في مديح الجنائز على منصة “زووم”

4 دقائق

قد تكون أفضل من الجنائز التقليدية، وبالتأكيد هي "حقيقية" بنفس القدر.

حضرت جنازة على منصة "زووم" للمرة الأولى منذ أسبوعين. لم يكن لدي أي فكرة عما يجب أن أتوقعه، وبدت لي عبارة "جنازة على منصة زووم" مبتذلة ومخزية، من سيحضر؟ كيف ستسير الأمور؟ ماذا سيرتدي الحاضرون؟ هل سيجتمعون باحترام للحداد على فقيد محبوب، أم سيجلسون جميعهم معاً في حالة استرخاء، كل على أريكته، يتجادل مع أفراد عائلته الذين يعيشون معه في المنزل حول طريقة وضع الهاتف أو الجهاز اللوحي أو شاشة الكمبيوتر المحمول، بينما تموء هرته طلباً للطعام؟ هل هناك إيجابيات للجنائز على منصة زووم؟

الجنائز على منصة "زووم"

كتبت فايوليت كيم في مجلة "فيوتشر تنس" في شهر مايو/أيار: "تبدو الجنازة على منصة زووم... كمهزلة". وكنت أوافقها الرأي إلى أن حضرت واحدة بنفسي. وعند نهاية المراسم، كنت قد توصلت إلى نتيجة مغايرة، وهي أن الجنازة على منصة "زووم" قد تكون أفضل من عدة زوايا من الجنازة التقليدية. وبالتأكيد كانت تبدو "حقيقية" بنفس القدر.

في الموعد المحدد، كنت قد ارتديت بدلة ورابطة عنق، لكني بقيت حافي القدمين، ودخلت إلى الاجتماع على المنصة من مكتبي في الطابق العلوي. لم تكن الجنازة مجرد حفل تأبين. كان المتوفى، لاري، عم أبي، في تابوته المغلق الظاهر على الكاميرا ببث مباشر، وإلى جانبه في مقبرة مدينة فلوريدا حيث سيُدفن، كان ابنه الأكبر مع زوجته، ورجل الدين.

كان ثلاثتهم يضعون الأقنعة الواقية (الكمامات)، وجلس الزوجان على مسافة مترين من رجل الدين. وامتلأ ما تبقى من الشاشة بتشكيلة صور الحاضرين التي أصبحت معروفة اليوم "بمربعات هوليوود". وسرعان ما انضم قرابة 80 شخصاً من 50 منزلاً إلى المراسم. كنت أنا والرجلان اللذان بجوار التابوت وحدنا من نرتدي رابطات عنق؛ أما ما تبقى من الحاضرين فكانوا يرتدون ملابس العمل العادية على الأقل، في حين ارتدى البعض ملابس أكثر رسمية. ميزت والديّ أولاً من بين الحضور، ثم عدداً من أبناء عمومة أبي وأولادهم. وميزت بعض الحاضرين الآخرين من أسمائهم الأخيرة أو من ملامحهم المألوفة في العائلة. كما كان هناك بعض الغرباء، إلى جانب عائلتي.

قال رجل الدين: "سأضع جميع الحاضرين على وضع الصمت الآن،"، بينما كان جاثياً على ركبته كي يقوم بذلك، وأدخل الحاضرين الجدد من غرفة الانتظار على المنصة في نفس الوقت.

حتى عندما كان الجميع على وضع الصمت، كنت أرى الآخرين يضحكون ويبكون في نفس الوقت معي. ثم بدأت المراسم، وقال رجل الدين: "من المفترض أن نكون قادرين على الحضور شخصياً لنكون معاً، من المفترض أن يحتضن بعضنا بعضاً، لكن التقنية سمحت لنا أن نكون معاً روحياً". ثم تابع المراسم وأخبر عائلة الفقيد الصغيرة بما يجب عليهم فعله كلاً بدوره.

ثم ألغى وضع الصمت عن أفراد عائلة الفقيد لاري واحداً تلو الآخر ليلقوا كلماتهم، وهم أحفاده الأربعة، وكنتاه وابناه. عرّفتني القصص التي رووها على مدى الدقائق الأربعين التالية على قريب لم ألتق به في حياتي سوى ثلاث أو أربع مرات فقط، دون أن أتحدث معه على انفراد. تحدثوا عن مداعبات لاري عبر الهاتف، والألقاب المضحكة التي كان يطلقها عليهم، والملابس غير الرسمية التي كان يرتديها في المناسبات الرسمية، وطلبه الزبدة الباردة في المطاعم، وحفاوته وكرمه وحنانه في أوقات الشدة.

ضحكت وبكيت، شعرت بالامتنان على الرغم من الإحراج لأني تمكنت من النهوض وتناول لفافة من مناديل الحمام عندما فرغت علبة المناديل الورقية من الكمية القليلة التي كانت متبقية فيها. أكثر ما أثر بي كان إدراك أني فقدت آخر أقربائي من جيل جدي، عدا عن زوجة لاري، بيفرلي، فهي لا تزال على قيد الحياة تصارع مرض آلزهايمر الذي أثر عليها بشدة لدرجة أنها لم تعد تميز أحداً. لكني تفاجأت أيضاً بأن لدي مجموعة أبناء عمومة من الدرجة الثانية لم ألتق بهم في حياتي، ولديهم أطفال وآباء من نفس سني تقريباً.

والآن، وجدت نفسي ألتقي بهم افتراضياً، لكن وجهاً لوجه بدرجة كبيرة وبحميمية غرف معيشتنا ومطابخنا وغرف نومنا ومكاتبنا المنزلية، بدلاً من الالتقاء بمكان عام غريب. اقتربت منهم بدرجة كافية لرؤية الكتب في مكتباتهم، واللوحات على جدران غرفهم والصور على رفوف مواقدهم. اقتربت بما يكفي ليرى كل منا عيون الآخرين.

جنائز مرضى "كوفيد-19"

على الرغم من مرض بيفرلي الشديد، كان لاري يخطط للسفر معها من سكن المتقاعدين في مدينة فلوريدا إلى مدينة نيويورك كي يكونا أقرب من ابنيهما الأصغر، لكن كانت نتيجة تحليله لمرض "كوفيد-19" إيجابية. وأخبر أبي في البداية عندما تحدثا عبر الهاتف بعد تشخيص مرضه أنه كان بخير، عدا عن فقدان حاسة الذوق المنذرة بالمرض. لكنه توفي خلال أقل من أسبوع، وهو الوحيد الذي أعرفه ممن توفوا إثر هذا المرض في الولايات المتحدة، الذين بلغ عددهم أكثر من 224 ألفاً، والعد مستمر.

تكون الجنائز معزولة عادة في مجتمعنا، مثل أي جانب آخر من جوانب الموت. أولاً، عندما نصاب بمرض شديد، ننعزل في المستشفيات وغرف المرضى. وعندما نموت، تُوضع رفاتنا تحت الثرى في المقابر. ومع ذلك، كنت مع لاري في منزلي، وفي منازل أفراد عائلتي الكبيرة. تركت الجنازة على منصة "زووم" لديّشعور بأني متصل أكثر بجميع الحاضرين، وبكل من فقد عزيزاً أثناء هذه الجائحة. وجعلتني أقدّر الطرق التي توضح بها تقنيات مثل "زووم" تجاربنا المشتركة، وكيف يمكنها أن ترينا حياة الآخرين ووفاتهم حرفياً على بعد مربع واحد على الشاشة.

انتهت مراسم الجنازة بإدخال تابوت لاري إلى الضريح. استمر زواجه ببيفرلي 70 عاماً، وبعد أيام من جنازته توفيت هي وكانت جنازتها بعد أسبوع من جنازته، في نفس الضريح ومع نفس رجل الدين والحاضرين. لكن هذه المرة، أحضرت علبة كاملة من المناديل الورقية والكثير من الماء معي إلى مكتبي في الطابق العلوي. روى المتحدثون قصصاً جديدة تلامس القلب، وعبروا عن إيمانهم بأن الزوجين اجتمعا من جديد. ونحن أيضاً اجتمعنا، على الأقل لساعة أخرى.

حياة "زووم"، أو حياة الجائحة، مروعة ومذهلة في آن. ونظراً لعلاقتي السطحية بلاري وزوجته بيفرلي والمسافة التي تفصل بين سكني في مدينة مونتانا وسكنهما في مدينة فلوريدا، على الأرجح أني لم أكن سأحضر جنازة أي منهما لو لم تكن جنازة افتراضية عبر الإنترنت. والآن، بعد عشر دقائق من الجنازة، في المرتين، بدلت ثيابي وارتديت سروالاً قصيراً وقميصاً قطنياً وذهبت للمشي في الحي.

من جهة، كان شعور العودة إلى المنزل بهذه السرعة مضحكاً بعد حضور الجنازة عبر منصة "زووم". ومن الجهة الأخرى، بدا مناسباً جداً. الموت ليس في مكان آخر، وليس أمراً استثنائياً بل هو محيط بنا طوال الوقت، وذلك يشمل الوقت الذي نقضيه متصلين بالإنترنت. عندما خرجت للمشي بعد جنازة لاري، سمعت طفلاً يبكي في منزل مجاور، ثم سمعت صوت دوي محرك وصيحات صافرات الإنذار من مركز الإطفاء الذي يقع على مسافة بضعة أحياء. أخرجت هاتفي وأرسلت رسالة نصية إلى أبي تقول: "كان ذلك مؤثراً جداً. أحبك".

جاءني رده بعد ثوان، وكان يقول: "أجل هذا صحيح، أحبك".

المحتوى محمي