في مدينة سيفر الفرنسية، وفي قلب المكتب الدولي للأوزان والقياسات، تقبع أسطوانة معدنية براقة تحت ثلاثة أغطية زجاجية مقلوبة ضمن غرفة مغلقة ذات درجة حرارة يتحكم فيها نظام آلي. تسمى هذه السبيكة الوحيدة من البلاتينيوم والإيريديوم "كيه الكبير"، وكانت أساساً لتعريف الكتل حول أنحاء العالم لأكثر من قرن، بدءاً من الموازين المستخدمة في الحمامات، وصولاً إلى الموازين في المخابر الطبية.
ولكن الكاتبة مايا وي-هاس قالت في مقال لها على موقع ناشونال جيوغرافك إن كل هذا سيتغير.
وقد ذكرت في المقال أن هناك ممثلين من أكثر من 60 بلداً حول العالم قاموا مؤخراً بالتصويت على إعادة تعريف الكيلوغرام في اللقاء السادس والعشرين للمؤتمر العام للأوزان والقياسات في فرساي بفرنسا. وبدلاً من بناء هذه الوحدة على جسم مادي، تقرر أن هذا القياس سيكون من الآن فصاعداً مبنياً على معامل فيزيائي هام يعرف باسم ثابت بلانك؛ وهو رقم بالغ الصغر يبدأ بثلاثة وثلاثين صفراً بعد الفاصلة، ويصف سلوك الوحدات الأولية من الطاقة (المعروفة باسم الفوتونات)، وذلك في كل شيء بدءاً من ضوء الشمعة وصولاً إلى تلألؤ النجوم في السماء.
ويقول ستيفان شلامينجر (قائد فريق المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا، والذي عمل على تدقيق قيمة ثابت بلانك من أجل إعادة تعريف الكيلوغرام مع مجموعة دولية من العلماء): "إن هذا الثابت الأساسي محبوك ضمن نسيج الكون". والأهم من ذلك أن قيمته ستبقى ثابتة على الدوام، بغض النظر عن المكان.
تغيير كبير
يعتبر الكيلوغرام أحد الوحدات الأساسية السبعة في نظام الوحدات الدولي، وهي التي تحدِّد جميع القياسات الأخرى، أما الوحدات الست الأخرى فهي المتر، والثانية، والمول (له علاقة بالكتلة الذرية أو الجزيئية)، والأمبير، والكيلفن، والكانديلا (للشدة الضوئية). ومن السهل أن ننسى أهمية الوحدات، ولكن هذه الوحدات السبعة تحدِّد كل شيء في الكون، وتؤمِّن استقرار التصنيع والتجارة والإبداع العلمي وغير ذلك.
تم ابتكار النظام المتري -الذي تحول لاحقاً إلى نظام الوحدات الدولي- في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك لجعل الوحدات "صالحة إلى الأبد ولكل شخص" كما يقول شلامينجر، على أمل تبسيط الحياة اليومية عندما كان مجرد الذهاب إلى بلدة أخرى يعني احتمال أن تضطر إلى تعلم نظام قياسات مختلف.
كما يشرح ريتشارد ديفيس (الذي كان باحثاً فيزيائياً في المكتب الدولي للأوزان والقياسات، وهي المنظمة المعنية بكل ما يتعلق بالقياسات) أن أغلبية هذه الوحدات كانت في البداية مبنية على أشياء في الطبيعة. ولكن في النهاية، تبين أن هذه الطريقة ليست عملية، وعلى سبيل المثال فقد تم تعريف المتر على أنه جزء واحد من عشرة ملايين جزء من المسافة بين القطب الشمالي وخط الاستواء عبر باريس. كما كان الكيلوغرام كتلة لتر من الماء المقطَّر في درجة التجمد.
يقول ديفيس: "ببساطة، لم يكن لديهم ما يكفي من العلم أو التكنولوجيا للنجاح". ولهذا -وفي يونيو من العام 1799- تم تصنيع معيارين من البلاتينيوم، وهما قضيب للمتر وأسطوانة للكيلوغرام، وبهذا وُلد النظام المتري العشري. ولزيادة الاستقرار، أعيد تصنيع المعيارين في 1889 من سبيكة من البلاتينيوم والإيريديوم، وتم تخزينهما بحرص فائق.
غير أن هذا الاعتماد على أجسام مادية لم يكن خالياً من المشاكل، يقول شلامينجر: "لن يبقى الجسم المادي صالحاً إلى الأبد"؛ حيث إن فناجين القهوة تتحطم، والأنابيب تصاب بالصدأ، وعلاوة على هذا فإن هذه الأجسام بالتأكيد ليست "لكل شخص" إذا كانت ضمن خزنة مقفولة.
وفي القرن اللاحق، تم استبدال هذه الأجسام المادية واحداً تلو الآخر بثوابت أساسية، ولم يبق سوى الكيلوغرام.
سنوات من خسارة الوزن
إذا تجاهلنا صعوبة الوصول إلى كيه الكبير، فقد أدى عمله بشكل جيد؛ حيث قام العلماء بتصنيع مجموعة من النسخ حتى يستخدمها الباحثون في جميع أنحاء العالم، ولم يقم المشرفون على كيه الكبير بإخراجه من خزنته لمقارنة الأسطوانة الثمينة مع نسخها سوى ثلاث مرات على مدى 130 سنة. ولكن مع كل مقارنة كان قلق العلماء يزداد، فقد بدا أن كيه الكبير يفقد الوزن.
وبدا أن الأسطوانة الصغيرة تزداد خفة بالمقارنة مع نسخها، أو أن النسخ كانت تزداد ثقلاً. وليس من الممكن أن نحدِّد ذلك بالضبط؛ لأن وزن كيه الكبير بالتعريف يساوي كيلوغراماً واحداً. وحتى لو قام أحدهم بإزالة جزء من الأسطوانة بالمبرد فسوف يبقى وزن كيه الكبير كيلوغراماً واحداً، ويجب على الكيلوغرامات الأخرى حول العالم أن تعدِّل نفسها. وفي المحصلة، كان فرق الكتلة بين كيه الكبير ونسخه حوالي 50 ميكروغراماً، أي كتلة حبة من الملح تقريباً، وعلى الرغم من أن هذا المقدار قد يبدو تافهاً، إلا أنه يمثل مسألة بالغة الخطورة في حقول تتطلب دقة عالية مثل الطب، بالإضافة إلى أن هذه الخسارة لا تؤثر فقط على الكتلة، بل تؤثر أيضاً على الكثير من الوحدات الأخرى التي يتعلق تعريفها بالكتلة، مثل النيوتن.
كيف حدث هذا؟
لحل مشكلة تناقص الوزن، قرر المؤتمر العام للأوزان والقياسات بالإجماع إصدار قرار في 2011 لإعادة تعريف الكيلوغرام وثلاثة وحدات أخرى، وهي: الأمبير والكيلفن والمول، وذلك بناء على "ثوابت طبيعية". ومنذ ذلك الحين، دخل علماء العالم في سباق محموم للعثور على حل.
وفيما يتعلق بالكيلوغرام، ظهر احتمالان يتعلق كلاهما بثابت بلانك. الأول مبني على شيء يعرف باسم ميزان كيبل، وهو أشبه بميزان تقليدي ذي ذراعين. وفي العادة عندما نريد قياس وزن شيء ما، فإننا نضع كتلة معروفة في إحدى الكفتين والشيء المطلوب قياسه في الكفة الأخرى، ويمكننا -بفضل الجاذبية- معرفة علاقة الجسم بالكتلة المعروفة من ناحية الوزن. ولكن بالنسبة لميزان كيبل، يتم استبدال إحدى الكفتين بوشيعة في حقل مغناطيسي، وبدلاً من استخدام قوة الثقالة لموازنة الكتلة، نستخدم القوة الكهرطيسية، وبمقارنة تأثير الكتلة مع هذه القوة الكهرطيسية، يمكن للعلماء حساب ثابت بلانك بدقة عالية.
أما الحل الآخر فيتمثل في تصنيع شيء براق آخر: كرة مثالية من السيليكون البلوري 28، وهذه الفكرة مبنية على ثابت آخر يسمى عدد أفوجادرو، وهو الذي يحدد عدد الذرات في المول الواحد بقيمة 605,214,000,000,000,000,000,000. وبإحصاء عدد الذرات في كرة من السيليكون يبلغ وزنها 1 كيلوغرام تماماً، يستطيع العلماء تحديد عدد أفوجادرو بدقة عالية، ويمكن بعد ذلك تحويله إلى ثابت بلانك.
والقيمة النهائية لثابت بلانك صغيرة للغاية، وتساوي 0.000000000000000000000000000000000662607015 كيلوغرام متر مربع في الثانية.
نهاية الانتظار
باستخدام هاتين الطريقتين، يمكن للعلماء الآن قياس الكيلوغرام بارتياب يساوي واحداً في مائة مليون جزء، وهو ما يساوي تقريباً ربع وزن شعرة من رموش العين، كما يقول شلامينجر: "هكذا هو العلم، لا شيء مثالي. هناك دائماً تأثيرات عشوائية، وشيء من التبعثر، ويجب أن تقرر: أهذا جيد بما يكفي؟". يبدو أن هذا القياس جيد بما يكفي فعلاً، بدلالة هذا التصويت بالإجماع.
وسيدخل هذا التغيير حيز التنفيذ في 20 مايو 2019، يقول ديفيس: "في هذا اليوم، لن تشهد أي تغيير في الحياة العادية". ولكن بطريقة أو أخرى، فإن كل ميزان في العالم متصل بالمعيار العالمي للكيلوغرام، وعلى الرغم من أن قياس وزن الطحين في مطبخك سيبقى على حاله، فإن المعيار الجديد سيعني فرقاً كبيراً بالنسبة لمجالات مثل تصنيع قطع السيارات، وتطوير عقاقير جديدة، وبناء الأدوات العلمية.
ولم يكن التصويت هاماً فقط بالنسبة للدقة العالية التي أصبحت ممكنة في هذه القياسات، بل بالنسبة للتعاون الدولي الذي يمثل أساس هذا العمل. وبعد موافقة الممثلين بالإجماع على التعريف الجديد، قال سيباستيين كاندل (رئيس الأكاديمية الفرنسية للعلوم): "آمل أن هذا سيكون ممكناً أيضاً في العديد من القضايا العالمية".