جهود قطر للتميز العلمي على مستوى المنطقة والعالم

7 دقيقة
حقوق الصورة: مؤسسة قطر

الملخص: على مدار أكثر من 500 عام، حقق العلماء العرب إنجازات علمية بارزة في مجالات متعددة، مثل حساب طول السنة الشمسية وتأسيس علم الجبر. لكن مع تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بدأت "هجرة العقول" حيث هاجر العديد من العلماء العرب بحثاً عن فرص أفضل، ما أدى إلى تراجع إسهام العالم العربي في التقدم العلمي. تأسست "رابطة العلماء العرب" قبل نحو عقدين كجزء من مبادرة "شبكة العلماء العرب المغتربين" التي أطلقتها مؤسسة قطر عام 2006 لتعزيز التعاون بين العلماء العرب في الخارج وقطر. تضم الرابطة 5000 عضو وتسعى للاستفادة من البنية التحتية البحثية المتطورة في قطر لجذب الباحثين المتميزين. كما أسهمت في إنشاء ثلاثة مراكز بحثية متخصصة في الحوسبة والبيئة والطاقة والطب الحيوي. الآن، بعد 18 عاماً، تبدأ هذه المبادرة فصلاً جديداً يهدف إلى تحويل الخسائر إلى مكاسب علمية لصالح المنطقة.

أنشأت مؤسسة قطر منصة رابطة العلماء العرب سعياً منها للنهوض بالعلوم واستقطاب العقول

على مدار أكثر من 500 عام، بداية من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، حقّق العلماء العرب إنجازاتٍ علمية بارزة أسفرت عن تغيير مسار التاريخ البشري، مثل حساب طول السنة الشمسية، والأسباب الحقيقية لأمراض الجدري والحصبة والسل، ومفهوم الأعداد غير النسبية، والهندسة التحليلية، وتأسيس علم الجبر وعلم حساب المثلثات، الأمر الذي أحدث ثورة علمية هائلة امتد تأثيرها إلى عصرنا هذا.

ولكن، وبعد فترة وجيزة من الزمن، بدأت المنطقة العربية تشهد نزوحاً ملحوظاً لأصحاب الكفاءات والمهارات إلى الخارج، وهو ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ "هجرة العقول"، حيث دفع تزعزع الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وتراجع البحوث العلمية، ونقص التمويل، بالعلماء والمفكرين العرب إلى الهجرة إلى الخارج بحثاً عن ظروف وفرص أفضل. وسرعان ما بدأ إسهام العالم العربي في التقدم العلمي والتكنولوجي ينضب، حيث خسر أهم أصوله وأكثرها قيمة، وهو رأس المال البشري والاختراعات التي يولدها، لصالح دول ومناطق أخرى.

ترجع جذور "رابطة العلماء العرب" إلى نحو عقدين من الزمن، حينما انبثقت فكرتها عن "شبكة العلماء العرب المغتربين" التي أنشأتها مؤسسة قطر عام 2006 كإحدى مبادراتها التي تهدف إلى تعزيز التعاون وتبادل المعرفة من خلال ربط العلماء العرب المقيمين في الخارج بقطر والمنطقة الأوسع، وهي منصة تضم 5000 عضو من علماء العرب حول العالم، وتسعى مؤسسة قطر من خلالها إلى تحويل الخسارة إلى ربح، وذلك بواسطة الاستفادة من البنية التحتية البحثية التي أسستها سابقاً، مثل المختبرات المجهزة بالكامل، واستقطاب الباحثين الرائدين والمعروفين على مستوى العالم، وكذلك إنشاء نظام بيئي تعليمي متكامل، فضلاً عن فرص التمويل التي أتاحتها، كما مكّنت "شبكة العلماء العرب المغتربين" الباحثين والخبراء في المنطقة العربية من التعاون وتوحيد جهودهم لصالح قطر والمنطقة بأكملها. وكذلك أدّت دوراً حاسماً في إنشاء ثلاثة مراكز بحثية مقرها مؤسسة قطر وتختص في الحوسبة، والبيئة والطاقة، والطب الحيوي.

والآن، بعد مرور 18 عاماً، تبدأ هذه المبادرة فصلاً جديداً يحمل اسم: "رابطة العلماء العرب".

تمكين العقول

ربما تغير اسمها، وتوسع نطاق أعمالها، لكن بقي الهدف الأساسي لرابطة العلماء العرب على حاله، وهو إطلاق منصة تفاعلية متكاملة تقدم للأعضاء مجموعة كبيرة من الفرص المشتركة وتربطهم بالمنظومة المعرفية في مؤسسة قطر. ومن خلال إطلاق هذه المنصة، فإن الرابطة تدرك أن المسافات والحدود الجغرافية لم تعد تشكّل عائقاً أمام تقارب وتعاون الخبرات العربية، وإنشاء مركز معرفي يُلهم الأجيال الحالية والمستقبلية، وذلك لتطوير حلول لمعالجة التحديات الإقليمية.

تبوأت "رابطة العلماء العرب" مكانتها الرائدة كونها مجتمعاً يركّز على الابتكار ويعزّز العلاقات وأواصر التعاون، وهذا ما انعكس في نوفمبر/تشرين الثاني، عندما عقدت جامعة حمد بن خليفة التابعة لمؤسسة قطر اللقاء السنوي "لرابطة العلماء العرب"، والذي جمع خبراء عرب مرموقين دولياً ومحلياً في المجالات العلمية والاجتماعية في الشرق الأوسط ودول العالم. 

وقد ركّز اللقاء على مجالات ذات أهمية محلية وإقليمية وعالمية، مثل الرعاية الصحية الدقيقة، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والاستدامة، والصحة البيئية، كما وفّر فرصاً لتبادل وجهات النظر والأفكار المتعددة بين العلماء وصُنّاع السياسات.

ومن شأن هذه المنصة أن تعمل كقاعدة بيانات واسعة تضم علماء عرب من أنحاء العالم كافة. وتعزّز العلاقات وأواصر التعاون بين العلماء العرب والمعاهد البحثية والجامعات والشركاء في القطاع الصناعي للنهوض بالعلوم، والبحوث، والتطوير، والابتكار، ومشاريع بناء الكفاءات في دولة قطر، بالإضافة إلى تسليط الضوء على المبادرات والفرص الجديدة، ومناقشة أفضل السُبل لحل التحديات الإقليمية التي ستوفّر المنصة نافذة عليها.

وتعتبر المنصة مساحة تفاعلية وملهمة، وبوابة للعديد من الفرص التعاونية، مثل المشاريع البحثية والتبادل الأكاديمي والطلابي وأنشطة التنمية المهنية، كما تجسّد الجوهر الأساسي لرابطة العلماء العرب، وهو أن الحدود والفضاءات لم تعد تشكّل عائقاً أمام التدفق المعرفي في عالمنا اليوم، الذي يمثّل امتداداً لإرث العصر الذهبي للعرب، الأمر الذي يُلهم الأجيال الحالية والمستقبلية لريادة حلول عربية للتحديات العالمية والإقليمية.

كما أكدت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر: "سنعمل على استثمار التكنولوجيا في استنباط أساليب جديدة ومحفِّزة على تفعيل التعاون لنرتقي به إلى المستوى الذي يسهّل على الجميع الإسهام في جعل منطقتنا العربية أكثر قدرة في التغلّب على تحديات القرن الحادي والعشرين".

مواجهة التحديات

انضم نحو 900 باحث عربي، يعمل العديد منهم مع بعض من أبرز الكيانات في القطاعين العام والخاص في العالم، بما في ذلك شركة GE HealthCare، ومؤسسة Humanitarian Tracker، وPfizer، إلى رابطة العلماء العرب التي تركّز على الابتكار، إلى جانب باحثين من منظمات رئيسية موجهة نحو الأبحاث داخل قطر وخارجها.

خلال اللقاء السنوي، شارك الباحثون في جلسات نقاشية تناولت العديد من القضايا، مثل الدور الذي يجب أن يؤديه المفكرون العرب في صياغة نهضة علمية عربية، سواء كان ذلك من خلال وجهة نظر تعليمية أو تكنولوجية أو اجتماعية أو اقتصادية، بالإضافة إلى تداول آخر المستجدات في مجالات الذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي التوليدي، والوسائل التي يمكن أن يقدّمها المفكرون والمتخصصون العرب في التعامل مع المجتمعات المتضررة من النزاعات وكيفية إعادة بنائها.

وتعليقاً على مشاركتها في اللقاء السنوي لرابطة العلماء العرب، قالت الدكتورة دينا القتابي، مديرة مركز الشبكات اللاسلكية والحوسبة المتنقلة التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية، وهي عالمة حاسوب صنفتها مجلة فوربس ضمن المهندسات الأكثر تأثيراً في العالم: "على الرغم من أن التحديات التي تواجه العالم العربي كبيرة، فإنها ليست مستعصية على الحل. ويتطلب كل منها استجابة عربية متخصصة تضع في أولويتها فهماً عميقاً من منظور إقليمي للمشاكل الراهنة، بالإضافة إلى تعاون الأكاديميين والعلماء والشركاء في القطاع الصناعي معاً لرسم مستقبل واعد للمنطقة. وإن رابطة العلماء العرب في وضع مثالي لتيسير مثل هذه المبادرات وتمكينها، وتحويل العقبات إلى فرص".  

ومن خلال مُسماها الجديد والهدف السامي الذي أُنشئت من أجله، تدعو الرابطة العلماء والمنظمات العربية ممن هم قادرون على المساهمة في تحقيق أهدافها إلى الانضمام لمنصة رابطة العلماء العرب، وأن يكونوا جزءاً من مجتمع معرفي متنامٍ يُركز على إحداث التأثير الاجتماعي والاقتصادي الإيجابي.

الشعور بالانتماء

في حين أنه لم يكن يتوقع يوماً مغادرة الولايات المتحدة الأميركية، انضم الدكتور أحمد المقرمد إلى هذه الرابطة، وهو يقيم الآن في قطر، بصفته المدير التنفيذي لمعهد قطر لبحوث الحوسبة، أحد المراكز البحثية الثلاثة التابعة لجامعة حمد بن خليفة وعضو في مؤسسة قطر، والتي لعبت شبكة العلماء العرب المغتربين دوراً محورياً في إنشائه قبل عقود من الزمن.

انتقل الدكتور المقرمد إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يكمل ربيعه الثامن عشر، بعد حصوله على منحة لاستكمال دراسته الجامعية، ليشرع في رحلة أكاديمية ومهنية مرموقة، وبقي الأمر على حاله إلى أن تلقى اتصالاً هاتفياً من مؤسسة قطر أفضى به إلى تغيير مسار حياته بالكامل، إلى حدٍّ جعله يقول: "شعرتُ بكل بساطة أن مكاني هو في قطر".

كان الاتصال الهاتفي عبارة عن دعوة إلى الدكتور المقرمد إلى زيارة قطر والمساهمة في البنية البحثية والثقافية التي كانت مؤسسة قطر تستعد لبنائها لتحقيق نهضة علمية في قطر وبلدان المنطقة.

وبشأن هذا الاتصال، يقول الدكتور المقرمد: "كان بمثابة لحظة محورية. وقد لقيت رؤية مؤسسة قطر الرامية إلى ترميم بيت الحكمة واستعادة التراث الإسلامي في العلوم، صدىً عميقاً في داخلي". 

عزّز وجود الدكتور المقرمد مكانة المعهد وأسهم في إطلاق ونشر أبحاث علمية رائدة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتقنيات اللغة العربية، وتطوير تكنولوجيا المعلومات. كما قاد المعهد استراتيجية قطر الوطنية للذكاء الاصطناعي وأسهم في إنشاء الوكالة الوطنية للأمن السيبراني. هذه ليست سوى لمحة عن كيفية توفير العالم العربي فرصاً كبيرة للعلماء العرب لقيادة الابتكار في هذا المجال التكنولوجي الذي يغيّر قواعد اللعبة، وفي ظل إعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي للمشهد العالمي.

حين سُئل الدكتور المقرمد عن سبب اتخاذه القرار ببدء مسيرته المهنية والاستقرار في البلاد، أجاب: "ولماذا استبعاد قطر"؟

وأضاف: "يظهر معهد قطر لبحوث الحوسبة وجامعة حمد بن خليفة ومؤسسة قطر نجاحاً وتطوراً ملحوظاً منذ بداياتهم عام 2006. هذا التقدم يشمل إنشاء معاهد وجامعات تُسهم في تعزيز البحث والتطوير وتشجيع الابتكار، ما يبعث على التفاؤل بمستقبل علمي واعد في المنطقة وعلى الصعيدين الوطني والدولي". 

كان ولا يزال الشغف والابتكار والالتزام بدعم تقدم قطر على الصعيد العالمي، عناصر تقود رحلة الدكتور أحمد المقرمد، وهي رحلة يأمل في أن يتوقف عندها الخريجون العرب الذين يرغبون في تشكيل حياتهم المهنية في مجال العلوم، حيث يوصيهم: "اتبعوا شغفكم، واحرصوا على التفوق في مجالكم، وأبقوا على صلة مع جذوركم". 

إحداث التغيير

وبالخُطا نفسها التي تسير بها نحو الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، استطاعت قطر قطع مشوار طويل أيضاً في مجال الاستدامة، بما في ذلك الطاقة المتجددة والشبكات الذكية. حيث يُعتبر الدكتور هيثم أبو الرب أحد العلماء الذين لمع اسمهم في هذا المجال.

يعمل الدكتور هيثم أبو الرب أستاذاً في برنامج هندسة الكهرباء والحاسوب في جامعة تكساس إي أند أم في قطر، إحدى الجامعات الشريكة لمؤسسة قطر، والمدير الإداري للمحطة الهندسية الاختبارية التابعة لمركز الشبكة الذكية في الجامعة، كما يعمل في المجال الأكاديمي ومجال البحث العلمي في عدة دول منها بولندا وألمانيا وأميركا وبريطانيا وفلسطين، حتى وصل إلى قطر عام 2006.

يرى الدكتور أبو الرب أن أمن الطاقة "له تأثير كبير في الوضع الجيوسياسي العالمي"، ويتجلى ذلك من خلال استخدام الطاقة سلاحاً في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ويشعر بأن قطر هي المكان المثالي للعلماء العرب لمواصلة عملهم في هذا المجال.

وبهذا السياق، يقول الدكتور أبو الرب: "لطالما كانت قطر رائدة في استقطاب العلماء العرب، فهي تتميز بالإمكانات العلمية التي تنافس تلك المتوفرة في البلدان المتقدمة، وأصبحت المكان المثالي بالنسبة لي ولأسرتي، كما أن مقوّمات النجاح موجودة كلّها هنا". 

أصبح مركز الشبكات الذكية في جامعة تكساس أي أند أم، وهو فرع من مركز الشبكات الذكية في الولايات المتحدة الأميركية في جامعة تكساس الأم معروفاً عالمياً، كما تحدث الدكتور أبو الرب عن التحديات التي تواجه استقطاب العلماء العرب المهاجرين، وأهمية تعزيز الروابط بين العلماء العرب ومنطقتهم، وهو ما عبّر عنه بقوله: "ليس لدي أدنى شك بانتماء العرب إلى وطنهم العربي، وخروجهم من دولهم هو بسبب بحثهم عن فرصٍ أفضل، وحلم الكثير منهم هو العودة إلى وطننا العربي في حال توفرت الفرص والمناخ المناسب". 

وأضاف: "الفرص موجودة، وقطر أكبر مثالٍ على ذلك، وإلى جانب النجاح والتطوير، نجد نوعية الحياة والأمان الذي ننعم به". 

أشار الدكتور أبو الرب أيضاً إلى التحديات المتمثلة في استدامة الدعم المقدّم للبحث العلمي، قائلاً: "هناك نجاحات كثيرة، ومع الأسف لا يُستغل الكثير منها. عند تبنّي هذه المواهب وتمكينها لتثبت نفسها، يجب أن نحرص أيضاً على استمرارية هذا الدعم، بحيث لا يقتصر على التعليم والأبحاث فقط، بل دعم مخرجات هذه الأبحاث لتصل إلى الصناعة وتتحوّل إلى تكنولوجيا". 

واختتم حديثه قائلاً: "يجب ألّا يقتصر دور العلماء على التدريس ونقل المعرفة، بل كذلك البحث العلمي المتقدّم، حيث لا تقتصر الاستمرارية في إنجاز مشروع معين، بل ما بعد ذلك، من خلال وضع آلية لتوفير الدعم لما بعد المشروع وكيفية نقل هذه الأبحاث إلى الصناعة. بذلك نضمن ليس فقط استقطاب الخبرات والكفاءات بل أيضاً استمراريتها في دولنا العربية". 

هل بإمكاننا أن نعيد إحياء عصر النهضة العربية التي بدأت قبل 14 قرناً وتشكيلها لتتكيف ومتطلبات اليوم؟ هذا هو الأمل، ويبدو أنه يقترب.

المحتوى محمي