في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أعلنت شركة "لينكد إن" (LinkedIn) عن خططها لإزالة النسخة الصينية من المنصة، ما يعني انتهاء أحد أهم جسور التواصل الاجتماعي الأميركية بين الصين والعالم الخارجي. فعندما أعلن لينكد إن في 2014 أنه سيقدم خدماته في الصين، أقرت الشركة بأنها ستضطر إلى تطبيق "قيود حكومية على المحتوى". لقد كان قراراً جريئاً ومثيراً للجدل، وعكس شيئاً من التفاؤل حول إمكانية العمل في الصين، إضافة إلى استعداد لمقارنة السلبيات والإيجابيات، وتقديم بعض التنازلات مقابل الحصول على بعض الفوائد. فمن ناحية، هناك مصدر دخل محتمل من تعداد سكاني هائل يتجاوز المليار نسمة، واحتمال حقيقي بالتواصل بين المحترفين الصينيين وأقرانهم من باقي أنحاء العالم. ومن ناحية أخرى، هناك مهمة صعبة وبغيضة في فرض الرقابة على الخطاب السياسي والنقد الذي سيظهر دون شك. أما الآن، وعلى ما يبدو، فقد تغلبت السلبيات على الإيجابيات.
لينكد إن لن تغادر الصين نهائيّاً
ولكن الشركة، والتي استحوذت عليها "مايكروسوفت" (Microsoft) في 2016، لن تتخلى تماماً عن قطاع التواصل الاحترافي في الصين. فقد قالت لينكد إن إنها ستستبدل منصتها في الصين بموقع مستقل للبحث عن الوظائف يحمل اسم "إن جوبز" (InJobs)، وهذا الموقع "لن يتضمن أي صفحة منشورات اجتماعية أو أي إمكانية لمشاركة المنشورات أو المقالات". ويشير هذا إلى محاولة للتقليل من عبء الرقابة، وتراجعاً عن مشاكل إدارة حماية البيانات عند نقل بيانات المستخدمين الصينيين خارج الحدود، وهي مهمة ستصبح أكثر تعقيداً مع بدء العمل بقانون حماية المعلومات الشخصية في نوفمبر/ تشرين الثاني.
حالياً، يؤمن لينكد إن مجالاً استثنائياً يسمح للمستخدمين الصينيين بالتفاعل مباشرة مع الناس في البلدان الأخرى، دون أن يضطر المستخدم الصيني إلى تشغيل شبكة خاصة افتراضية، أو أي وسيلة أخرى لتفادي قيود السور الناري العظيم. يمكن استخدام التطبيق الصيني "ويتشات" عبر الحدود، ويستطيع الناس الاستمتاع بمنشورات اجتماعية أو تسجيل المشاركة للاطلاع على محتوى حسابات عامة وخاضعة للإشراف (وكل ذلك طبعاً ضمن حدود الرقابة والمراقبة)، ولكن ويتشات ليس مصمماً بالفعل للبحث عن الأشخاص الذين لا تعرفهم مسبقاً. أيضاً، تقوم شركة "بايت دانس" (ByteDance) التي تعمل في بكين بإدارة منصة تيك توك، ولكن الموقع ليس متاحاً للاستخدام في الصين، حيث يستخدم الناس بديله المحلي "دويين" (Douyin).
اقرأ أيضاً: كيف تصاعد الهجوم الصيني على مايكروسوفت متحولاً إلى موجة هجمات (هوجاء)
لينكد إن يدخل السوق الصينية في وقت حُظرت فيه شبكات أخرى
تحظر الحكومة الصينية على مواطنيها استخدام مواقع التواصل الاجتماعي العالمية الضخمة مثل فيسبوك وتويتر، وعادة ما تحظر المنصات الجديدة أيضاً ما إن تبدأ بجذب انتباه مسؤولي الرقابة. وهذا ما حدث في وقت سابق من هذه السنة، بعد أن اجتذبت شبكة التواصل الاجتماعي الصوتية "كلوب هاوس" أعداداً كبيرة من الحضور على مدار الساعة في نقاشات مفتوحة حول مواضيع عادة ما تُعتبر محظورة في الصين. وعموماً، ليس هناك مساحات كبيرة تسمح باللقاء بين الصينيين وغيرهم على نطاق واسع.
لقد دخلت خدمات "لينكد إن" إلى الصين في فترة كانت المنصات الأميركية تدرك فيها أن العمل هناك يعني تطبيق الرقابة والتعامل مع مشاكل الالتزام بالقواعد المتغيرة. ووفقاً لأكثر من وجهة نظر، فإن إطلاق "لينكد إن" في الصين كان يمثل التوجه المعاكس لقرار جوجل في 2010 بإغلاق محرك البحث المتوافق مع الرقابة "Google.cn". وبالنسبة لجوجل، فإن قرار خروجها من سوق البحث في الصين يُعزى إلى تركيبة من عدة عوامل، مثل عدم الرغبة بالتعاون مع جهات الرقابة، والاستياء مما يبدو تدخلاً صينياً يستهدف بيانات المستخدمين، وانخفاض الحصة السوقية مع فشل جميع محاولات زيادتها.
اقرأ ايضاً: العاملون في المجال التكنولوجي في الصين يحتجون على نظام العمل 996
هل تشبه مغادرة لينكد إن للسوق الصينية مغادرة جوجل؟
وعلى حين أن قرار المغادرة أتاح للمدراء التنفيذيين فرصة دعم حرية التعبير، وهي من حقوق الإنسان الهامة، فقد أدى أيضاً إلى مشاكل بالنسبة للمستخدمين الصينيين الذين خسروا إمكانية الوصول إلى خدمات جوجل الهامة، واحداً تلو الآخر، مع قيام حكومتهم بحجبها. لقد كان قراراً يبدو أن بعض مسؤولي جوجل، على الأقل، ندموا عليه بعد ذلك. فقد أطلقت الشركة لاحقاً مشروعاً سرياً للغاية باسم "دراغونفلاي" (Dragonfly)، وذلك للدخول ثانية في قطاع محركات البحث الصيني، ولكن الشركة تخلت عنه لاحقاً بسبب ضغوط الموظفين والعامة بعد أن افتضح أمره.
وعلى الرغم من أن المقارنة بين مغادرة لينكد إن الحالية وخروج جوجل السابق أمر مثير للاهتمام، فإن التفاصيل أكثر تعقيداً بكثير، فبوجود المنصة المحلية البديلة، ما زال هناك احتمال أن تضطر لينكد إن للتعامل مع قرارات صعبة حول كيفية التعامل مع مطالب الحكومة الصينية المتعلقة ببيانات المستخدمين، كما أنها ستضطر أيضاً إلى خوض غمار مشهد تنظيمي وقانوني سريع التطور لتولي إدارة خصوصية البيانات، والخوارزميات، وسلوكيات السوق على الإنترنت.
علاوة على ذلك، فإن الخدمة الجديدة ستكون محاطة بالشكوك في الصين بسبب ملكيتها الأجنبية، وقد تتعرض إلى ردة فعل سلبية وفق قوانين جديدة إذا اعتبرت الصين أن أفعال الولايات المتحدة ضد الشركات الصينية تتسم بالتمييز. وعلى الرغم من أن محتوى المستخدمين سيكون محدوداً، فسيكون من الواجب على الدوام التأكد من عدم قدرة أي شخص على كتابة عبارة "فلتسقط الحكومة الصينية" ضمن الحقل الخاص بالمسمى الوظيفي. وبشكل مباشر أكثر، وعلى حين نفضت مايكروسوفت يديها من تحديات مراقبة شبكة اجتماعية عابرة للحدود، فإنها ما تزال تشغل نسخة مراقبة من محرك البحث بينغ.
اقرأ أيضاً: أول إدانة لأكاديمي في إطار مبادرة الصين تثير الكثير من الأسئلة الملحّة
توقف لينكد إن وبلد المنشأ: الولايات المتحدة الأميركية
ولكن، يبدو أن توقف موقع "لينكد إن" الصيني يُعزى بالدرجة الأولى إلى بلد المنشأ، أي الولايات المتحدة، إذ لم يكن "لينكد إن" يتعرض لضغوط متزايدة من الحكومة الصينية لتشديد الرقابة وحسب، بل أدى هذا أيضاً إلى لفت نظر المنتقدين في واشنطن، فقد تلقى عدد من الأكاديميين والصحافيين مؤخراً إبلاغاً بحجب صفحاتهم في الصين بسبب محتواها السياسي، ما أدى إلى إثارة تساؤلات عند أعضاء في الكونغرس. وقد كان هذا الشكل من الرقابة، إضافة إلى طريقة إعلام المستخدمين المتأثرين بها، مثاراً للجدل والانتقادات منذ زمن.
لم يطرأ تغيير جذري على التساؤلات الأخلاقية المتعلقة بالشركات الأميركية التي تقدم خدمات مُراقبة منذ إغلاق جوجل لمحرك البحث الخاص بها، أو منذ أطلقت "لينكد إن" مشروعها، على الرغم من تغير الوضع الجيوسياسي. لقد ساعدت "لينكد إن" على فرض الرقابة السياسية واسعة الانتشار على كل المنصات في الاقتصاد الرقمي الصيني، وهي مهمة تثير ولا شك احتقار أي مناصر لحرية التعبير، فقد أدت جهودها إلى التأثير على المستخدمين الدوليين، والذين حُجبوا بشكل انتقالي، وأدت إلى حرمانهم من حق التعبير الذي يتمتع به جميع المستخدمين على قدم المساواة، وأعطت المستخدم الصيني إطلالة مشوهة على ساحة الجدل الدولية.
اقرأ أيضاً: التحيز في لينكدإن: الذكاء الاصطناعي هو المشكلة والحل في الوقت نفسه
إيجابيات جديرة بالذكر لوجود لينكد إن
وعلى الرغم من هذا، فقد حظي المستخدمون الصينيون بفسحة استثنائية للوصول إلى زملائهم في كافة أنحاء العالم واستكشاف الشبكات الاجتماعية في الخارج، على الرغم من القيود التي فرضتها حكومتهم. كما تمكن المستخدمون من كافة أنحاء العالم من التواصل مع حسابات المستخدمين الصينيين والتعلم منها دون الانضمام إلى منصة صينية بحتة. وعلى أي حال، فإن مغادرة "لينكد إن" للصين لن تؤدي إلى أي أثر في تخفيف الرقابة على الإنترنت هناك.
قد يكون لدى "لينكد إن" عدة أسباب وجيهة لقرارها بمغادرة الصين، مثل الاشمئزاز من الرقابة، والجمود التنظيمي، والتأخير في أداء الأعمال. وعلى الرغم من أنه من السهل –بل ومن الواجب- أن نحتفل بمغادرة شركة أميركية بشكل جزئي لعمل يحمل طابعاً رقابياً، فيجب أيضاً أن نحزن على فقدان جسر نادر فعلاً في وسط تباعد متزايد بين الصين والولايات المتحدة.
هذه المقالة جزء من مشروع الخطاب الحر، وهو مشروع مشترك بين مؤسسة "فيوتشر تينس" (Future Tense) وبرنامج التكنولوجيا والقانون والأمن في كلية القانون في الجامعة الأميركية في واشنطن، ويدرس تأثير التكنولوجيا على طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى الخطاب.
فيوتشر تينس مشروع مشترك بين مجلة "سليت" (Slate) ومنظمة نيو أميركا وجامعة أريزونا الحكومية لدراسة التكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.