قبل تفشي فيروس كورونا المستجد وتحوله لجائحةٍ عالمية، لم يكن من المألوف استخدام كلمة "زوم" من أجل إجراء مكالمات الفيديو؛ طوال فترةٍ زمنية امتدت قرابة عقدين من الزمن ارتبط إجراء المكالمات الفيديوية بخدمة سكايب، حتى أنه تم إضافة فعل سكايبينج (Skyping) إلى مصطلح أكسفورد للغة الإنجليزية سنة 2014 للتعبير عن الفعل الهادف لإجراء مكالمة مرئية.
بين ليلةٍ وضحاها، أصبح زوم هو ملك تطبيقات وخدمات المكالمات الفيديوية؛ فقد تطلبت جائحة كورونا وجود خدمات وتطبيقات تسهل إمكانية تنفيذ الأعمال من المنزل، وذلك بسبب ضرورات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. حقق زوم نجاحاً هائلاً خلال فترةٍ زمنية قصيرة، ووصلت قيمته السوقية إلى أكثر من 77 مليار دولار أميركي، متفوقاً على منصات تواصل اجتماعي ضخمة مثل تويتر، كما أن قيمته السوقية تجاوزت القيمة السوقية لأكبر 7 شركات طيران حول العالم مجتمعةً منذ شهر مايو 2020. تصدر زوم أكثر التطبيقات تحميلاً في الولايات المتحدة لفتراتٍ خلال أشهر مارس وأبريل، متفوقاً على العديد من التطبيقات والخدمات واسعة الانتشار، حتى تلك التي تمتلك شعبية كبيرة في الوقت الحاليّ مثل تيك توك.
أصبح لدينا اليوم واقعٌ جديد يتمثل في ظروف عمل جديدة تتضمن قدراً أكبر من التواصل عن بعد واعتماداً متزايداً على الإنترنت وخدمات مكالمات الفيديو التي تسيّدها زوم، مع منافسةٍ من بعض الخدمات والتطبيقات الأخرى. صعود زوم رافقه علامات استفهام حول تراجع سكايب وسبب عدم تحقيقه لنفس النجاح والانتشار الذي حققه زوم.
نجاح زوم: أسباب تتعلق بالتطبيق نفسه
لو أردنا معرفة سبب التفوق الكبير الذي حظي به زوم على حساب تطبيقات مكالمات الفيديو الأخرى، خصوصاً سكايب، فمن الأفضل البدء من السبب الذي أدى لانتشاره الكبير: فرضت جائحة فيروس كورونا الحاجة الكبيرة لوجود وسيلةٍ سهلة وعملية يمكن عبرها إبقاء التواصل بين الأفراد والشركات ضمن أعلى فاعلية ممكنة. هذا يعني أن سرعة إنشاء المكالمة وسهولة الاستخدام تمثل أولوية لكل فردٍ أو جهة ضمن هذا السياق.
تم إطلاق زوم سنة 2011 على يد إيريك يوان، وهو مهندس صيني-أميركي ذو خبرةٍ طويلة في مجال خدمات المكالمات المرئية؛ إذ سبق له أن عمل في شركة ويبكس (WebEx) الشهيرة التي توفر أيضاً خدمات المكالمات الهاتفية بدءاً من سنة 1997، وبقي فيها حتى بعد أن استحوذت سيسكو عليها سنة 2007. بعد أن راكم يوان خبرةً كبيرة في هذا المجال، قرر ترك سيسكو لتأسيس شركته الخاصة المختصة بتقديم خدمات مكالمات الفيديو، وهي زوم.
تم التركيز في زوم منذ البداية على توفير اتصال ذي جودةٍ عالية بالإضافة لسهولة الاستخدام، ونجحت الخدمة عبر سنواتٍ من العمل المتواصل على اكتساب حصةٍ سوقية متزايدة، ولو أن ذلك تم بشكلٍ بطيء وغير متسارع، خصوصاً مع توافر العديد من التطبيقات والخدمات الأخرى من شركاتٍ مختلفة تسعى كلها لاقتلاع أكبر حصةٍ سوقية ممكنة في هذا المجال، أي مجال الاتصال والمكالمات عبر الإنترنت، كما أن سكايب في ذلك الوقت كان لا يزال متسيداً في هذا المجال. لم تمنع هذه الأمور زوم من الاستمرار، وتمكنت الخدمة من تحقيق الأرباح لأول مرة سنة 2019 وهو نفس العام الذي شهد طرح زوم للاكتتاب العام (IPO)، فضلاً عن دخوله مؤشر ناسداك ضمن قائمة أكبر 100 شركة غير متخصصة بالمجال المالي.
مع حلول سنة 2020 وبداية الأنباء عن تفشي فيروس كورونا حول العالم، بدأت الشركات والأفراد بالبحث عن حلولٍ تضمن لهم تحقيق تواصل فعال وناجح لتجاوز المصاعب المرتبطة بضرورة تطبيق إجراءات الحجر الصحيّ، خصوصاً أن ملايين الموظفين حول العالم وجدوا أنفسهم فجأة مضطرين للبقاء في المنزل. وبدءاً من شهر مارس، بدأت الأرقام الخاصة بزوم بالتصاعد بشكلٍ كبير حتى تربع على عرش أكثر التطبيقات تحميلاً في الولايات المتحدة الأميركية، وأصبح الوسيلة الأكثر تفضيلاً لإنجاز مكالمات الفيديو، سواء بالنسبة للشركات أو الجامعات، أو حتى المدارس والأفراد.
لا يتطلب زوم تسجيل اشتراك، كما أنه يوفر العديد من المزايا بشكلٍ مجانيّ، وعلاوةً على ذلك، تتميز واجهته بالسهولة والبساطة والتركيز على الهدف الذي تم إنشاء التطبيق لأجله: تحقيق أعلى كفاءة ووضوح ممكنين من مكالمة الفيديو نفسها. ولكن هل هذه هي الأسباب الوحيدة التي أدت لتحقيق زوم نجاحه الكبير؟ كلا، هنالك بالطبع أسباب أخرى تتعلق بتراجع المنافسين، وعلى رأسهم سكايب.
نجاح زوم: مايكروسوفت تمتلك فضلاً كبيراً في نجاح منافسها
إن كان لنجاح زوم أسباب تعود إلى ميزات التطبيق نفسه، فإن هنالك أسباباً أخرى تتعلق بضعف البدائل المتاحة، أو لنقل: تناقص الثقة فيها من قبل المستخدمين، ومرةً أخرى، فإن التركيز كان على سكايب نظراً لكونه قد مثل يوماً ما الوسيلة الأكثر استخداماً وانتشاراً بين المستخدمين والشركات حول العالم من أجل إجراء مكالمات الفيديو.
استحوذت مايكروسوفت على سكايب سنة 2011 في صفقةٍ ضخمة بلغت 8.6 مليار دولار أميركي، وكان التطبيق آنذاك يمتلك 300 مليون مستخدم نشط شهرياً. ولكن في نفس السنة، تم إطلاق خدمات أخرى تتضمن ميزات المكالمات الفيديوية مثل زوم، فضلاً عن ظهور تطبيق التواصل الاجتماعي سنابشات الذي ساهم في تزايد شعبية تطبيقات مماثلة مثل إنستقرام. وعلى نفس الصعيد، كانت شعبية واتساب (كخدمة محادثة واتصال) في تزايد، ولاحقاً ظهرت تطبيقات محادثة واتصال أخرى مثل تيليجرام وما وفرته من خصائص فريدة تتعلق بالخصوصية.
بهذه الصورة، وجدت مايكروسوفت تزايداً في المنافسة مع سكايب، ومع طرح ميزة مكالمات الفيديو في خدمات المحادثة والاتصال الأخرى (مثل واتساب ومسنجر من فيسبوك)، لم يعد سكايب يتفرد وحده بهذه الخاصية. أول الأخطاء التي ارتكبتها مايكروسوفت هي محاولة استنساخ ميزات التواصل الاجتماعي الموجودة في سنابشات وتضمينها في سكايب وإطلاقه بتصميمٍ جديد ليتشابه أكثر مع منصات التواصل الاجتماعي بدلاً من تطبيقات المحادثة والاتصال، وكان ذلك سنة 2016.
لم يقدم التصميم الجديد لسكايب أي فائدة مرجوة، وقامت مايكروسوفت بإطلاق عدة إصدارات أخرى تتضمن تعديلاً على التصميم؛ ما جعل سكايب يفقد شيئاً من هويته ويجعل مستخدميه في حيرةٍ من أمرهم: هل سكايب خدمة اتصال أم ماذا؟ ولماذا التركيز على تقديم خصائص وميزات لا ترتبط مباشرةً بجودة الاتصال وسهولة تنفيذه؟ للمفارقة، يتضمن سكايب خاصية إجراء مكالمة فيديو عبره دون الحاجة لتحميل التطبيق، ولكن لماذا لم نسمع بها ونستخدمها؟ من المنصف القول بأن اللوم يُلقى على مايكروسوفت التي لم تُعطِ أولويةً لتقديم سكايب على أنه خدمة اتصال ناجحة، بل حاولت إعادة هيكلته وتصميمه لتحاول كسب رضا المستخدمين من خلال استنساخ ميزات شبكات التواصل الاجتماعي.
لم تنتهِ القصة هنا؛ إذ قامت مايكروسوفت لاحقاً في سنة 2017 بإطلاق خدمة تيمز (Microsoft Teams)، لتكون المنصة الخاصة بها التي يمكن استخدامها في مجال تنظيم وإدارة العمل. اشتملت الخدمة على العديد من الميزات والخصائص، ومنها ميزة مكالمات الفيديو، وهو ما جعل سكايب يبدو في موقفٍ غريب: ما سبب وجود سكايب وخدمة سكايب بيزنس المدفوعة والمستخدمة من الشركات إنْ كانت مايكروسوفت نفسها توفر منصة متكاملة تتضمن هذه الخدمات، بالإضافة لخدماتٍ أخرى تتعلق بتنظيم وإدارة الأعمال؟ أتى الجواب بشكلٍ جزئي من مايكروسوفت نفسها التي بدأت منذ سنة 2017 بدفع خدمة تيمز لتحل محل خدمة سكايب بيزنس، وامتد ذلك ليشمل خدمة سكايب نفسها المستخدمة من قِبل الأفراد بشكلٍ مجانيّ، وبدا واضحاً أن مايكروسوفت تتجه لقتل سكايب لصالح مايكروسوفت تيمز، حتى تم تأكيد ذلك بشكلٍ رسميّ عبر مدونةٍ من مايكروسوفت تم نشرها سنة 2019، تم عبرها الإعلان عن إيقاف خدمة سكايب بيزنس في شهر يوليو سنة 2021.
شهدت تطبيقات وخدمات مكالمات الفيديو مثل زوم وسكايب وهاوس بارتي زيادةً في عدد مرات التحميل بين شهري فبراير ومارس من سنة 2020، كنتيجة لتفشي فيروس كورونا وضرورة البقاء في المنزل. حصل زوم على الحصة الأكبر لعدد التحميلات الجديدة مقارنةً مع خدمات مكالمات الفيديو الأخرى.
ما لم يكن في حسبان مايكروسوفت هو جائحة كورونا والحاجة الفجائية لاستخدام خدمة موثوقة. ومع بدء الحجر الصحي وبقاء المستخدمين في المنزل، كان القرار سريعاً بالاعتماد على زوم على حساب سكايب، وبذلك خسرت مايكروسوفت حصة سوقية كبيرة من المستخدمين، وبالرّغم من تزايد عدد مستخدمي سكايب وخدمة مايكروسوفت تيمز حول العالم بشكلٍ ملحوظ بعد تفشي فيروس كورونا، إلا أنها لا تقارن بالأرقام التي حققها زوم، خصوصاً أنه يمكن استخدام زوم من قِبل الشركات والأفراد والمؤسسات على حد سواء، في حين أن مايكروسوفت عند بدء جائحة كورونا امتلكت ثلاث خدماتٍ مختلفة: تطبيق سكايب التقليدي لكل المستخدمين، خدمة سكايب بيزنس للشركات وخدمة مايكروسوفت تيمز. سيكون من السهل جداً اختيار زوم بهذه الحالة كونه منصة واحدة تلبي حاجات مختلف أنواع المستخدمين، بدلاً من الحاجة لاختيار خدمة معينة من مايكروسوفت بحسب مجال وغرض الاستخدام.
حاولت مايكروسوفت تعزيز موقع سكايب والاستحواذ على حصةٍ أكبر، وقامت باستنساخ أحد أبرز ميزات زوم وهي عدم الحاجة لامتلاك حسابٍ رسميّ على سكايب أو تحميله من أجل إجراء مكالمات فيديو، وهي الخدمة التي تم تسميتها (Meet Now)، ولكن ذلك لم يؤثر بشكلٍ كبير على زيادة عدد مستخدمي سكايب أو إيقاف النمو المتسارع لزوم، خصوصاً مع الصورة الرمادية التي ارتسمت في ذهن المستخدمين حول سكايب نتيجة لسنواتٍ من التعديلات والتحديثات غير الضرورية، وظهور زوم كبديلٍ فعال بسيط وسهل الاستخدام.
في حين أن خدمة سكايب بيزنس ستختفي تماماً منتصف 2021 لصالح مايكروسوفت تيمز، فمن المرجح أن تبقى خدمة سكايب التقليدية على قيد الحياة فترةً زمنية معقولة -إن لم تقرر مايكروسوفت اتخاذ خطوةٍ مخالفة. لا يزال سكايب أحد أشهر خدمات مكالمات الفيديو، وبالرّغم من النجاح الهائل لزوم إلا أن الخدمة تمكنت من تحقيق زيادة في عدد التحميلات والمستخدمين النشطين خلال جائحة كورونا. على ضوء هذه المعطيات، سيكون من الجيد لو قررت مايكروسوفت العودة للجذور وطرح سكايب من جديد بناءً على الميزات التي سببت شهرته في المقام الأول: منصة محادثات ومكالمات ذات جودة اتصال عالية مع قابلية استخدام سهل وبسيط.