أعلنت الحكومة الكورية الجنوبية في وقت سابق من هذا العام عن خطط لضخ 224 مليار وون كوري (نحو 200 مليون دولار) من أجل إنشاء نظام بيئي محلي لتكنولوجيا الميتافيرس. وستُمنح الأموال في شكل منح للجامعات والشركات الخاصة العاملة في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك بناء منصات الميتافيرس والتعليم وتطوير الواقع الافتراضي والواقع المعزز وتكنولوجيا الهولوغرام.
والهدف وفقاً لوزارة العلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الكورية الجنوبية هو المساعدة في تثقيف وتدريب نحو 40,000 متخصص في مجال الميتافيرس في البلاد، وتعزيز قدرات أكثر من 200 شركة تعمل في هذا المجال، من أجل تحويل البلاد إلى خامس أكبر سوق لتكنولوجيا الميتافيرس من حيث عدد المستخدمين بحلول العام 2026.
ويعتبر التمويل جزءاً أساسياً من خطة جديدة طموحة تسمى "الصفقة الرقمية الجديدة" -وهي مبادرة وطنية تهدف إلى مساعدة صناعة التكنولوجيا في البلاد على التوسع- والتي بدأت في عهد الرئيس الكوري السابق "مون جاي إن" من خلال ضخ ما يصل إلى 8.7 مليار دولار في مجموعة متنوعة من المبادرات التقنية الناشئة، حيث تأمل الحكومة الكورية الجنوبية في إنشاء ما يقرب من مليوني وظيفة جديدة.
اقرأ أيضاً: أول مذيعة افتراضية تظهر على الشاشة في كوريا الجنوبية
دعم قوي من الحكومة الجديدة
لا يعتبر توجه الحكومة الكورية الجنوبية للتركيز على تكنولوجيا الميتافيرس مفاجئاً بالنظر إلى وضعها كقوة اقتصادية كبرى لديها العديد من الشركات العالمية التي غزت العالم بالفعل، حيث أن اعتمادها المبكر على شبكات اتصال النطاق العريض منذ تسعينيات القرن الماضي أنشأ ثقافة إنترنت ديناميكية وشعباً يتمتع بدرجة عالية من المهارة في استخدام التكنولوجيا، فقد أصبح معتاداً على لعب الألعاب عبر الإنترنت والترفيه الافتراضي.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور "سانغكيون كيم" الأستاذ في جامعة "كيونغ هي" (Kyung Hee) وصاحب العديد من المؤلفات حول تكنولوجيا الميتافيرس: "طورت كوريا الجنوبية صناعاتها في وقت قصير جداً بعد الحرب الكورية، ونتيجة لذلك اعتاد الكوريون الجنوبيون على التغيير من أجل النمو، حيث تشترك الحكومة والشركات في تطوير الميتافيرس ويعتبرون أنه ينبغي عليهم السيطرة على المنصة والمحتوى، وليس فقط صناعة الأجهزة".
ريادة الدولة التكنولوجية وتشجيعها عامل مهم للنجاح
بحسب العديد من المراقبين، فإن ما يساعد الحكومة على تحقيق رؤيتها وجعل طموحاتها أكثر واقعية هو قوتها في مجال تصنيع الأجهزة اللازمة للوصول إلى منصات الميتافيرس، بما في ذلك الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب ونظارات الواقع الافتراضي والمعزز، والتي تضع أساساً قوياً لتحقيق هذا الطموح، بالإضافة إلى ريادة الدولة في قطاع صناعة أشباه الموصلات والتي تمثل أكبر صادراتها، حيث بلغت 10.9 مليار دولار خلال عام 2022 بزيادة 24% عن شهر يناير 2021.
كما أن السياسيين -الحكومة والمعارضة معاً- يدعمون بشدة إنشاء عوالم الميتافيرس، حيث بدأت خطة استثمارها في هذا المجال منذ عهد رئيس الوزراء السابق. والآن وفقاً للمهام الوطنية –110 مهمة- التي أعلن عنها رئيس الوزراء الذي تم تنصيبه حديثاً فإن هناك 10 منها تتعلق بتكنولوجيا الميتافيرس، حيث تخطط الحكومة لتنشيط هذا القطاع من خلال سن قوانين مرتبطة بالميتافيرس وتطوير خدماتها لدعم الأنشطة الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: هل يمكنك حقاً امتلاك أراضٍ ومبانٍ في عالم الميتافيرس الافتراضي؟
كيف تخطط الحكومة الكورية الجنوبية لاستخدام الميتافيرس؟
تتراوح القائمة الواسعة لحالات الاستخدام المحتملة لتكنولوجيا الميتافيرس التي حددتها الحكومة الكورية الجنوبية من الاستخدامات العادية، مثل الوصول إلى الخدمات البلدية في سيول والتعليم، إلى الأكثر إثارة مثل السياحة الافتراضية والأحداث الثقافية.
على سبيل المثال أعلنت الحكومة عن مشروع "ميتافيرس سيول" (Metaverse Seoul) لربط العاصمة افتراضياً، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي:
- تسهيل تواصل المواطنين مع الخدمات الحكومية ومع بعضهم بعضاً.
- التغلب على قيود الوقت والمكان واللغة.
- استكشاف طرق جديدة لتحسين تجربة المستخدم ورضاه.
وتتمثل الرؤية طويلة المدى للمشروع في إضافة دعم لخدمات تطوير الأعمال والتعليم ودعم خدمات المدينة لتقديم الشكاوى والاستعلام عن العقارات وتسديد الضرائب، وتعزيز الوصول إلى خدمات المدينة المختلفة، كما تأمل الحكومة في تشغيل المشروع كخدمة مفتوحة ومجانية للمواطنين.
وسيُسهِل توسيع الخدمات التي تستفيد من تكنولوجيا التوائم الرقمية ثلاثية الأبعاد في تحسين الوصول إلى لقطات الأمان المحلية والإبلاغ عن الحرائق وتحسين البنية التحتية العامة، حيث توفر خدمة "إس ماب" (S-Map) بالفعل توأماً رقمياً للتخطيط الحضري ومراقبة الحرائق في الوقت الفعلي وتحليل مسار الرياح.
كما تعمل خدمة أمان أخرى تسمى "أنسيمي آب" (Ansimi App) على توصيل المستخدمين بخدمات شرطة المدينة، والذين يمكنهم الاستفادة من بيانات الموقع المحلية ومقاطع الفيديو لمنع أو تسريع التحقيقات في الجرائم، كما سيوفر المشروع أيضاً مساحات عمل مشتركة افتراضية للسماح للمواطنين بالعمل عن بُعد كما لو كانوا يعملون في مكتب حقيقي.
اقرأ أيضاً: الحب في زمن الميتافيرس: كيف سيغير هذا العالم الافتراضي مستقبل تطبيقات المواعدة؟
الشركات الناشئة لديها دور أيضاً
لا يقتصر العمل على الاستفادة من تكنولوجيا الميتافيرس على الحكومة الكورية الجنوبية فقط، بل تعمل العديد من الشركات في جميع أنحاء البلاد على تطوير منصات ميتافيرس خاصة بها، مثل "مجموعة لوت" (Lotte Group) للبيع بالتجزئة التي تخطط لإطلاق منصة تسوق في الميتافيرس في وقت مبكر من الربع الثاني من هذا العام، حيث يمكن للمستهلكين شراء المنتجات من خلال المتاجر الافتراضية.
ولا تتوقف طموحات قطاع التجزئة العملاق على التسوق فقط، حيث بدأت تضاعف جهودها للتفرع في عوالم الميتافيرس، من خلال إنشاء نسخة افتراضية طبق الأصل من منتزه "لوت وورلد" (Lotte World) الترفيهي الشهير التابع لها في عام 2021، ليتمكن الزوار من جميع أنحاء العالم من التجول في مدينة الملاهي واستكشافها باستخدام صورهم الرمزية.
كما تعمل شركة "زيغ بانغ" (Zigbang) الكورية الجنوبية، على إطلاق منصة ميتافيرس عالمية تتيح تفاعلاً افتراضياً بين الموظفين العاملين لدى الشركات بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية. والهدف الأساسي هو السماح بالعمل التعاوني والتواصل النشط بين الموظفين في مساحة المكتب الافتراضية، مع الاستمرار في الحفاظ على أسلوب العمل من المنزل. المنصة عبارة عن مبنى افتراضي يتكون من 30 طابقاً و42 مركزاً للمؤتمرات يضم 500 مقعداً وست قاعات حيث يمكن للشركات عقد الأحداث فيها، ويمكن لكل شركة تزيين مكاتبها بحسب رغبتها. وسيتم منح حق الوصول للموظفين المسجلين في الشركات التي تنضم للمنصة فقط.
اقرأ أيضاً: ما هي الإمكانات التي يقدمها عالم الميتافيرس في مجال التعليم؟
التحديات التي تواجه الحكومة لتطوير الميتافيرس
في حين أن الحكومة الكورية الجنوبية والشركات الخاصة على حد سواء تبدو متحمسة للغاية بشأن مشاريع الميتافيرس، إلا أن الحماس لا يُترجم دائماً إلى النجاح. على سبيل المثال أعلنت الحكومة في عام 2019 أن مدينة "بوسان" (Busan) –ثاني أكبر المدن كثافة سكانية- ستكون "مدينة البلوك تشين"، بحيث يمكن للشركات الناشئة اختبار أفكار جديدة مدعومة بتكنولوجيا البلوك تشين دون الحاجة إلى القلق بشأن اللوائح، حيث تأمل الحكومة في ترسيخ مكانة المدينة كمركز للابتكار في مجال التشفير.
ومع ذلك كانت النتائج مخيبة للآمال، حيث أشار تقرير صادر عن معهد أبحاث بوسان في عام 2020 بعد عام من إطلاق المشروع إلى أن الغالبية العظمى من الشركات في المدينة ليس لديها خطط لدمج تكنولوجيا البلوك تشين في أعمالها، وقد صرحت 62% منها بأنها لا تعرف شيئاً عن هذه التكنولوجيا الجديدة. ووفقاً للخبراء فهذا يعود إلى سببين رئيسيين:
- أولاً: في كوريا الجنوبية -باستثناء العاصمة سيول- هناك عدد قليل من الأماكن التي يتم فيها تطوير صناعات عالية التكنولوجيا، حيث تتطلب تكنولوجيا الميتافيرس والبلوك تشين الكثير من القوى العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وليس من السهل توفير مثل هذه القوى العاملة في المدن المحلية.
- ثانياً: لم تكن نماذج الأعمال التي اقترحتها الشركات التي تسعى إلى الاستفادة من المبادرة مختلفة بشكل كبير عن نماذج الأعمال التي تطبقها الشركات الحالية.