حققت منظومة الخدمات الحكومية الرقمية في الخليج قفزة نوعية غير مسبوقة على مدار العقد الماضي، حيث تربعت المنطقة على عرش الريادة العالمية في تقديم الخدمات الحكومية الرقمية، مسجّلة معدل رضا استثنائياً بلغ 81% حسب استطلاع أجرته شركة بوسطن كونسلتينج جروب للمواطنين عن منظومة الحكومة الرقمية عام 2024، متجاوزة بذلك المعدل العالمي الذي لم يتخطَ حاجز الـ 65%.
تتجلى قصة هذا النجاح في تبنّي الحكومات رؤية مبتكرة لخدماتها العامة، مطورةً منصات رقمية تضع المواطن في قلب اهتمامها، ما يُحدِث نقلة نوعية في تيسير التعاملات، وتسريع الإجراءات، وتعزيز كفاءة الأنظمة الحكومية.
في حين أن تبني المواطنين السريع للتكنولوجيا يؤدي دوراً في هذا المشهد، فإن هذا النجاح يعكس فهماً أعمق لاحتياجات المواطنين الآخذة في التطور. فقد أدّى المشهد التكنولوجي سريع التطور إلى رفع سقف التوقعات، حيث يطالب 98% من المشاركين في الاستبيان في دول مجلس التعاون الخليجي بأن تضاهي خدمات الحكومة الرقمية أفضل الخدمات العالمية المتميزة.
رغم المؤشرات الإيجابية العالية لمستويات الرضا، تبرز تحديات ملموسة في المشهد الرقمي؛ إذ كشف الاستبيان أن 72% من المستخدمين أبلغوا عن مواجهة عائق واحد على الأقل خلال استخدامهم خدماتهم الحكومية الرقمية عام 2024. وتطرح تحديات تجربة المستخدم المتبقية سؤالاً محورياً: ما هو الدور الذي سيؤديه الذكاء الاصطناعي في حل هذه المشكلات المستمرة وتوقع الاحتياجات المستقبلية؟
رصد نبض تجربة المستخدم: تحديات تنتظر الحلول
رغم النجاح اللافت الذي سجّلته دول مجلس التعاون في مؤشرات رضا المستخدمين، فإن النظرة الفاحصة تكشف عن فرص لتعزيز تجربة المستخدم وتقليل العقبات في رحلة المواطن.
يتجلى في هذه الرحلة مشهدان متناقضان: الأول يصوّر العوائق التقنية التي تقطع مسار إتمام الخدمة، والثاني يرسم ملامح الارتباك الناجم عن تعقيدات الاستخدام. عندما يصطدم المواطنون بعوائق تحول دون إنجاز معاملاتهم أو الوصول إلى الإرشادات المطلوبة، تفقد المنصات الحكومية الرقمية بريقها وتأثيرها المنشود.
تستدعي المرحلة القادمة نقلة استراتيجية من التحول الرقمي الشامل إلى التطوير المستهدف والدقيق.
بات لزاماً على الحكومات أن تتبنى منهجيات أولويات واضحة تحدّد التحديات الجوهرية في رحلة المواطن، بالتوازي مع استكشاف الإمكانات الواعدة للذكاء الاصطناعي في إحداث تغيير جذري.
تفتح هذه المقاربة المزدوجة آفاقاً للتحسين الفوري للخدمات الحالية وتعزّز الابتكار الاستراتيجي، وتبرز المبادرات الحكومية الرقمية الأكثر تميزاً عبر تصميم واجهات بديهية سهلة الاستخدام تستشرف احتياجات المستخدمين، وتختصر المسارات المعقدة، وتوفّر الدعم الذكي في المراحل المفصلية من رحلة المواطن. هذه الفلسفة المتمحورة حول الإنسان ترسّخ مفهوماً جديداً للتجارب الرقمية التي تعزّز قدرات المواطنين وتمكنهم، متجاوزة المعنى السطحي لرقمنة الإجراءات البيروقراطية التقليدية.
الارتقاء بتجربة المستخدم في المنظومة الحكومية الرقمية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي التقليدي والتوليدي
تفتح تقنيات الذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) آفاقاً واعدة لتطوير الخدمات الحكومية الرقمية من خلال تقديم حلول مبتكرة لتحديات سهولة الاستخدام وإمكانية الوصول والكفاءة.
وتمتلك هذه التقنيات القدرة على أتمتة المهام الروتينية، وتقديم الدعم اللحظي عبر بوتات الدردشة، وتعزيز قدرات البحث الدلالي الذكي، ما يمكّن المواطنين من الوصول إلى الخدمات المناسبة بسرعة وسهولة فائقة.
ويشكّل المستوى العالي من تقبل الذكاء الاصطناعي في دول مجلس التعاون الخليجي -71% مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 22% فقط- قاعدة صلبة لتوظيف هذه التقنيات المتطورة في المنظومة الحكومية.
تتجسد الرؤية العملية لتوظيف الذكاء الاصطناعي المتمحور حول المواطن في مبادرات رائدة في دول مجلس التعاون الخليجي. وتستثمر منصة "تم" الحكومية في أبوظبي تقنيات المساعد الافتراضي الذكي لتوجيه المقيمين نحو أكثر من 500 خدمة بكل سلاسة، بينما توظّف دائرة القضاء بأبوظبي حلول الذكاء الاصطناعي في الترجمة الفورية للمستندات القانونية ودعم تسوية النزاعات، ما يحقق تكاملاً بين سهولة الوصول والكفاءة العالية.
وفي المملكة العربية السعودية، تحوّل تطبيق "توكلنا" إلى منظومة خدمية متكاملة تستشرف احتياجات المستخدمين وتزودهم بمستجدات الخدمات الصحية والسفر والمرافق العامة، مستنداً إلى بيانات آنية وتحليلات ذكية متطورة.
وعلى الجانب القطري، تستثمر منصة "تسمو" للمدن الذكية الخوارزميات الذكية للتنبؤ بأنماط المرور وتعزيز كفاءة الخدمات العامة ورصد المؤشرات الصحية، محولة البيانات المجردة إلى رؤى استراتيجية قابلة للتطبيق في القطاع الحكومي.
تكشف هذه الأمثلة الواقعية عن قدرة الذكاء الاصطناعي على نقل الخدمات الحكومية الرقمية من منظومة تفاعلية إلى منظومة استباقية، تستشعر احتياجات المتعاملين قبل تبلورها، وتقدّم خدمات أسرع وأكثر استهدافاً بكفاءة عالية. وبينما أصبحت تجربة التسوق الإلكتروني مخصصة بامتياز وتتكيّف مع كل متسوق، لا تزال تجربة الخدمات الحكومية نمطية موحّدة للمواطنين كافة. لكن الذكاء الاصطناعي يفتح نافذة أمل جديدة في تقديم الخدمات التنبؤية الاستباقية.
فمن خلال تحليل أنماط السلوك، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي توقع احتياجات المواطنين وتقديم الخدمات ذات الصلة بشكلٍ استباقي، محوّلة المنصات الرقمية من بوابات خدمية إلى واحات رقمية متجددة تنبض بالحياة وتضع المواطن في قلب اهتمامها، غير أن المشهد يطرح تساؤلات محورية: أين تكمن الحدود المُثلى لتخصيص الخدمات الحكومية باستخدام الذكاء الاصطناعي؟ وكيف تستطيع الحكومات أن تضمن عمل الأنظمة التنبؤية بشفافية كاملة وتجنب أي تحيزات محتملة في تقديم الخدمات للمتعاملين؟
تخيل معنا تطوير نظام مرشد المنافع المدعوم بالذكاء الاصطناعي ضمن بوابة الخدمات الاجتماعية؛ يستطيع هذا النظام المتطور تحليل بيانات المواطن وملفه الشخصي، بما في ذلك تكوين الأسرة إلى مستوى الدخل وسجل الاستفادة من الخدمات في السابق، ليقترح بشكلٍ استباقي برامج المساعدة الملائمة.
وبينما يوفّر هذا الابتكار راحة استثنائية، يفتح الباب لتساؤلات جوهرية حول منظومة الحوكمة: ما هي الحدود المُثلى للوصول إلى البيانات الشخصية الحساسة واستخدامها؟ كيف نحمي المجتمع من التحيزات البرمجية التي قد تمنح امتيازات لفئات معينة وتغفل الفئات الأكثر احتياجاً؟ تكمن المعادلة الدقيقة في تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي لتعزيز الخدمات مع وضع ضمانات صارمة تمنع التمييز الرقمي وتكفل العدالة في الوصول. إن الموازنة بين روح الابتكار ومبادئ الحوكمة الأخلاقية ستكون مفتاح إطلاق الإمكانات الكاملة للذكاء الاصطناعي مع ترسيخ الثقة والمساواة في منظومة الخدمات العامة.
وكلاء الذكاء الاصطناعي: محرك الابتكار في الخدمات الحكومية الاستباقية
تمهّد استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي الطموحة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، بما في ذلك نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية المطورة في بيئات سحابية خاصة آمنة، الطريق نحو مستقبل مشرق لوكلاء الذكاء الاصطناعي (AI Agents) في عالم الحوكمة.
تُعدُّ الوكلاء مساعِدات رقمية متقدمة قادرة على تولي مهام معقدة والتعلم والتطور مع كل تفاعل والعمل بانسجام عبر شبكة الأنظمة المختلف، تتجاوز بمراحل حدود بوتات الدردشة التقليدية من خلال قدرتها على ترجمة الأفكار إلى إجراءات منسقة وليس مجرد تقديم معلومات.
توفّر هذه التقنيات المبتكرة فرصة ذهبية لأتمتة التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة، ما يضمن تجربة خدمية سلسة ومتكاملة عبر ميزات تُلبي احتياجات المواطن مثل الإخطارات الذكية لتجديد التصاريح ومعالجة المستندات بدقة وكفاءة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
تجسّد هذه الوكلاء المتطورة المرحلة المقبلة من التحول الحكومي الشامل، مبشّرةً بعصرٍ جديدٍ من الخدمات المنسقة والمتكاملة والاستباقية. تتميز وكلاء الذكاء الاصطناعي بقدرتها الفائقة على تولي المهام الإدارية، واكتساب الخبرة من كل تفاعل مع المواطنين، وتطوير منظومة تقديم الخدمات باستمرار. وفي حين يبرع الذكاء الاصطناعي التوليدي في تزويد المواطنين بالمعلومات المخصصة والموارد الضرورية لمساعدتهم على التعامل مع المهام المعقدة أو طلبات الخدمة، يُتوقع أن تتخذ وكلاء الذكاء الاصطناعي دور الشريك الاستراتيجي، محوّلة الاستفسار البسيط إلى خارطة طريق متكاملة يشارك المستخدم في قيادة تنفيذها خطوة بخطوة.
ترسيخ الثقة وتعزيز الذكاء الاصطناعي المسؤول
حققت دول مجلس التعاون الخليجي إنجازاً استثنائياً يتمثل في الحفاظ على ثقة المتعاملين بالتوازي مع تطوير منظومة الخدمات الحكومية الرقمية. ومع مواصلة هذه الحكومات إعادة تشكيل آفاق ما يمكن للخدمات العامة الرقمية تحقيقها، تبرز أمامها تحديات استراتيجية كبرى: كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي بشكلٍ موسّعٍ لمعالجة التحديات الراهنة، وكيفية بناء الجاهزية المؤسسية والتقنية للقفزة النوعية القادمة في عالم الذكاء الاصطناعي.
تستدعي هذه الأولويات إيجاد توازن دقيق مع التطوير المستمر لأطر الذكاء الاصطناعي المسؤول، بما يضمن العدالة والشفافية والمساءلة وأمن البيانات مع تغلغل الذكاء الاصطناعي في مجالات الخدمة العامة الحيوية.
وستشكّل مبادئ الذكاء الاصطناعي المسؤول المعتمدة في دول المجلس ركيزة أساسية لبناء منظومات تحافظ على قيمها الأخلاقية وطابعها الشامل، حتى مع تزايد تطورها واستقلاليتها.
عبر الموازنة الاستراتيجية بين هذين المسارين، ستتمكن دول مجلس التعاون الخليجي من ترسيخ ريادتها في منظومة الخدمات الحكومية الرقمية، محولةً التعقيد إلى وضوح والابتكار إلى قيمة مستدامة للمجتمع.