لعنة التكنولوجيا الناقصة

5 دقائق

قبل عشرين عاماً من الربيع الماضي، غادرتُ بوسطن في رحلة طويلة بالقطار، وخلال الرحلة علّمت نفسي لغة الترميز التشعبي (HTML) وصمّمت موقعي الخاص على الإنترنت. لم يكن الأمر بالغ الصعوبة لشخص مثلي، حيث كان أول برنامج معالجة كلمات احترافي تعاملتُ معه هو "وورد بيرفكت"، ففي هذا البرنامج إذا أردتَ أن تجعل الكلمات بخط عريض على سبيل المثال، عليك أن تطبع "<B>" قبل الكلمة و"<B>" بعدها. وعلى هذا النحو، صممت موقعي على شبكة الإنترنت، حيث استخدمت فيه ترميز الخط العريض والأحرف المائلة بل إنني وضعت فيه صورة أيضاً. كانت الصورة في منتصف الصفحة، وكانت الهوامش متساوية أيضاً. جعلني إعجابي بما أنجزتُ أعتقد أنني كنت على وشك أن أصبح شخصاً ناجحاً في القرن الـ 21 قبل حلوله!

عندما وصلت إلى المنزل بعد الرحلة التي استمرت سبع ساعات للوصول إلى شقتي الصغيرة البسيطة المكونة من غرفتَي نوم استأجرتها في جنوب برونزيك، نيو جيرسي، شغلت جهاز التلفزيون الصغير لمشاهدة جوائز الأوسكار. فشعرت بالخجل والصدمة من المستوى المتواضع لنجاحي الذي حققتُه إذ شاهدت زميلتي، جيسيكا يو، تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير وتخطف الأبصار بعبارة: "تعرف أنك وطأتَ أرضاً جديدة عندما تدرك أنّ كلفة الزيّ الذي ترتديه تفوق كلفة الفيلم الذي صنعتَه".

يدور فيلم يو، "دروس التنفس: حياة وعمل مارك أوبراين" (Breathing Lessons: The Life and Work of Mark O’Brien)، حول قصة رجل يعيش برئة حديدية. ساعدَت الرئة الحديدية أشخاصاً مثل أوبراين، وهو فنان وكاتب، في التنفس بعد أن استسلم نظامهم العصبي العضلي لشلل الأطفال. اختُرعت الرئة الحديدية عام 1928، وأنقذت حياة العديد من الناس، ولكنها أيضاً فرضت على مستخدميها المشلولين أن يمارسوا حياتهم وهم مستلقون بشكل أفقي في أنبوب معدني مغلق بإحكام حول طرفهم ليتمكن من خلق فراغ هوائي جزئي داخل الأنبوب ما يجبر الهواء على الدخول إلى الرئتين والخروج منهما.

تشكّل الرئة الحديدية مثالاً نموذجياً على التقنية الناقصة – فهي تمثّل نوعاً من التحسين على ما كان في السابق ولكنها بعيدة تماماً عما يلبي رغبتك حقاً، أي الحصول على لقاحٍ فعال لشلل الأطفال في مثالنا هذا. ولكن بالنسبة للبعض، كما كان الحال مع أوبراين، كانت هذه التقنية الناقصة هي الطريقة الوحيدة المتاحة أمامهم. فقد ساعدهم ذلك على النجاة في السنوات التي أعقبت معاناتهم من شلل الأطفال وكأنهم كانوا مستلقين تحت بطانيات معدنية، وقد أنجز بعضهم، من أمثال أوبراين، أعمالاً خلاقة من خلال "وهم الاكتفاء الذاتي" كما يقول في الفيلم.

لقد تجاوز عالمنا في القرن الحادي والعشرين مرحلة الرئة الحديدية (على الأغلب، إذ بحسب تقديرات عام 2014 كان هناك 10 أشخاص فقط في العالم ما زالوا يستعملون الرئة الحديدية).

ولكننا نبتكر تكنولوجيات ناقصة باستمرار، وكما يقول جيف بيزوس من شركة "أمازون": "كل يوم هو اليوم الأول بالنسبة لإحدى الشركات أو المجتمعات الابتكارية1ط. يختار معظمنا التقنيات من وجهة نظر المستهلكين فقط. ولذا علينا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة المهمة عندما يتم طرح تقنيات ناقصة في السوق: هل ما يُباع لنا هو وعد، أو وهم، أو بدعة، بدلاً من أن يكون ابتكاراً مفيداً؟ هل يتجه المسار الذي ننتهجه نحو شيء نريده حقاً من نظام الابتكار لدينا؟ وما البدائل الممكنة؟

وإليكم هنا مثالاً على سخافة بعض الابتكارات التكنولوجية: "مينستري أوف سابلاي" (Ministry of Supply)، هي شركة ملابس جديدة كلياً، تسوّق نفسها للعاملين في الاقتصاد الإلكتروني الجديد. وقد أعلنت مؤخراً عن بيعها سترة مصنوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهي متاحة فقط بمتجرها في بوسطن المسمى "باك باي" (Back Bay). ولأن مقاسي هو 42 قصير فقد سألتهم متفائلاً عن إمكانية تقصير هذه التحفة في مجال الخياطة. لكنهم أبلغوني أنها تتوفر فقط بالقياسات الاعتيادية الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة، والكبيرة جداً، وأنه لا يمكنني حتى تقصير الكُمّين لأن القماش الذي يجب تقصيره لا يمكن خياطته أبداً. إنه أمر مثير للسخرية حقاً! فسترة مصنوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد تفشل في الاستفادة من إمكانية التعديل والمرونة في معلومات التصميم علماً أنّ هذه الإمكانية هي في صميم قلب الطباعة ثلاثية الأبعاد.

لقد تقدمنا بشكل كبير يتخطى النقرات البطيئة على أزرار برنامج "وورد بيرفكت" بأشواط بعيدة. إذ يستطيع ابني صاحب العشرة أعوام أن يجعل تطبيق "سيري" (Siri) يقول بعض الأشياء المضحكة ، وأنا متأكد من أنه سيحظى بوقت من المرح الصاخب عندما يصنع بوجهه تعبيرات تشبه الرموز التعبيرية الجديدة لشركة "آبل". وبالإضافة إلى ذلك، فإنني أقدّر أن تتم قراءة إرشادات الاتجاه لي عندما أقود سيارتي وحيداً. ولكنّ ما يمكنني استخدامه حقاً هو برنامج ذكاء اصطناعي مدمج يمكنه التكيف مع تجربتي في إدارة المشاريع، والاتصال عبر الفيديو، وغيرها من المنصات المتزايدة بكثرة بحيث لا أضطر لتعلم منصة جديدة مع كل جهاز أو مشروع جديد. لا ينبغي على برنامج الذكاء الاصطناعي هذا أن يكون بطل العالم منذ اللحظة الأولى. سيكون عليه فقط أن يكون أكثر ذكاء وصبراً بعض الشيء معي.

وبصورة أكثر عمقاً، فإن الشبكة العنكبوتية العالمية هي في حدّ ذاتها تكنولوجيا ناقصة. ففي واقع الأمر تدلّ عبارة "الشبكة العنكبوتية العالمية"، إن دلّت على شيء، على العديد من الأشياء. فالجزء "العالمي" من اسمها لا يزال طموحاً - ليس مثل التعبير المحدود الأفق بشكل يثير السخرية في عبارة "بطولات البيسبول العالمية"، لأنها لا تغطي العالم كاملاً مثل طبقة الهواء على سبيل المثال التي تشكل المجال العالمي المشترك الحقيقي. صحيح أن مليارات الناس موجودين على الفيسبوك الآن، ولكن مليارات أكثر ليست مرتبطة بالإنترنت على الإطلاق. يتجلّى أحد أسباب عدم ارتباط هذه المليارات بالإنترنت في الافتقاد إلى الحصول على تيار كهربائي وبنية تحتية بشكل رخيص وموثوق لتأمين مصادر طاقة للأجهزة بالإضافة إلى الاتصال بالإنترنت سواء كان اتصالاً سلكياً أم لاسلكياً.

وإدراکاً لهذه الطبيعة الناقصة للإنترنت، تقوم إحدى زميلاتي في "جامعة أريزونا" بتصميم وتوزيع ما تسميه "مكتبة التعلم التربوي باستخدام الطاقة الشمسية"  -واختصاراً (SPELL- إلى  مناطق مثل ميكرونيزيا، حيث تتكون المدارس في کثيرٍ من الأحيان من مبانٍ بسيطة دون كهرباء يمكن للأطفال من خلال هذه التقنية استخدام الهواتف المحمولة التي تعود للمعلم أو للأسرة والتي تؤمّن الوصول إلى شبكة المنطقة المحلية التي أنشأتها SPELL والتي تعمل كمُحاكي لشبكة الإنترنت، وتوفر مجموعة من المعلومات التي يمكن تأطيرها وفقاً لاحتياجات المستخدم على سبيل المثال، مع احتوائها على المحتوى الثقافي والبيئي المحلي الذي يمكن الوصول إليه بسهولة.

وهناك جانب آخر غير مكتمل بالنسبة لشبكة الإنترنت. فعلى الرغم من اعتبارها تربط الكثير من أجهزة الكمبيوتر في الوقت الراهن، إلا أنها بدأت تربط أيضاً الكثير من الأشياء التي لا تُعتبر حتى الآن أجهزة كمبيوتر، أو على الأقل التي لا ننظر إليها على أنها أجهزة كمبيوتر. يمكن لإنترنت الأشياء أن تربط أي شيء يمكنه أن يستقبل رقاقة ويدعم اتصال لاسلكي مع أي شيء آخر يمكن أن يفعل الشيء نفسه، سواء كان سيارات ذكية، أو منازل ذكية، أو ملابس ذكية بالإضافة إلى مجموعة كاملة من الأشياء الذكية. إنّ هذه الرؤية الطوباوية هي المعادل الرقمي للقضاء على المعاناة والمرض من خلال الابتكار الطبي الحيوي.

ولكن تجربتي حتى الآن مع البيئة المعلوماتية ليست مُرضية للغاية. هناك أشياء بسيطة تسبب لي حالة عدم الرضا هذه مثل تساؤلي عن المكان الذي يمكنني الحصول فيه على شبكة واي فاي – وبالتأكيد لن يكون في غرفة حمام الرجال في "مطار هيثرو"، على الرغم من أنني أريد حقاً قراءة بريدي الإلكتروني وتصفّح حساب الفيسبوك بعد رحلة طيران دامت تسع ساعات، أو مثل "شركة إكويفاكس"، التي أوصتْ شركةَ بطاقات الائتمان التي حصلت على بطاقتي منها باستخدام "شركة آي ريتين" (Iretain) بعد أن تمت سرقة هويتي، ما سمح بسرقة هويتي مرة أخرى، أو الاستمرار في تلقي الإعلانات وعروض الخصومات على حفاضات الأطفال لسنوات بعد أن توقف ابني عن استعمالها.

نعم، إنه اليوم الأول. ونحن لم نصل إلى مبتغانا بعد. ولكنّ حقيقة عدم وصولنا تعني أننا ما نزال أمام خيارات لنفكر بها وقرارات لنتخذها. (أحد الخيارات هو حياد شبكة الإنترنت، الذي ورد في أحدث أفلام "يو" عن مخترع الشبكة العنكبوتية العالمية، "تيم بيرنرز- لي" أو Tim Berners-Lee). قد لا تحتاج الشبكة العالمية وإنترنت الأشياء إلى التهام العالم، كما أنّه يمكن لتقنية SPELL وغيرها من التكنولوجيات المحلية المتوائمة مع البشر أن تُلبّي ضرورة الوصول العادل للجميع إلى شبكة الإنترنت بكل ما تمثله من جزء جوهري للبنية التحتية. وربما هناك خيارات يجب اتخاذها في تصميم هذه التقنيات كي تمضي قدماً في أخذها لحساسيات المستخدمين بعين الاعتبار.

وينبغي أن تشمل هذه الخيارات أيضاً برامج عمل الأبحاث الخاصة بالذكاء الاصطناعي بحيث تحمل كلمة "ذكي" معنى "مفيداً للكثيرين" بدلاً من أن تعني "منتصراً قبل كل شيء آخر". ليس للتكنولوجيا بالطبع غايات معينة محددة سلفاً، ما يعني أنّ هذه الخيارات والقرارات في الانخراط في نقد التكنولوجيا والابتكار لا تشكّل نوعاً من العدائية للتكنولوجيا، بل هي بالأحرى محاولة بنّاءة يجب أنْ تحدث إذا لم نشأ أن نعلَق في فخّ التكنولوجيا ككفن يلفّنا بدلاً من أن تكون سبيلاً لتحرّرنا.

المحتوى محمي