يعتبر نهر الكونغو ثاني أكبر نظام نهري بعد الأمازون، ويعتمد عليه أكثر من 75 مليون شخص للغذاء والماء، إضافة إلى آلاف الأنواع من النباتات والحيوانات التي تعيش في المستنقعات والأراضي الخثية التي يرويها. كما تقوم الغابة المطيرة الهائلة الممتدة حول منطقته الوسطى بالمساعدة على تنظيم النظام المناخي لكوكب الأرض بأسره. غير أن كمية المياه في هذا النظام ما زالت غير معروفة.
يعتمد علماء المياه والمناخ على محطات المراقبة لتتبع النهر وما يتصل به من مسطحات مائية أخرى أثناء تدفقها وركودها عبر ست بلدان مختلفة، ولقياس نسب الهطول. ولكن الشبكة الضخمة التي وصلت في مرحلة ما إلى 400 محطة تضاءلت إلى 15 محطة وحسب، ما يزيد من صعوبة تحديد تأثير التغير المناخي على أهم أحواض الأنهار الإفريقية.
الموارد المائية وفجوة البيانات
يقول بنجامين كيتامبو، وهو جيولوجي في مركز أبحاث الموارد المائية لحوض الكونغو في كينشاسا بجمهورية الكونغو الديمقراطية: "حتى نتخذ الإجراءات المناسبة، يجب أن نعرف كل المعلومات المتعلقة بمواردنا المائية، ولكننا لا نستطيع معرفة شيء لا يمكن قياسه".
يعمل الباحثون من جميع أنحاء العالم، وعلى نحو متزايد، على ملء فجوات البيانات على الأرض باستخدام معلومات جُمعت من الفضاء. وتستطيع الأقمار الاصطناعية المزودة بأنظمة الاستشعار عن بعد أن تسلط أنظارها على أماكن حيث القياسات المباشرة، أي المأخوذة في المكان، قديمة، أو صعبة، أو محفوظة بمعزل عن الجميع.
تحدث كيتامبو معي باتصال مرئي من تولوز بفرنسا، حيث يجري بحث الدكتوراه في مختبر الدراسات في الجيوفيزياء وعلوم المحيطات الفضائية. ويعمل حالياً على تحليل كميات ضخمة من قياسات الأقمار الاصطناعية والنماذج المائية في محاولة لفهم تغيرات روافد نهر الكونغو وأراضيه الرطبة وخزاناته. ويتضمن هذا دراسة سجلات من أكثر من 2,300 محطة قياس "افتراضية"، والتي تقوم بتقدير قياسين هامين عبر مناطق الحوض: "ارتفاع سطح الماء" أي مستوى الماء فوق نقطة مرجعية معينة، و"امتداد سطح الماء".
ويقول إن معظم البيانات الميدانية في المنطقة تعود إلى ما قبل العام 1950، أي العام الذي حصلت فيه معظم بلدان المنطقة على استقلالها من المحتلين الأوروبيين. ومنذ ذلك الحين، تراجعت الأبحاث هناك بحدة، وتبين أن جمع البيانات حول المياه السطحية أمر صعب.
منذ نحو خمس سنوات، بدأ مركز أبحاث حوض الكونغو بتركيب شبكة من محطات مراقبة المياه لتعويض "النقص الحاد في المعرفة الأساسية" حول القنوات الأساسية الصالحة للملاحة في النهر، والتي غالباً ما تلعب دور الطرقات. ولكن بعض الأماكن في الحوض الضخم كانت بعيدة أو وعرة لدرجة تمنع الباحثين من الوصول إليها. وفي أماكن أخرى، قام السكان بإزالة المعدات التي رُكبت حديثاً لبيع قطعها وموادها، أو لخشيتهم من تعرضهم إلى التجسس.
اقرأ أيضاً: الهجرة بسبب تغير المناخ تدق ناقوس أخطار مستقبلية كبرى
الأقمار الاصطناعية تساعد في جمع المعلومات عن كميات المياه العذبة
وتظهر مشاكل مماثلة في كافة أنحاء العالم، فقد شهدت بلدان أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي "تراجعاً حاداً" في القياسات الأرضية منذ الثمانينيات، وذلك وفقاً لتقييم نُشر في العام 2018 في مجلة "Water Resources Research". أما حوض نهر ميكونغ فيمتد على ست دول من الصين إلى فيتنام، وهي دول تحمي بياناتها حول كميات المياه بحرص، على فرض قيامها بجمعها في المقام الأول.
ولكن الخبراء يقولون إن قياس كميات الماء أمر هام في مساعدة الناس على الاستعداد للكوارث الطبيعية والتكيف مع التغير المناخي. فمن المتوقع أن يؤدي ارتفاع الحرارة العالمية إلى زيادة خطر العواصف والفيضانات الفجائية في بعض المناطق، والجفاف الحاد في مناطق أخرى. وفي هذه الأثناء، فإن مشاريع البنى التحتية الضخمة وعمليات التطوير الحضري واسعة الانتشار تؤدي إلى تغيير موارد المياه العذبة، مثل الأنهار والبحيرات، والضغط عليها.
وبالتالي، فإن الحاجة إلى هذه المعرفة أدت إلى سلسلة من المبادرات البحثية الطموحة التي تعتمد بدرجة أكبر على أدوات الاستشعار عن بعد. ومع تطور تكنولوجيات جمع المعلومات من الفضاء وتحليلها، قد بدأ العلماء ببناء تصور واضح حول تدفق المياه عبر الأرض ودورانه في الغلاف الجوي.
تقوم الأقمار الاصطناعية التي تراقب سطح الأرض بقياس ومسح المياه باستخدام المستشعرات البصرية والرادارية. حيث تقوم المستشعرات البصرية بتشكيل صور للمسطحات المائية بكشف الإشعاع الشمسي الذي ينعكس من الأهداف على الأرض. ويقوم أحد أشكال الاستشعار بالرادار، والمسمى برادار الفتحة الاصطناعية، بقياس امتداد وارتفاع سطح الماء ببث نبضات من الأمواج الميكروية نحو الكوكب ومن ثم قياس مستوى الطاقة التي تنعكس عائدة إلى المركبة الفضائية، إضافة إلى الوقت الذي تستغرقه عودة الإشارة إلى الأرض. وعلى عكس المستشعرات البصرية، يستطيع الرادار اختراق السحب والعمل ليلاً.
بعد ذلك، يستطيع العلماء جمع معلومات هذه العمليات لدراسة كيفية تغير الموارد المائية مع مرور الوقت. فقد اعتمدت إحدى الدراسات على 30 سنة من صور الأقمار الاصطناعية المُلتقطة في إطار برنامج لاندسات في ناسا، ووجدت أن الماء انتقل بصورة كبيرة عبر سطح الأرض بسبب الحركة الطبيعية للأنهار، وعوامل التدخل البشري مثل السدود والري. فقد غطى الماء نحو 114,000 كيلومتراً مربعاً من الأراضي، على حين تحولت مساحة 174,000 تقريباً من المياه إلى يابسة، وذلك كما أورد باحثون في معهد ديلتاريس الهولندي للأبحاث في ورقة بحثية تعود إلى العام 2016.
ولكن، وعلى الرغم من كافة التكنولوجيات المتاحة حالياً للاستشعار عن بعد، فإن عدد مسطحات المياه العذبة الخاضعة لمراقبة دقيقة لارتفاع الماء فيها قليل إلى درجة تبعث على المفاجأة، حيث تركز أغلبية الأقمار الاصطناعية الرادارية الموجودة حالياً على المحيطات والكتل الجليدية. وحتى الآن، فإن نسبة الإنجاز لأي قمر اصطناعي إفرادي في قياس أكبر أنهار العالم لا تتجاوز 5 إلى 10% منها، وتصل النسبة إلى 15% فقط بالنسبة لدراسة تغيرات مخزون الماء في بحيرات العالم، وفقاً لناسا.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن نمنع تلوث الماء؟
تعاون دولي في جمع المعلومات
وحالياً، يعمل مختبر الدفع النفاث التابع لناسا، الواقع في باسادينا بكاليفورنيا، على بناء نظام راداري جديد، وسيكون بعد فترة قريبة قادراً على مراقبة نسبة أكبر بكثير من سطح الأرض، وبدقة تضاهي 10 أضعاف دقة التكنولوجيات الحالية. ويعتمد مقياس تداخل الموجات الرادارية ذات النطاق "كا" (Ka-band) على هوائيين لبث النبضات من منطقة تمتد بعرض 121 كيلومتراً (75 ميل) واستقبالها مع مرور القمر الاصطناعي فوق مسطح مائي. ويقوم أحد الهوائيين بإرسال الإشارات إلى المنطقة في الأسفل، وبعد ذلك يقوم النظام بتحليل إشارتين منعكستين باستخدام عملية التثليث. وبهذا، يستطيع العلماء قياس ارتفاع سطح الماء بخطأ لا يتجاوز 10 سنتيمتراً.
تخطط ناسا مع وكالة الفضاء الفرنسية (CNES) لإطلاق قمر اصطناعي مزود بمستشعر النطاق "كا" في أواخر العام 2022 في إطار بعثة تحمل اسم "سووت" (SWOT) (اختصارا بالإنجليزية لعبارة: طبوغرافية المياه السطحية والمحيطات)، وذلك بمساعدة وكالتي الفضاء الكندية والبريطانية. وإضافة إلى المحيطات، سيقوم القمر الاصطناعي الذي يضاهي بحجمه سيارة رباعية الدفع بمراقبة بحيرات الأرض، وأنهارها، وخزاناتها، وذلك أثناء سيره في مدار يمتد على 21 يوماً.
يقول سيدريك ديفيد، وهو عالم مياه في مختبر الدفع النفاث: "سنتمكن من الحصول على معلومات عالمية حول المياه السطحية بشكل غير مسبوق". وسيتمكن العلماء من مراقبة التغيرات في كمية المياه المخزنة على سطح الأرض، وتقدير الكمية التي تتدفق عبر أنظمة الأنهار.
ويقول العلماء مثل كيتامبو إن عمليات الرصد في إطار بعثة سووت ستزيد من دقة وجودة النماذج العددية، والتي تقوم بمحاكاة تزايد المياه، وتراجعها، وتدفقها مع مرور الزمن. وعلى وجه الخصوص، يستطيع العلماء استخدام بيانات سووت لحساب الرشح اليومي –أي كمية المياه المتدفقة عبر القنوات- من روافد الكونغو الكبرى وضمن الغابة المطرية في مركز الحوض. وهو ما سيساعدهم على استيعاب تطور الفيضانات الموسمية، والتي تؤثر على كل شيء، بدءاً من صيد الأسماك والزراعة وصولاً إلى مَوَاطن الحياة البرية والسلامة البشرية.
ويلحظ ديفيد أن البعثة الجديدة، إضافة إلى مشاريع أخرى مماثلة، ستسمح لناسا بمراقبة كل جزء تقريباً من دورة المياه على الأرض، بما في ذلك المحيطات، ورطوبة التربة، والمياه الجوفية، والصفائح الجليدية، والآن، المياه السطحية. ويقول: "يعتبر الكثير منا أننا دخلنا العصر الذهبي لمراقبة دورة المياه من الفضاء".