من أهم نتائج تقنيات النمذجة الحاسوبية أنها سمحت بمحاكاة العديد من الظواهر في العالم الحقيقي وبدقة مذهلة. على سبيل المثال، حلت النماذج الحاسوبية لديناميك الموائع محل الأنفاق الهوائية في الكثير من التطبيقات، وساهمت عمليات محاكاة مواقع التواصل الاجتماعي بتغيير فهمنا للاختناقات المرورية والتحكم بالحشود، وانتشار الأخبار المزيفة والأمراض المعدية. كما أن الكثير من الألعاب، مثل سلسلة Grand Theft Auto، و Second Life، وغيرها، تحتوي على محاكاة لعوالم كاملة تسمح للاعبين بتجربة واقع بديل.
على الرغم من التأثير الكبير لهذه الظاهرة على العلم، فإن تأثيرها على العلوم الإنسانية، وخصوصاً التاريخ، لم يكن بنفس المستوى، وهو ما يعتبر فرصة بالنسبة للتاريخيين المغامرين. حيث ازداد عدد الألعاب الحاسوبية التي تحاكي أحداث الماضي بدقة أكبر من ذي قبل، ما يسمح للاعبين بفهم القوى المؤثرة على التاريخ، واستكشاف مساراته البديلة.
هل يمكن لهذه الحوسبة التاريخية أن تغير من فهمنا للماضي ودروسه؟ سنحصل على الجواب بفضل عمل ميهميت سوكرو كوران في جامعة عبد الله غل في تركيا، بالاشتراك مع بعض الزملاء. قام هؤلاء الباحثون بتطوير مادة تاريخ للمرحلة الجامعية يقوم الطلاب فيها باستخدام ألعاب حاسوبية تاريخية لفهم مواضيع المادة بشكل أفضل، وبشكل مباشر وبسيط. وعلى مدى السنوات الأربع المنصرمة، أدخل كوران وزملاؤه مجموعة متنوعة من الألعاب الحاسوبية في هذه المادة لتحديد الأفضل من بينها من حيث إثارة النقاشات وتحسين فهم الطلاب.
تغطي المادة ثلاثة عصور تاريخية: العصور الوسطى، مع التركيز على الانشقاق العظيم في العالم المسيحي، والانشقاق السني الشيعي في العالم الإسلامي، والعصر الحديث المبكر، بما في ذلك الثورة الصناعية، والعصر الحديث، وعلى وجه الخصوص الحربين العالميتين. جرب كوران وزملاؤه عدة ألعاب، مثل سلسلة Sid Meier’s Civilization من شركة ألعاب فيراكسيس، وسلسلة Total War من كرييتيف أسيمبلي، وألعاب Grand Strategy مثل Crusader Kings II و Europa Universalis IV، و Hearts of Iron IV من بارادوكس إنتراكتيف. بدأ كل قسم من المادة بجلسة تعليمية وحوارية، تليها مقدمة إلى اللعبة المختارة. أعطي الطلاب أهدافاً محددة ضمن اللعبة يجب أن يحققوها بأنفسهم، ومن ثم طلب منهم أن يكتبوا عن تجربتهم بالمقارنة مع مصادر أخرى للمعلومات التاريخية.
بعد سنتين، توصل كوران وزملاؤه إلى نتيجة تقول بأن إحدى هذه السلاسل من الألعاب كانت أفضل للأغراض التعليمية: "قدمت الألعاب من سلسلة Grand Strategy أكثر التجارب شمولية، نظراً لمستوى التفاصيل فيها، والدقة التاريخية العالية، ومرونة وتنوع النمذجة للثقافات والأمم المختلفة". وبالتالي، استمروا في إعطاء المادة باستخدام لعبة Crusader Kings II لمساعدة الطلاب في مرحلة القرون الوسطى، ولعبة Europa Universalis IV لدراسة العصر الحديث المبكر وصولاً إلى العصور الصناعية، ولعبة Hearts of Iron IV لدراسة أواسط القرن العشرين، وبعد كل جلسة، كان يجب على الطلاب كتابة تدوينة بطول 500 كلمة عن تجربتهم. ومن ثم قاموا باختيار حقبة واحدة للتخصص بها، وكتبوا مقالة بطول 3,000 كلمة عن البحث الذي قاموا به.
يعدد كوران وزملاؤه قائمة طويلة من الفوائد التي حصل عليها الطلاب بفضل هذا الأسلوب التعليمي. وعلى سبيل المثال، فقد أتاح اللعب للطلاب استيعاب الجغرافيا العالمية وتأثيراتها السياسية والاقتصادية على مسارات التجارة وسلاسل الإمدادات العسكرية بشكل أفضل. كما تعلم الطلاب الكثير عن العلاقات المعقدة بين القوى الاقتصادية، والدينية، والتكنولوجية، والسياسية، والثقافية، والتي تلعب دوراً هاماً في جميع المجتمعات. وعلى وجه الخصوص، تعلم الطلاب كيف كانت المجتمعات مختلفة في الماضي، وكيف أثر هذا على النتائج التي نراها حالياً. ومن أهم ما تحقق هو تغيير طريقة رؤية الأحداث من المنظور الحديث إلى المنظور التاريخي. يقول كوران وزملاؤه: "ساهم تغيير وجهة النظر بشكل كبير في زيادة فهم الطلاب لأحداث تاريخية هامة معينة". إضافة إلى هذا، فقد شكلت الألعاب خبرة أفضل للطلاب. يقول الفريق: "يقول معظم الطلاب أن تعلم التاريخ عن طريق لعبة فيديو يتضمن ناحية اندماجية هامة"، وهو ما يؤدي إلى تحليل وتذكر أفضل للأحداث.
من الواضح أن كوران وزملاؤه مقتنعون بالدور الهام للألعاب في استيعاب التاريخ، ويقولون: "على الرغم من الجهد الذي يتطلبه إعداد مادة تدريسية للتاريخ حول عوالم مختلطة بهذا الشكل، فقد رأينا أن الفوائد تفوق الصعوبات بكثير، وتسمح بتجربة تعليمية أكثر عمقاً واندماجية".
يمكن بسهولة أن نرى سبب استمتاع واستفادة الطلاب من مقاربة كهذه، ولكنها البداية فقط. حيث أن إمكانية محاكاة التاريخ بشكل مفصل ستكون ذات فائدة هائلة للتاريخيين أنفسهم، لأن معلومات التاريخ متبعثرة وغير دقيقة، وبالتالي يجب على التاريخيين أن يملؤوا الفراغات بأنفسهم. وتعتبر النماذج الحاسوبية مثالية لاختبار الفرضيات وتقييم مدى توافقها مع المعلومات الموجودة.
بطبيعة الحال، يوجد فرق كبير بين سلاسل الألعاب مثل Civilization و Grand Strategy وبين عمليات المحاكاة العلمية الدقيقة. ومن أهم هذه الاختلافات أن جميع هذه الألعاب تعتبر أنظمة غامضة لا تقدم سوى القليل من المعلومات (إن قدمت أي معلومات على الإطلاق) حول كيفية عملها ونمذجتها للأحداث، ما يجعل تقييمها بناء على الأدلة أمراً صعباً.
من ميزات النموذج الجيد أنه يسمح للباحثين بالتحكم بمعاملات النمذجة بحيث يمكن معايرته بدقة تمكن الباحثين من معرفة كيفية معالجة بيانات الدخل. ولكن مع هذه المقاربة، تتمتع النماذج الجيدة بإمكانات كبيرة، حيث تسمح للباحثين بدراسة المسارات التاريخية الأخرى والنتائج البديلة، بنفس الطريقة التي تسمح بها نماذج الطقس للعلماء باستكشاف الأساليب المختلفة التي يمكن أن نؤثر بها على المناخ.
من الأفكار المثيرة للاهتمام وجود لحظات تاريخية معينة كانت الظروف ستؤدي فيها إلى نفس النتيجة، بغض النظر عن قرارات وأفعال الشخصيات ذات الصلة. وعلى سبيل المثال، يعتقد أن العالم كان على شفا الحرب في العام 1914، لدرجة أن شرارة النزاع –اغتيال الأرشيدوق فيرديناند في سيراييفو في 1914- كانت غير مهمة، لأن أي حدث عالمي هام تقريباً كان كافياً لدفع أوروبا نحو الحرب.
ولكن هل هذا صحيح؟ من المفترض أن تكون النماذج الحاسوبية قادرة على اختبار هذه الفكرة. وإذا كانت صحيحة، فكم مرة في التاريخ فرضت فيها الظروف مساراً أو نتيجة واحدة بدون إمكانية وجود أية بدائل؟ كيف يمكننا أن نستخدم هذه المعلومة لمنع ظهور ظروف مماثلة؟
كان قراء هذه المدونة يتابعون ظهور اختصاص جديد في التاريخ، وهو التاريخ المحوسب. وقد بدأ الطلاب بالاستفادة من هذا الاختصاص، ومن المؤكد أن أخصائيي التاريخ المحوسب سيبدؤون أيضاً بالظهور. أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو كيف سيؤدي هذا الاختصاص الجديد إلى تغيير طريقة فهمنا للماضي، وكيفية استخدام هذه المعرفة الجديدة من أجل المستقبل.
مرجع: arxiv.org/abs/1805.00463: الألعاب التاريخية في التعليم التاريخي: خبرات في مادة تاريخ عوالم متعددة.