ثمة نكتة شائعة حول طاقة الاندماج، وهي نكتة ترافق عادة أي حوار يتناول هذه التكنولوجيا. تقول هذه النكتة: الاندماج هو طاقة المستقبل، وسيبقى طاقة المستقبل على الدوام.
يوماً ما، قد تتمكن مفاعلات الاندماج من توفير طاقة زهيدة التكاليف وبكميات وافرة دون انبعاثات كربونية، بالاعتماد على وقود متوفر بكثرة. لكن هذا الوعد الذي سيتحقق "يوماً ما" ظهر منذ فترة طويلة من دون أي نتائج ملموسة. تدهشني قدرة الاندماج على توليد كل هذا القدر من الحماسة، وما يوازيه من الشكوك. في الواقع، يمثل الاندماج الحلم الأبعد منالاً في تكنولوجيات الطاقة.
في مؤتمر كلايميت تيك (ClimateTech) الذي أقيم في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، كان مقرراً أن أتحدث مع المؤسس المشارك لشركة كومونويلث فيوجن سيستمز (Commonwealth Fusion Systems) ورئيسها التنفيذي للشؤون العلمية، دانيال برانر.
اقرأ أيضاً: بعد 30 عاماً من نقض الفكرة، تبيَّن أن جوجل تموِّل أبحاثاً في الاندماج البارد منذ سنوات
الوعد والمخاطر
في بعض الأحيان، يوصف الاندماج بأنه تكنولوجيا تتطلب تحقيق "رحلة قمرية" (moonshot)، أي أنه هدف كبير ويمكن أن يحدث تحولاً هائلاً، لكن تحقيقه صعب جداً من الناحية التقنية.
في الواقع، فإن الرحلة القمرية الأصلية التي أدت إلى إشاعة هذا المصطلح كانت تتعلق بالقمر نفسه، حرفياً، فقد أعلن الرئيس الأميركي جون كينيدي في 1962 عن هدف الوصول إلى القمر بحلول نهاية الستينيات. من الجدير بالذكر أن الأبحاث المتعلقة بتكنولوجيا الاندماج تعود إلى ما قبل هذا الهدف القمري الأول، ما يدل على طول فترة انتظارنا لهذه التكنولوجيا.
يعمل مفاعل الاندماج على صدم الذرات بعضها ببعض، ما يدفع بها إلى الاندماج، وإطلاق كميات هائلة من الطاقة. وتعتمد هذه العملية على وقود زهيد التكلفة ومتوفر بكثرة. وهو ما يمكن أن يعني الحصول على الطاقة على مدار الساعة دون توليد أي انبعاثات كربونية، وهي تركيبة أقرب إلى الحلم للتعامل مع التغير المناخي.
لكن تحقيق تفاعل الاندماج بطريقة يمكن التحكم فيها يتطلب عدة إنجازات ضخمة في العلم والهندسة. فيجب أن تتجاوز الحرارة داخل المفاعل 100 مليون درجة مئوية، ويجب على الشركات استخدام أشعة الليزر والمغانط الفائقة القوة، أو ابتكارات تكنولوجية أخرى بدرجة مماثلة من التعقيد، للحفاظ على الوقود في مكانه.
ونظراً لهذه الدرجة العالية من التعقيد الهندسي، يعتقد بعض مصممي النماذج أن التفاعل الاندماجي لن يكون زهيد التكاليف إلى هذه الدرجة في نهاية المطاف، وقد تصل تكاليفه إلى قيمة تكافئ تكاليف الطاقات المتجددة، بل وتتجاوزها بعض الشيء. تبدو هذه الحجة منطقية، لكن مختصي التنبؤات أيضاً قللوا من تقدير القدرات الكاملة للألواح الشمسية على مدى أكثر من عقد كامل، ولهذا، أعتقد أنه من المبكر حسم الجدل في أي اتجاه كان حول التكلفة النهائية المتوقعة للاندماج.
وبغض النظر عن هذه المسألة، فإن هذه التكنولوجيا قد تؤدي إلى إحداث تحولات كبيرة. لكن السؤال الرئيسي هو: متى سيكون الاندماج جاهزاً للاستخدام على نطاق واسع، وهل سيتحقق هذا في وقت قريب بما يكفي لإحداث تأثير إيجابي في مواجهة التغير المناخي؟
اقرأ أيضاً: ماذا حل بالمفاعلات النووية الأصغر حجماً التي كنا موعودين بالحصول عليها؟
المسار والتقدم
عند التفكير في مستقبل الاندماج، أراقب ما يحدث بمزيج من الاهتمام والحماسة، مع قدر مناسب من الشك. فمن المهم أن نسعى إلى تحقيق التكنولوجيات البعيدة الأمد، حتى إذا لم تكن الاحتمالات تصب في صالح نجاح شركة واحدة أو طريقة محددة.
ويبدو أن الاندماج يمر بمرحلة إيجابية على وجه الخصوص، فالإنجاز العلمي المهم الذي توصل إليه الباحثون منذ سنة تقريباً ما يزال ماثلاً في الذاكرة حتى الآن. ففي ذلك الوقت، تمكن العلماء في مختبر لورنس ليفرمور الوطني، وللمرة الأولى، من توليد قدر من طاقة التفاعل الاندماجي يفوق الطاقة المقدمة إلى الوقود.
في هذه التفاعلات، وصل الاندماج إلى ما يُسمى في بعض الأحيان "التعادل العلمي" (scientific breakeven)، وهو إنجاز ضخم بكل المقاييس. لكن ثمة أشياء يجب ألا ننساها، بطبيعة الحال.
فأشعة الليزر المستخدمة في هذا المفاعل من أقوى أنواع الليزر في العالم، لكنها أيضاً ضعيفة الفاعلية إلى حد كبير. ففي نهاية المطاف، تطلب إنجاز التفاعل سحب طاقة من الشبكة الكهربائية بمقدار يزيد على ما أنتجه التفاعل نفسه. إضافة إلى هذا، يُجمع أغلب الخبراء على أن هذا التصميم من الاندماج ليس عملياً على نحو يناسب محطات إنتاج الطاقة، في المدى القريب على الأقل.
وعلى الرغم من أن هذه التجربة تمثل إنجازاً مفصلياً، فقد كانت أقرب إلى إنجاز مفصلي رمزي، لا عملي. ومن الجدير بالذكر أنه في هذه الأثناء، يعاني أضخم مشاريع الاندماج وأشهرها على مستوى العالم، وهو المشروع الدولي المشترك الضخم الذي يحمل اسم "المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي" (International Thermonuclear Experimental Reactor)، أو اختصاراً "آيتر" (ITER)، تأخيرات كثيرة، إضافة إلى التكاليف التي تجاوزت التوقعات بكثير.
اقرأ أيضاً: قطاع النفط والغاز: فرصة الهيدروجين النظيف للبلدان الغنية بالهيدروكربونات
غير أنه في خضم بطء الجهود البحثية الوطنية والدولية، أبدى القطاع الخاص اهتماماً كبيراً بالطاقة الاندماجية. فقد بلغ إجمالي الاستثمارات قيمة 6.2 مليارات دولار في وقت سابق من هذه السنة. ما يزال المستثمرون يضخون الأموال في هذه التكنولوجيا، إذ يعزو الكثيرون منهم هذا التوجه إلى الحاجة لتكنولوجيات مبتكرة لمواجهة التغير المناخي، والتطور الذي حققه القطاع الخاص مؤخراً.
وفي حين لم تتمكن أي شركة خاصة في مجال الاندماج من تحقيق أي فائض في إنتاج الطاقة (أو على الأقل، لم تعلن أي شركة عن هذا)، فقد تمكّن بعض الشركات من تحقيق إنجازات تستحق الذكر. فقد تمكنت كومونويلث فيوجن سيستمز من تحطيم الرقم القياسي لقوة الحقل المغناطيسي بفضل موادها الجديدة الفائقة الناقلية، وهي تكنولوجيا يمكن أن تكون أساسية في نجاح الطاقة الاندماجية على نطاق واسع وبجدوى اقتصادية جيدة. وقد تمكنت شركات ناشئة أخرى، مثل تي أيه إي تكنولوجيز (TAE Technologies)، من الوصول إلى حرارة تبلغ 75 مليون درجة مئوية، أو حتى أعلى من ذلك، وهي مرحلة مهمة في الوصول إلى مفاعلات اندماجية عملية.
أعتقد أن اندفاع الشركات الناشئة إلى العمل في مجال الطاقة الاندماجية أمر رائع. وتعمل هذه الشركات بأسلوب يتسم بالعجلة، لأنها تحتاج إلى تحقيق التقدم ومواصلة جمع الأموال، أو التعرض لخطر الإفلاس.
تخطط كومونويلث فيوجن سيستمز للبدء بتشغيل مفاعلها لتوليد فائض الطاقة في 2025 تقريباً، وتخطط للبدء بتشغيل محطة لتوليد الطاقة في بدايات الثلاثينيات من القرن الحالي. أما شركة هيليون إينرجي (Helion Energy) (التي خططت سابقاً للانتقال إلى مرحلة التشغيل بحلول العالم 2020) فهي تخطط الآن لتشغيل محطة لتوليد الطاقة بحلول العام 2028. وقد وقعت الشركة مسبّقاً عقداً لبيع الطاقة إلى شركة مايكروسوفت.
لكن الخبراء تساورهم الشكوك، وهو ما أورده زميلي جيمس تمبل في مقاله حول الجدول الزمني الذي أعلنت عنه هيليون في وقت سابق من هذا العام.
اقرأ أيضاً: نحن بحاجة إلى محركات نووية أكثر قوة حتى نتوغل أكثر في الفضاء وبسرعات أكبر
الإمكانات والآفاق
لا أعتقد أنه يمكننا أن نربط مصير الكوكب بالطاقة الاندماجية، لكنني لا أظن أن هذا ما يحدث حالياً.
فلدينا حالياً العديد من التكنولوجيات المتاحة لمعالجة التغير المناخي. وعلى مدى العقد المقبل تقريباً، سيكون استخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسية، والسيارات الكهربائية، وغيرها من التكنولوجيات المتاحة حالياً، هو الأسلوب المعتمد الذي سيساعدنا على تحقيق أهدافنا المناخية.
اقرأ أيضاً: ما الذي يحوّل الهيدروجين من مساهم إيجابي في مكافحة التغير المناخي إلى مساهم سلبي؟
ومن الممكن أن نعترف بأن التكنولوجيات الحالية ستؤدي إلى أكبر تأثير على المدى القريب، ونتفاءل في الوقت نفسه بأن التكنولوجيات الجديدة، مثل البطاريات من الأجيال الجديدة والصناعات الثقيلة التي تعتمد على الهيدروجين وحتى الاندماج، يمكن أن تؤدي دوراً هائلاً في حياتنا مستقبلاً. ومن المؤكد أن زيادة عدد الخيارات المتاحة أمامنا، سواء للعام 2030 أو حتى 2040، لن تكون أمراً سلبياً على الإطلاق، ومع أنني لا أدري بالضبط ما هي هذه الخيارات فإنني أترقب ظهورها في أي لحظة.