أصبح اتصالنا بالإنترنت بمنزلة الحبل السري الذي يربطنا بالعالم الخارجي؛ إذ إننا نعتمد عليها اليوم في إنجاز أعمالنا والذهاب إلى المدرسة ولقاء الآخرين، كما تمثل مصدرنا الأساسي للترفيه، ولا نكاد نغادر فضاءها.
ووفقاً لشركة كلاودفلير (Cloudflare)، وهي شركة أميركية تقدم البنية التحتية للشبكات إلى الشركات في جميع أنحاء العالم، فقد ازدادت حركة البيانات على الإنترنت بنحو الربع بين يناير وأواخر مارس في العديد من المدن الكبرى. وعلى وجه التحديد، ارتفع الطلب بشكل كبير على أنواع معينة من الخدمات عبر الإنترنت؛ فقد حلت المكالمات المرئية محل اللقاء وجهاً لوجه مع الزملاء والعائلة والأصدقاء على حد سواء. وبدأ المزيد من الأشخاص في استخدام برنامج مؤتمرات الفيديو زوم Zoom، وقد تجاوز عدد مستخدمي التطبيق في أول شهرين من عام 2020 إجمالي مستخدميه طوال عام 2019.
كما شهدت وسائل الترفيه المنزلي ازدهاراً هي الأخرى؛ حيث تستخدم أعداد غير مسبوقة من الأشخاص منصة ستيم Steam، وهي عبارة عن متجر ألعاب حاسوبية على الإنترنت. وفي وقت ما في نهاية الأسبوع الماضي، تم تسجيل دخول أكثر من 24 مليون لاعب في نفس الوقت، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 25% عن شهر فبراير. وتعذَّر على محلات البقالة عبر الإنترنت التعامل مع الارتفاع الكبير في حجم الطلبات؛ حيث ينتظر الزبائن لساعات في خطوط انتظار افتراضية تضم عشرات الآلاف من الأشخاص.
إذن، كيف تتعامل شبكة الإنترنت مع أكبر ارتفاع مفاجئ في استخدامها منذ نشوئها؟ هناك علامات إجهاد وضغط على الإنترنت يمكن تفهمها؛ حيث تتباطأ سرعة شبكة الواي فاي لتصبح أشبه بسرعة السلحفاة، ويتأخر تحميل مواقع الويب إلى ما لانهاية، ويتكرر انقطاع الاتصالات المرئية. ولكن على الرغم من هذه المنغِّصات، فإن شبكة الإنترنت تنجح في مواصلة نشاطها. في الواقع، أدت أزمة كوفيد-19 إلى أكبر توسع في شبكة الإنترنت منذ سنوات.
يقول ماثيو روجان، من جامعة أديلايد في أستراليا، الذي يقود مشروعاً لرسم خرائط الإنترنت يسمى حديقة شبكة الإنترنت: "من خلال مراقبة غير متعمقة، قد نعتقد أن شبكة الإنترنت تواجه الكثير من الصعوبات لمواكبة هذا التحول، لأننا نميل إلى سماع الأخبار السيئة في الوقت الحاضر". ويوافق بول بارفورد على هذا الكلام، وهو من جامعة ويسكونسن، ماديسون، ويدير مشروعاً آخر لرسم خرائط الإنترنت. صحيح أنه كلما استخدمنا الإنترنت أكثر، لاحظنا مواطن الخلل فيها، لكننا قد نرى اضطراباً محلياً لفترة وجيزة من دون أن نشهد تأثيرات أوسع نطاقاً، ويقول بارفورد: "هذا هو الهدف الرئيسي من فكرة الشبكة الموزعة".
على الرغم من تزايد استخدام الإنترنت بشكل عام، فإننا نستخدمها في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة. وكما يقول الرئيس التنفيذي لشركة كلاودفلير ماثيو برينس، فإنه بدلاً من حدوث الذروة المعتادة في استخدام الإنترنت ما بعد العمل عند الساعة 7:30 مساءً، هناك الآن ذروة ما قبل الغداء. ليس من الواضح سبب ذلك، ولكن في وقت متأخر من الصباح قد يكون هناك الكثير من الأشخاص الذين يعقدون اجتماعات افتراضية أو يشاركون في فصول دراسية. وهذه الدورات من الاستخدام ليست متماثلة على مستوى العالم؛ فوفقاً لشركة كلاودفلير، ازداد استخدام الإنترنت بنسبة 40% تقريباً في إيطاليا. ولكن في كوريا الجنوبية، حيث كان الناس يستخدمون الإنترنت بكثافة طوال اليوم، يبدو التغير في درجة الاستخدام أقل وضوحاً.
تمتلك كلاودفلير أيضاً بيانات حول المكان الذي نتصل منه بالإنترنت؛ فقد أنتجت خرائط تكشف كيف انتقل النشاط البشري من مراكز المدن ليستقر في الضواحي. كما تظهر الخرائط التغير في استخدام الإنترنت أثناء النهار بين الأربعاء 19 فبراير والأربعاء 18 مارس، وهي الفترة التي تغطي ما قبل وبعد انتقال عدد كبير من الأشخاص إلى العمل من المنزل. تبدو المراكز الحضرية باللون الأحمر مشيراً إلى انخفاض في استخدام الإنترنت، وتحيط بها حلقات خضراء توضح زيادة استخدام الإنترنت.
تأخذ الجهات المعنية الارتفاع المفاجئ في استخدام الإنترنت على محمل الجد؛ فبعد ممارسة الضغوط من قبل تيري بريتون، مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون أسواق الإنترنت، وافقت مجموعة من شركات بث الفيديو، بما في ذلك نتفليكس ويوتيوب وفيسبوك وديزني بلس التي تم إطلاقها حديثاً، على خفض جودة دقة الفيديوهات التي يتم بثها في أوروبا لتجنب إضافة المزيد من الضغوط على شبكة الإنترنت. وتمثل الفيديوهات أكثر من نصف حركة البيانات على الإنترنت، وفقاً لتحليل شركة أجهزة الإنترنت ساندفين Sandvine. وبالمثل، قامت شركات سوني ومايكروسوفت وفالف، التي تشغِّل منصة ستيم، بخفض معدل إجراء تحديثات ألعاب الفيديو أو قَصر تنفيذها على أوقات خارج ساعات الذروة.
بالإضافة إلى زيادة حركة البيانات، فإن التزام الناس بمنازلهم يثقل كاهل الإنترنت بطريقتين إضافيتين؛ أولاً، تعتبر اتصالات الميل الأخير -تلك التي تمتد من القواسم المحلية أو مراكز البيانات إلى منزلك- عادةً هي الحلقة الأضعف في الشبكة؛ حيث يمر الكثير من هذه الاتصالات عبر كابلات قديمة عفا عليها الزمن. وعلى سبيل المثال، عندما تم طرح إنترنت الحزمة العريضة في الولايات المتحدة، غالباً ما كان يتم الاعتماد على الكابلات المثبتة أصلاً لخدمات التلفاز. لقد تم تصميم هذه الكابلات لتوصيل البيانات إلى المنزل وليس لنقلها في الاتجاه المعاكس، وهذا هو السبب في بطء عملية رفع الفيديو باستخدام اتصال منزلي بالإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يكون عرض حزمة الإنترنت المنزلية أضيق من تلك الموجودة في المكتب أو المدرسة، مما يجعل الأنشطة المألوفة تبدو أكثر بطئاً. ويزداد ازدحام هذه الوصلات ضيقة النطاق عند أطراف الإنترنت عندما يريد كل فرد في الحي استخدام الإنترنت في نفس الوقت.
المسألة الأخرى هي أن شركات الإنترنت تضطر الآن إلى التعامل مع حركة البيانات القادمة من مواقع متعددة بدلاً من عدد قليل من المراكز الرئيسية. وعلى سبيل المثال، من الأسهل على دروبوكس إدارة آلاف المستخدمين عندما يتصلون جميعاً من حرم جامعي واحد أو مبنى مكاتب واحد؛ حيث يمكن ضخ كل هذا النشاط عبر اتصال واحد عالي السرعة. ولكن الآن ينتشر هؤلاء الآلاف من المستخدمين في جميع أنحاء البلاد ويتصلون من مئات الشبكات المختلفة.
ومع ذلك، على الرغم من هذه التفاصيل المزعجة، يبدو أن الإنترنت تبلي بلاءً حسناً؛ حيث تُظهر الفحوصات التقنية التي أجرتها رايب RIPE وأوكلا Ookla، وهما منظمتان تراقبان سرعات الاتصال بالإنترنت حول العالم، تباطؤاً طفيفاً ولكن لا يوجد تغيير يذكر بشكل عام. عندما خفضت نتفليكس ويوتيوب من دقة الفيديوهات، لم يكن السبب وراء ذلك عدم قدرة الإنترنت على التعامل مع الوضع الجديد، يقول برينس: "التطوع للقيام بذلك مسبقاً قبل ظهور أي مشكلة يدل على أنهم مواطنون صالحون من حيث فهمهم للإنترنت"، أي إنهم يقومون بهذا الإجراء تحسباً واحترازاً لا أكثر.
قد ندين بالفضل في ذلك للثورة الصناعية؛ فقبل عقدين من الزمن، كان هناك القليل من الاهتمام التجاري بالإنترنت، مما يعني أن بنيتها التحتية كانت تدار بطريقة مخصصة نسبياً دون عناية بتطبيقاتها الأوسع. وكان يمكن لحدث واحد فريد -مثل إعلان صحفي بارز- أن يدمر كل شيء في الشبكة، كما يقول تيش دورفاسولا، الرئيس التنفيذي لشركة سيروس ون CyrusOne، وهي واحدة من العديد من الشركات الدولية التي تساعد في الحفاظ على استمرارية عمل الإنترنت عن طريق تثبيت وإدارة مجموعات كبيرة من الحواسيب التي تشكل السحابة الإلكترونية.
وفي الوقت الحاضر، نشأت صناعة كاملة وأعادت هيكلة الإنترنت لتحقيق غاياتها الخاصة؛ وهي شركات الاتصالات مثل كومكاست Comcast، وصانعو المحتوى مثل نتفليكس، وعمالقة التجزئة مثل أمازون، ومزودو خدمات التخزين الافتراضي مثل دروبوكس، بالإضافة إلى مجموعة من مراكز البيانات والخدمات السحابية الأخرى، قامت بإضافة اتصالات جديدة، وعززت الشبكات القديمة، وأوصلت الكابلات لربط ملايين الخوادم فائقة السرعة. لقد أدى الاستثمار إلى زيادة السعة والسرعة والأداء بشكل كبير في جميع نواحي الشبكة. يقول دورفاسولا: "لقد أدى نشوء صناعة الإنترنت إلى بناء شبكة قوية متداخلة من الشبكات التي تعمل في معظمها بشكل رائع".
تم بناء الإنترنت لغاية محددة
تتيح الخدمات السحابية للشركات مثل نتفليكس ودروبوكس توسيعاً سريعاً لنطاق عملياتها. فعندما يرتفع الطلب، يتم اللجوء إلى الخوادم الإضافية المتاحة ووضعها في الاستخدام. وتستفيد العديد من شركات الإنترنت من منصات سحابية مخصصة مثل خدمات الويب من أمازون أوس (AWS)، لكن الشركات الكبرى شرعت في تشغيل مراكز البيانات الخاصة بها، مما يمنحها المزيد من المرونة لتلبية احتياجات المستخدمين. علاوةً على ذلك، بدأت خدمات البث والألعاب في إنشاء شبكات توصيل محتوى مصممة بشكل خاص لتجاوز أقسام كبيرة من شبكة الإنترنت العامة؛ حيث تتدفق حركة البيانات من مراكز البيانات الخاصة بهم وعبر كابلاتهم وصولاً إلى مزودي خدمات الميل الأخير من الاتصال عريض الحزمة مثل كومكاست وإيه تي أند تي AT&T.
ومثلما يؤدي الاستثمار الضخم في وسط المدينة إلى تغيير الصورة العامة للمدينة من خلال مشاريع البناء، فقد أدى الاستثمار في الإنترنت إلى توسع مماثل. ورغم أن من الصعب رؤية نتائج هذا الاستثمار، لكنها غيرت تجربة استخدامنا للإنترنت بشكل كامل. وهذا هو السبب في صمود الإنترنت بشكل ممتاز في الوقت الحالي.
في الحقيقة، أطلق مرض كوفيد-19 أسرع توسع في الشبكات منذ سنوات، عوضاً عن إنهاكها وتعطيلها؛ حيث يقوم عمالقة الإنترنت مثل نتفليكس وإكينيكس Equinix -التي تدير 200 مركز بيانات حول العالم- بتسريع الترقيات بأقصى طاقة ممكنة لضمان تلبية الطلب المتزايد على خدماتها. وتخوض شركة إكينيكس الآن غمار إجراءات ترقية سعتها لمرور البيانات من 10 إلى 100 جيجا بايت. وقد كان من المقرر أن يتم إنجاز ذلك على مدى عام أو عامين، ولكنه يتم الآن في غضون أسابيع قليلة.
وتقوم نتفليكس بتوسيع بنيتها التحتية أيضاً؛ وعادةً ما تتشارك مع أكبر مراكز البيانات في المنطقة، التي تبث النسخ المحلية من برامج نتفليكس إلى منازل الناس. فالتمركز في أقرب الأماكن إلى المشاهدين يُسرِّع بشدة إجراء عمليات توصيل المحتوى. ويقول ديف تيمكين، نائب رئيس البنية التحتية للشبكات والأنظمة، إن الشركة تتطلع الآن إلى تثبيت مئات الخوادم الإضافية في ثاني وثالث أكبر المراكز في كل منطقة أيضاً. كما تحاول زوم أن تزيد قرب مراكزها من المستخدمين؛ فهي ترصد حالياً الأماكن التي تأتي منها معظم حركة البيانات إلى مخدماتها وتقيم شراكات مع مزودي خدمات الحزمة العريضة في تلك المواقع لإعداد اتصالات مخصصة.
وتقوم شركات الكابلات بتكييف خدماتها أيضاً؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، ألغت شركة كومكاست قيودَ تحميل البيانات. وإذا نجحت التجربة، فقد يصبح الإلغاء دائماً. وفي جنوب أفريقيا (حيث لا يتمكن ملايين الأشخاص من الوصول إلى الإنترنت إلا عبر الهواتف المحمولة) تقوم الحكومة بتخفيف القيود القانونية حتى تسمح لمشغلي الشبكات بطرح خطط بيانات رخيصة أو حتى مجانية. كما أنها تفتح أقساماً من الطيف الراديوي المحجوز سابقاً للتلفاز لصالح حركة البيانات على الإنترنت. وعلى الرغم من أنه قد يتم التراجع عن بعض هذه الإجراءات عند انتهاء الأزمة، ولكن البعض الآخر سوف يستمر؛ حيث إنه بمجرد فتح الباب على هذا النوع من الإجراءات، يغدو من الصعب إعادة إغلاقه.
لا يزال هناك عدد قليل من العقبات التي يمكن أن تبطئ ترقية شبكة الإنترنت. على سبيل المثال، لا تزال أجزاء مهمة من الإنترنت تتطلب تدخلاً بشرياً؛ إذ إن هناك دائماً كابلات تحتاج إلى استبدال أو خوادم تحتاج إلى إصلاح، وهي وظائف لا يمكن إلا للمهندسين البشريين القيام بها. بالنسبة إلى بارفورد، قد تكون هذه هي المرحلة التي نبدأ فيها باكتشاف المشاكل، ويقول: "إذا لم يعد هؤلاء الأشخاص قادرين على الخروج إلى الميدان، فقد تكون هناك انقطاعات محلية مستمرة".
وإذا انهارت سلاسل التوريد، فقد تواجه شركات الإنترنت أيضاً صعوبة في الحصول على المعدات والأجهزة. فالصين هي أكبر منتج للألياف البصرية والأجهزة الأساسية الأخرى، مثل أشباه الموصلات، وبالتالي قد يؤدي انقطاع الإمداد إلى تأجيل خطط تثبيت اتصالات الحزمة العريضة الجديدة في الأجزاء الريفية من العالم.
يمكن أن يؤثر ذلك بشكل سلبي على الأشخاص في المناطق الفقيرة الذين يجدون أنفسهم الآن معزولين بصورة أكبر من معظم الناس. لكن بشكل عام، تخرج الإنترنت من هذه الأزمة بصورة أقوى من أي وقت مضى. يقول برينس إنه لا توجد مرافق أخرى -لا كهرباء ولا ماء ولا مواصلات- قادرة على التعامل مع مثل هذه الزيادة في الاستخدام، ويضيف: "لقد تم بناء الإنترنت للتعامل مع هذا النوع من الضغط".