لقد مرت سنوات عديدة منذ أن سمعت السؤال التالي: "أي خادم تستخدمين؟"
وكان هذا السؤال يشير عادة إلى يوزنيت (Usenet)، ومن ثم ديسكورد (Discord). ولكن في الأسابيع الماضية، ومع الخروج الجماعي من تويتر، بدأت أسمع هذا السؤال إشارة إلى منصة ماستودون (Mastodon) من الأصدقاء، وأصدقاء الأصدقاء، وزملاء العمل، وغيرهم من الأشخاص الذين ألتقيهم بالصدفة لمرة واحدة. وقد قالت إحدى الشركات في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني، إن مليون شخص غادروا تويتر بعد استحواذ إيلون ماسك عليها، كما غادرها المزيد بعد عدة أسابيع.
ويقول بعض الخبراء والمثقفين إن هذه الهجرة الجماعية تمثل بداية نهاية الشبكات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه المقالات ليست مخطئة تماماً، فإنها ليست صحيحة تماماً أيضاً. فنحن لا نشهد موت عصر الشبكات الاجتماعية، وإنما نشهد تطورها، وهي نقلة نحو الفضاءات التي تركز على المجموعات ذات الاهتمامات المشتركة والتي يخدم تصميمها الأغراض المجتمعية، مثل ماستودون وديسكورد وتويتش (Twitch).
ومع أن منصات التواصل الاجتماعي كانت تركز منذ قرابة 15 سنة على إيصال رسالتك إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص في الوقت نفسه، فإننا نتجه إلى مستقبل تركز فيه هذه المنصات بدلاً من ذلك على التواصل مع مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يشاركونك اهتماماتك ومعتقداتك وميولك. وهذا هو أصل السؤال المتعلق بالخادم.
فعلى منصة ماستودون (وهي أقرب ما يكون إلى نسخة عن تويتر (Twitter)) وديسكورد (وهي تشبه منصة سلاك (Slack)) توجد فضاءات مختلفة تدعى بالخوادم، وتعرف في حالة ماستودون باسم الحالات (instances). ويستطيع أي شخص أن يسجل لإنشاء خادم خاص به. وعلى حين تتمحور ديسكورد حول تشابك المنتج والتكنولوجيا، فإن ماستودون مفتوحة المصدر، كما أن الحالات/ الخوادم قادرة على الانفصال عن المسار الرئيسي الموحد عند الرغبة. وهناك خوادم لألعاب الفيديو، ومجموعات المعجبين، واختصاصات معينة، ومناصرة قضايا معينة، ولأي شيء آخر يمكن أن نفكر فيه.
اقرأ أيضاً: من خبير تكنولوجيا إلى إيلون ماسك: لا يمكن إصلاح تويتر بتغيير التعليمات البرمجية فقط
الشبكات الاجتماعية تتجه لتكون نوعية لا كمية
ليست شبكات التواصل الاجتماعي التي تركز على المجموعات المشتركة بالفكرة الجديدة، فلطالما تم وصف مجموعات التراسل على واتساب (WhatsApp) وتيلغرام (Telegram) بأنها شبكات اجتماعية، كما أن موقع ريديت (Reddit) موجود منذ فترة طويلة للغاية. ولكن التركيز على مجموعات محددة أمر مختلف، حيث يسمح تصميم المنصة بعدة أنواع من التواصل باستخدام الفيديو والبث ولوحات الرسائل المتعددة، والتراسل من شخص إلى شخص، والفضاءات العمومية المشتركة، الكبيرة منها والصغيرة.
إن النشر العام على تويتر أو تيك توك (TikTok) أو يوتيوب (YouTube) أو إنستغرام (Instagram) هو أقرب ما يكون إلى استخدام مكبر صوت للصراخ أمام حشد ضخم مجهول وبلا معالم. أما الدخول إلى خادم ديسكورد أو مجموعة واتساب فهو أقرب إلى الذهاب إلى حفلة يقيمها أحد الأصدقاء، فقد لا تعرف الجميع هناك، ولكن يمكنك أن تشكل تصوراً عن هويات الموجودين وعمن يصغي منهم، حتى لو كانت غالبية الحضور من الغرباء. ويمكن الانتقال من حوار جماعي كبير إلى حوار جانبي أصغر وأكثر ودية بسلاسة لا يمكن العثور عليها في الكثير من الشبكات الاجتماعية الأخرى.
وتؤمن المجموعات على ماستودون وواتساب وديسكورد وتويتش وحتى فيسبوك (Facebook) مزيجاً مختلفاً من الفضاءات التي تتراوح ما بين العامة والخاصة. وهي تقوم بدور شبكات أقل سرعة وحجماً، حتى لو كانت قادرة على استضافة الآلاف من الأشخاص. ويعود هذا البطء إلى خيارات التصميم. وعلى سبيل المثال، تتيح منصة واتساب أخذ لقطة شاشة لرسالة أو إعادة إرسالها، ولكنها تضع قيوداً على إعادة إرسال الرسائل. أما منصة ديسكورد فتحتوي على مجموعة من أدق أدوات مراقبة المحتوى للمديرين والمستخدمين على حد سواء، مثل القدرة على حظر كلمات محددة، أو جمل خاصة، وإنشاء قوائم مسموحة للمحتوى.
اقرأ أيضاً: ما الذي يريد “فيسبوك” أن يصرف انتباهك عنه من خلال تحويل تركيزه المزعوم نحو الخصوصية؟
نقلات تكنولوجية تواكب نقلات اجتماعية
إن الشركات التكنولوجية الكبيرة تعمل في سياق تقنيات الويب 2.0. وقد ظهرت منصاتها الضخمة بسبب الانتقال من تقنيات ويب 1.0 إلى تقنيات ويب 2.0، أي الانتقال من الحالة الساكنة إلى الحالة الديناميكية. وتعبّر هذه التغيرات التقنية عن النقلات الاجتماعية (وتعززها أيضاً)، وهو ما بدأنا نراه أيضاً في الوقت الحالي.
يرغب الناس بدرجة أعلى من السيطرة على حياتهم الرقمية، فما زال المؤثرون وغيرهم راغبين بالحصول على أكبر عدد ممكن من الإعجابات والمشاركات والتعليقات، على حين يبدو أن معظم الناس ينظرون، وعلى نحو متزايد، إلى المشاركة واسعة النطاق لمحتواهم على أنها مخاطرة، وليست ميزة. وهو ما يشير إلى أننا قد نتجه نحو تقنيات ويب 3.0، والتي لا علاقة لها بالبلوك تشين، ولكنها تمثّل عودة إلى بعض ميزات ويب 1.0: الشبكات الصغيرة، والتجمعات الموثوقة، والهويات المجهولة، والشخصيات الرقمية، ويضاف إليها الآن الدعم التكنولوجي والاجتماعي لفرق الثقة والحماية، ومراقبة المحتوى، والتفكير متعدد الجوانب الذي تعلمناه خلال العقود الماضية.
إن النقلة نحو تعزيز دور المستخدم، إضافة إلى تعزيز الخصوصية والحماية والثقة والأمان، هي نقلة ضرورية نحو شبكة ويب بتقنيات جديدة وأفضل مما سبقها.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يعتبر الوقت مناسباً لحجب الإنترنت؟
ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نندفع جميعا نحو ماستودون ونهجر حساباتنا على إنستغرام أو تويتر بالكامل. فما زالت تويتر تحمل شيئاً من القيمة. وقد أشار بروفسور الفلسفة في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، جوناثان فلاورز، إلى ضرورة وجود فضاء متفرد، مثل تويتر، لأغراض تنظيمية. وهو ما يدفعني للبقاء في تويتر، على الرغم من أنه لم يكن قط بالحيز الآمن بالنسبة لي (بسبب عملي) أو بالنسبة للعديد من الأشخاص الآخرين.
لا وجود لمنصة آمنة بالكامل
وفي الواقع، ليست هناك منصة آمنة بالكامل للمجموعات المهمشة والأشخاص من الأعراق الإفريقية والأصلية ومن ذوي البشرة غير البيضاء على وجه الخصوص. لطالما كان دعاة تفوق العرق الأبيض وغيرهم من الأطراف الخبيثة، التي تنشئ حالاتها الخاصة، مشكلة دائمة في المنصات الموحدة مثل ماستودون، وسيبقون كذلك على الدوام، لأن الطبيعة اللامركزية للمنصة تسمح لأي شخص -حرفياً- بإنشاء حالته وخوادمه الخاصة، وممارسة الرقابة على المحتوى كما يحلو له.
وفي شبكة الويب بتقنياتها الحالية والمقبلة، سنحتاج إلى عناصر من كلا النوعين: منصة عامة وأسهل للتنظيم، مثل تويتر، مع خيارات للفضاءات الأصغر التي تركز على المجموعات المشتركة. ما زالت منصة تويتر تعجبني من حيث المستوى العالي من الحوار، حيث يصل إلى أحجام هائلة بطريقة رائعة. ما زلت أرغب في رؤية الأخبار العاجلة والميمات الجديدة. ولكنني أرغب أيضاً، وبشدة، في خوض حوار أكثر عمقاً مع المجموعات، وتأسيس صلات أقوى ضمن هذه المجموعات، وهو تواصل من شكل لم تتقن تويتر التعامل معه حتى الآن.
اقرأ أيضاً: محبو الخيال العلمي: قصة أول شبكة اجتماعية على الإنترنت
لقد بدأ عدد مستخدمي ماستودون بالازدياد بوتيرة عالية، وبشكل يومي. أهي إشارة أخرى على دخولنا عصراً جديداً؟ في 1 نوفمبر، أطلق تطبيق التراسل سيغنال (Signal)، والذي يركز على الخصوصية، ميزة القصص (Stories)، وهكذا، دخلت ميزة من تصاميم شبكات التواصل الاجتماعي التابعة لشركات كبيرة إلى تطبيق يركز فقط على التراسل.
وخلال دقائق معدودة، بدأ بعض من أصدقائي بنشر القصص. وقد كان بعض منهم ناشطين لا يستطيعون استخدام إنستغرام، أو لا يستخدمونه ببساطة. وقد كان من الرائع أن أتمكن من رؤية لمحات من حياتهم، بما في ذلك صور السيلفي. فقبل ميزة القصص في سيغنال، لم أكن أرى وجوه هؤلاء الأصدقاء سوى شخصياً. وهو ما لم يكن يحدث سوى مرة أو مرتين في السنة، إذا حالفني الحظ. ولم أدرك مدى افتقادي إليهم حتى رأيت وجوههم، وهو ما أصبح ممكناً لأنهم يشعرون بالراحة عند استخدام معلوماتهم، وبالسيطرة الكاملة عليها. وبالنسبة للمجموعات التي أعمل معها، تعتبر هذه الخطوة ضرورية نحو الجمع بين التشفير والخصوصية والشبكات الاجتماعية بشكل غير متاح لنا حتى الآن.
تاريخ مؤرق
فالشبكات الاجتماعية تظهر وتختفي، ويعتبر تاريخنا التكنولوجي الحديث مقبرة مليئة بحسابات المشاركين في منصات جوجل ريدر (Google Reader) وماي سبيس (Myspace) وإيلو (Ello) وفريندستر (Friendster). وعلى الرغم من أن فيسبوك وتويتر تمثلان أضخم منصات على شبكة الويب الحالية، فهما ليستا عماد المستقبل بالضرورة.
وكما نرى الآن، باءت جميع محاولات وادي السيليكون للتوسع والنمو مهما كان الثمن بالفشل الذريع. فقد كانت شركات وادي السيليكون توصف بأنها أكبر بكثير من أن تفشل، ولكن تبين لاحقاً أنها أكبر حجماً بكثير من أن تعمل بصورة سليمة، على الأقل وفق هيكلتها الحالية.
لقد أمضيت قرابة خمس دقائق مؤخراً في ضبط قائمة مشاهدي قصص حسابي على سيغنال، حيث قمت بعملية فصل بطيئة بين جهات الاتصال الاحترافية المتعلقة بالعمل، وجهات الاتصال الشخصية لأصدقائي، واحداً تلو الآخر. إن ميزة القصص على سيغنال ليست بالمثالية (وقد لخصت يانوس روز مشكلاتها بشكل ممتاز)، ولكن لا مانع لدي من إمضاء المزيد من الوقت في تشكيل قوائم محددة على سيغنال، لأن هذا الأسلوب يبدو مختلفاً، وأكثر استدامة، وأكثر مدعاة للثقة، وأكثر تركيزاً على الاهتمامات العامة للمجموعات.
اقرأ أيضاً: نظرة متشائمة إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي
إن أكبر نقطة إيجابية تصب في صالح قصص سيغنال بالنسبة لي هي وجودي هناك من قبل، وكذلك مجموعة الأشخاص المهمة بالنسبة لي. وحالياً، تتوزع مجموعة الأشخاص الخاصة بي على عدة فضاءات: تويتر، وإنستغرام، وسيغنال، وتويتش، وديسكورد، وماستودون. وما إن تنتهي هذه المرحلة المتقلبة، أعتقد أن الكثيرين من الأشخاص سيتبعون مجموعاتهم أيضاً إلى فضاءات أصغر، لبعض الوقت على الأقل.