوب الفائق، يهدف مختبر أوك ريدج إلى تشغيل 90% من معالجاته لإجراء الحسابات على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع. يقول ميسر: "لقد دخلنا حالة شبه مستقرة تدوم عدة سنوات من إجراء عمليات المحاكاة العلمية على نحو متواصل". يخزن المستخدمون بياناتهم في أوك ريدج ضمن منشأة لتخزين البيانات بسعة تصل إلى 700 بيتابايت، أي ما يكافئ 700,000 قرص صلب محمول تقريباً.

اقرأ أيضاً: حاسوب عملاق جديد يعيد الصدارة للولايات المتحدة في مجال الحوسبة الفائقة

المزيد من الحواسيب الفائقة في طريقها إلى العمل

وعلى الرغم من أن فرونتيير هو أول حاسوب فائق من فئة إكساسكيل، فإن المزيد من الحواسيب ستباشر العمل قريباً. ففي الولايات المتحدة، يعمل الباحثون على تركيب آلتين ستكونان قادرتين على إجراء أكثر من 2 إكسا فلوب: وهما حاسوب أورورا (Aurora) في مختبر أرغون الوطني في ولاية إلينوي، وحاسوب إل كابيتان (El Capitan) في مختبر لورنس ليفرمور الوطني في ولاية كاليفورنيا. وفي أوائل عام 2024، يخطط العلماء لاستخدام أورورا لبناء خرائط العصبونات في الدماغ، والبحث عن المحفزات التي تزيد فاعلية بعض العمليات الصناعية، مثل إنتاج الأسمدة.

أمّا إل كابيتان، الذي يُفتَرض بأن يبدأ بالعمل في 2024 أيضاً، فسوف يجري عمليات محاكاة للأسلحة النووية، لمساعدة الحكومات على الاحتفاظ بمخزوناتها منها دون إجراء الاختبارات عليها. في هذه الأثناء، تخطط أوروبا للبدء بتشغيل أول حاسوب فائق لديها من فئة إكساسكيل، الذي يحمل اسم جوبيتر (Jupiter)، في أواخر عام 2024.

وتقول التقارير إن الصين تمتلك بعض الحواسيب الفائقة من فئة إكساسكيل أيضاً، لكنها لم تنشر أي نتائج حول أدائها في اختبارات الأداء المعروفة، ولهذا، لم تُدرَج حواسيبها في قائمة "توب 500" (TOP500) النصف السنوية لأسرع الحواسيب الفائقة على مستوى العالم. يقول دونغارا، الذي صمم اختبار الأداء المعتمد لإدراج الحواسيب الفائقة في قائمة توب 500: "يشعر الصينيون بالقلق من فرض الولايات المتحدة المزيد من القيود على حصول الصين على التكنولوجيا، ولهذا فهم لا يرغبون بالإعلان عن عدد الحواسب الفائقة العالية الأداء الموجودة لديهم".

لكن النهم للحصول على المزيد من قدرات الحوسبة لا يتوقف عند مستوى إكساسكيل. فقد بدأ أوك ريدج بدراسة الجيل المقبل من الحواسيب، وفقاً لميسر. وستكون تلك الحواسيب أعلى قدرة من فرونتيير بثلاثة إلى خمسة أضعاف. لكن ثمة مشكلة كبيرة لا تزال تخيّم على هذه التكنولوجيا، وهي حاجتها الهائلة إلى الطاقة؛ فالطاقة التي يستجرها فرونتيير، حتى في وضع الجاهزية، تكفي للآلاف من المنازل. يقول ميسر: "من المرجح أننا لن نستطيع مواصلة بناء آلات أضخم فأضخم بمرور الوقت".

اقرأ أيضاً: كيف أحدث حاسوب ماكنتوش ثورة في مجال التكنولوجيا؟

وعلى التوازي مع عمليات بناء حواسيب فائقة أضخم باستمرار في أوك ريدج، كان المهندسون يعملون على تحسين كفاءة الآلات عن طريق العديد من الابتكارات، التي تتضمن طريقة تبريد جديدة. فحاسوب سوميت الفائق (Summit)، وهو سلف فرونتيير، لا يزال يعمل في أوك ريدج، حيث تُخَصص نسبة 10% تقريباً من الطاقة التي يستهلكها لتبريده. أمّا النسبة المخصصة للتبريد في فرونتيير، من ناحية أخرى، فتتراوح من 3% إلى 4%. وقد تمكن المهندسون من تحقيق هذا التحسن بتبريد الحاسوب الفائق باستخدام الماء بدرجة الحرارة المحيطة، بدلاً من الماء المُبَرّد.

ستكون الحواسيب الفائقة من الجيل المقبل قادرة على محاكاة عدد أكبر حتى من المستويات في الوقت نفسه. على سبيل المثال، تبلغ دقة المحاكاة التي تجريها شنايدر للمجرة عشرات السنوات الضوئية. لكن هذا لا يزال غير كافٍ للوصول إلى مستوى المستعرات العظمى الإفرادية، ولهذا يتعين على الباحثين محاكاة الانفجارات الإفرادية بصورة مستقلة. وقد تتمكن الحواسيب الفائقة المستقبلية من توحيد هذه المستويات جميعها.

تسهم هذه الحواسيب الفائقة في توسيع نطاق ما يمكن تحقيقه علمياً، وذلك من خلال محاكاة تعقيدات الطبيعة والتكنولوجيا بواقعية أكبر. فمحاكاة المجرة بواقعية أكبر تضع ضخامة الكون واتساعه تحت تصرف العلماء. ويُتيح النموذج الدقيق لاضطراب جريان الهواء حول مروحة طائرة، تفادي الحاجة إلى بناء نفق هوائي بتكاليف باهظة قد يكون تأمينها مستحيلاً. وتُتيح النماذج المناخية الأفضل للعلماء إمكانية التنبؤ بمصير الكوكب. باختصار، تمثّل هذه الحواسيب الفائقة أداة جديدة تُتيح لنا الاستعداد لمواجهة المستقبل المجهول.

المحتوى محمي