تُعلق عشرات الولايات في جميع أنحاء الولايات المتحدة آمالها على عملية تتبع الاحتكاك للسيطرة على انتشار فيروس كورونا، وتمكين المناطق من رفع الحجر الصحي دون تجدد تفشي المرض بشكل كبير.
وتقوم كل من ألاسكا وكاليفورنيا وماساتشوستس ونيويورك وغيرها من الولايات بتوظيف وتدريب عشرات الآلاف من الأشخاص بصورة جماعية، لإجراء مقابلات مع المرضى المصابين بالعدوى وتحديد المخالطين لهم، وإقناع جميع الأشخاص المعرضين للخطر بالابتعاد عن الآخرين لعدة أسابيع.
وبالرغم من أن عملية تتبع الاحتكاك وسيلة فعالة في احتواء تفشي الأمراض شديدة العدوى، إلا أن دراسات جديدة ودلائل مستمدة من الجهود الأولية تشير إلى أن هذا الفيروس تحديداً يمكن أن يُشكل تحديات جسيمة لبرامج التتبع التي تنفذها الولايات المتحدة؛ ذلك أن ارتفاع مستويات العدوى الجديدة في بعض المناطق، واستمرار نقص الاختبارات، ومواقف الأميركيين إزاء قضية الخصوصية، كل ذلك من شأنه أن يُضعف فعالية مثل هذه البرامج.
خفض معدلات انتقال العدوى
التحدي الرئيسي الذي يفرضه هذا الفيروس هو قدرته على الانتشار باطراد؛ إذ تفيد معظم التقديرات بأنه في غياب تدابير الاحتواء، فإن كل شخص مُصاب بالعدوى سيُصيب شخصين أو ثلاثة آخرين في المتوسط (مع أن بعض الدراسات وجدت أن معدل العدوى يمكن أن يكون أكثر ارتفاعاً).
وتهدف عملية تتبع الاحتكاك -فضلاً عن تحقيق الابتعاد الاجتماعي- إلى تقليل عدد أولئك الذين يلتقطون العدوى من الشخص المصاب، وخفض قيمة عامل التكاثر الفعال (Re) لتصبح 1 أو أقل. وعند هذه النقطة، سيستقر عدد الحالات الجديدة أو سيأخذ في الانخفاض.
ومع ذلك، يجب على متتبعي الاحتكاك الوصول إلى نسبة كبيرة من الحالات ومخالطيهم، للتمكن من تغيير هذه الأرقام فعلاً.
وأحد النماذج الجديدة -الذي نُشرت نسخة مبدئية منه في 8 مايو الجاري على موقع (MedRxiv)، لكنها لم تخضع بعد لمراجعة الأقران- يشير إلى أنه يتعين على الفريق الخاص بمنطقة معينة اكتشاف ما لا يقل عن نصف عدد حالات الإصابة الجديدة التي تظهر عليها أعراض، والوصول على الأقل إلى نصف الأشخاص الذين كانوا على اتصال وثيق بهذه الحالات، وحثهم على الابتعاد عن الآخرين، للتمكن من خفض معدل انتقال العدوى بنسبة 10% أو أكثر.
ووجد الباحثون أنهم إذا نجحوا في اكتشاف 90% من الحالات التي تظهر عليها أعراض، ووصلوا إلى 90% من مخالطيهم، وأجروا اختبارات لهؤلاء المخالطين جميعاً بغض النظر عما إذا كانت قد ظهرت عليهم الأعراض، فقد يقلل ذلك من انتقال العدوى بنسبة تزيد عن 45%.
بعبارة أخرى، إذا كان الابتعاد الاجتماعي في منطقة معينة قد أدى إلى خفض عامل التكاثر الفعال للعدوى لكل شخص من 2.6 إلى 1، فإن هذا المستوى من تتبع الاحتكاك يمكن أن يخفضه إلى أقل من 0.55، أو يُمكن أن تخفف المنطقة من تدابير الابتعاد الاجتماعي بمقدار النصف تقريباً مع بقاء مستويات العدوى ثابتة.
ويقول جوشوا سالومون أستاذ الطب في جامعة ستانفورد وأحد مؤلفي هذه الدراسة: "إن [النموذج] يفسح لنا المجال لوضع إستراتيجية موجهة فيما يتعلق بأنواع القيود التي نفرضها على الأعمال والتجارة والتفاعلات الاجتماعية".
هل يمكننا الوصول إلى هذه الأرقام؟ يعتقد سالومون أن هذا الأمر ممكن، لكنه يستطرد قائلاً إن غالبية أنحاء البلاد لا تمتلك عاملين مدربين تدريباً جيداً ولا نظم بيانات جاهزة لإنجاز شيء بهذا المستوى حتى الآن.
حشد الجيوش
سيتوقف نجاح عملية تتبع الاحتكاك على حجم الفِرَق، وتطور أعداد الحالات الجديدة، ومدى استعداد الناس في مجتمع معين للاستجابة.
وهكذا، فإن الوصول إلى 90% من مخالطي المرضى سيكون أمراً صعباً بشكل خاص في الولايات والمناطق التي لا تزال تشهد الكثير من حالات الإصابة الجديدة. ولنأخذ ولاية ماساتشوستس كمثال، فالولاية شكلت في بداية الشهر فريق عمل لتتبع الاحتكاك يضم 1000 شخص، ومع ذلك فالحالات الجديدة المؤكدة في الولاية لا تزال تتجاوز 1000 حالة يومياً، ووصلت إلى ما يقرب من 1700 حالة يوم الخميس الماضي، وبالتالي فإن كل مُتتبع في الفريق سيحتاج يومياً إلى تتبع ضعف هذا العدد تقريباً لإقناعهم بالبقاء بعيداً عن الآخرين. وأثناء سريان قواعد البقاء في المنزل قد يكون هذا الرقم شخصين أو ثلاثة فقط، ولكن عندما تبدأ المناطق في تخفيف تدابير الابتعاد الاجتماعي، فإن متوسط عدد مخالطي المريض يُمكن أن يرتفع إلى ما يقرب من 20 شخصاً.
وكانت الإذاعة الوطنية الأميركية العامة قد ذكرت أن 44 ولاية، بالإضافة إلى مقاطعة كولومبيا، تخطط في الوقت الراهن لتعزيز فرق التتبع الخاصة بها، ليزيد عدد أفرادها إجمالاً من حوالي 11 ألف شخص حالياً إلى أكثر من 66 ألف شخص خلال الأسابيع القادمة.
بيد أن هذا لن يكون كافياً على الأرجح؛ إذ تُقدر "الرابطة الوطنية لمسؤولي الصحة في المقاطعات والمدن" أن جهود التتبع في الولايات المتحدة تتطلب وجود 30 عاملاً مهنياً لكل 100 ألف نسمة (أي أكثر من 98 ألف شخص على مستوى البلاد).
ووجدت الإذاعة الوطنية العامة أن سبع ولايات فقط لديها خطط للوصول إلى هذا الهدف، من ضمنها كاليفورنيا ونيويورك وإلينوي، ولم تصل إلى هذا الرقم فعلياً سوى ولاية نورث داكوتا.
وتقول مجموعة من خبراء الصحة والمسؤولين الحكوميين البارزين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي -من بينهم بوب كوشر المساعد الخاص السابق للرئيس باراك أوباما لشؤون السياسة الصحية، وزعيم الأغلبية الجمهورية السابق في مجلس الشيوخ بيل فريست- إن البلاد تحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من ذلك. ودعوا الكونجرس إلى إنشاء فريق عمل لتتبع الاحتكاك يضم 180 ألف شخص، وهو الأمر الذي سيكلف الحكومة الفدرالية نحو 12 مليار دولار.
ومما لا شك فيه أن التكنولوجيا يُمكنها تكملة عملية تتبع الاحتكاك التي يقوم بها البشر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تطبيقات الهواتف الذكية التي يمكنها إبلاغ الشخص بما إذا كان على اتصال وثيق مع شخص مصاب قد ساعدت دولاً مثل الصين وكوريا الجنوبية على تسطيح منحنى تفشي المرض فيها.
لكن استخدام هذه الأدوات يجب أن يتم على نطاق واسع جداً لإحداث فارق ملموس. لذا، فإن هناك شكوكاً جدية حول مدى فعالية أي منها في الولايات المتحدة، نظراً للمخاوف الثقافية المتزايدة بشأن الخصوصية وحقيقة أن الحكومة لا تجبر الناس على استخدام هذه التطبيقات.
تحرك سريعاً واختبر كل شيء
وجدت دراسة نشرتها دورية جاما للطب الباطني، في الأول من مايو الجاري، بعد تتبع أول 100 حالة إصابة في تايوان، أن الأشخاص يكونون أكثر قابلية لنشر العدوى قبل وفي غضون خمسة أيام من ظهور الأعراض، وهو ما يضيف إلى مجموعة متزايدة من الأدلة على أن الأشخاص الذين لا يعانون سوى من الحد الأدنى أو لا يعانون على الإطلاق من أي علامات تحذيرية مثل الحمى والسعال، هم ناقل رئيسي للمرض.
يؤكد هذا الأمر الأهمية الحاسمة لعملية تتبع الاحتكاك، التي تهدف إلى تحديد الأشخاص الذين لا يعرفون أنهم مصابون بالعدوى وحثهم على البقاء في الحجر الصحي قبل أن ينقلوا العدوى للآخرين دون قصد. غير أنه من الصعب تحديد جميع الحالات وتتبعها إذا لم يكن الأشخاص مرضى بما يكفي لمعرفة أنهم يجب أن يجروا اختباراً، وهذا يعني أنه يتعين على متتبعي الاحتكاك التحرك بسرعة هائلة للوصول إلى الناس قبل أن ينشروا الفيروس بالفعل.
ويقول جورج رذرفورد، أستاذ علم الأوبئة بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، والباحث الرئيسي في برنامج تتبع الاحتكاك بولاية كاليفورنيا: "أرى أننا في حاجة إلى العثور على الأشخاص وعزلهم في غضون أربعة.. أو ربما حتى ثلاثة أيام من تعرضهم للإصابة، إذا كنا نريد إحداث تأثير".
كما أن احتمالية نشر الناس للمرض قبل ظهور الأعراض عليهم تُبرز أهمية إتاحة الاختبارات على نطاق أوسع كثيراً. ولكن نظراً لنقص الإمدادات ومعدات الوقاية والموظفين المدربين والقدرات التجهيزية، لا تزال العديد من المناطق تُجري الاختبارات فقط للأشخاص الذين يعانون من أعراض أو العاملين في مجال الصحة المتواجدين في الخطوط الأمامية.
ووجد سالومون وزملاؤه المشاركون في الدراسة أنه إذا تمكنت المناطق من تعزيز قدراتها إلى الحد الذي يمكنها من إجراء اختبارات لكل من تواصل مع المصابين بشكل وثيق -حتى وإن لم تظهر عليهم أعراض- فإن هذا قد يزيد من فعالية برامج تتبع الاحتكاك بنسبة تصل إلى 2.2 مرة.
وترجع هذه الزيادة إلى أنه إذا كانت نتيجة الاختبار الذي أُجري للشخص الذي لم تظهر عليه أعراض إيجابية، فسيدفعنا ذلك لبذل المزيد من الجهود للوصول إلى الأشخاص المخالطين له ووضعهم جميعاً قيد الحجر الصحي. كما يعتقد الباحثون أيضاً أنه من المرجح أن يتقيد الأشخاص بطلبات الابتعاد عن الآخرين إذا كانوا يعرفون أنهم مصابون بالعدوى بشكل أكبر مما لو تم إخبارهم أنهم ربما اختلطوا بشخص مصاب فحسب.
كان الباحثون في معهد الصحة العالمية بجامعة هارفارد قدروا، الشهر الماضي، أن الولايات المتحدة تحتاج إلى إجراء ما لا يقل عن نصف مليون اختبار يومياً لاكتشاف الحالات التي لا تظهر عليها أعراض وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد بأمان، لكنهم يعتقدون حالياً أن هذا الرقم يقترب من 900 ألف اختبار. يأتي هذا في الوقت الذي أشار فيه "مشروع تتبع كوفيد" إلى أن المتوسط اليومي خلال الأسبوع الماضي بلغ حوالي ثلث هذا المستوى.
العقلية الأميركية
يتطلب نجاح جهود تتبع الاحتكاك أيضاً استقبال الأشخاص لمكالمات والاستماع لنصائح أشخاص غرباء عنهم تماماً.
ولكن للأسف تسببت سنوات من الاتصالات الآلية ومكالمات التسويق الهاتفي في دفع الكثير من الأميركيين لتجاهل المكالمات التي تردهم من أرقام غريبة. وتقول جانا دي براوار، مديرة البرامج في مكتبة سان فرانسيسكو العامة والتي تعمل مع فريق عمل تتبع الاحتكاك بالمدينة، إن ما لا يقل عن نصف الأشخاص الذين تتصل بهم لا يجيبون، بينما يغلق آخرون الخط بمجرد أن تبدأ في طلب معلومات شخصية، مثل العناوين وتواريخ الميلاد.
وقال رذرفورد، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، إن هناك تحدياً إضافياً يواجه المناطق التي تضم أعدداً كبيرة من المهاجرين أو المقيمين بطريقة غير قانونية، والتي قد يخشى الناس فيها من التفاعل أو مشاركة المعلومات مع المسؤولين الحكوميين. وقد وجد متتبعو الاحتكاك في سان فرانسيسكو أن حوالي 40% من الأشخاص المحتمل تعرضهم للإصابة لا يتحدثون سوى اللغة الإسبانية فقط، ويعيش الكثير منهم في أوضاع معيشية مزدحمة.
وحتى وإن أجاب مخالطي المرضى على المكالمة ولم يغلقوا الخط، تظل هناك مسألة منفصلة تتعلق بما إذا كانوا سيتبعون النصائح الخاصة بإجراء الاختبار أو سيضعون أنفسهم في الحجر الصحي طوعاً.
وتقول دي براوار إن كل ما يمكنها القيام به هو التوصية باتباع هذه الخطوات، وتقديم الدعم لمساعدة الناس على تنفيذها. كما يمكنها أن توصلهم، على سبيل المثال، بالعاملين في المدينة الذين يقدمون الطعام أو الدواء، أو حتى تحديد مكان لعزلهم في الحالات شديدة الخطورة.
ويضيف كوشر، وهو زميل في مركز شيفر للسياسة والاقتصاد الصحي بجامعة جنوب كاليفورنيا: كثيراً ما نطلب من الناس التغيب عن العمل لعدة أسابيع، إلا أن بعضهم لا يستطيع تحمل ذلك، ويخشى البعض الآخر فقدان وظائفهم. ومن ثم، إذا كنا نتوقع أن يمتثل الناس لهذه الطلبات فربما يتعين علينا تقديم حوافز إضافية، بما في ذلك الأموال اللازمة لدفع فواتيرهم.
كما أن هناك أسباباً أخرى تدعو للشك في أن بعض الناس وفي أجزاء معينة من البلاد لن تتقبل هذه الطلبات، لا سيما مع تزايد تسييس الرأي العام بشأن خطورة المرض ومدى ملاءمة التدخلات الحكومية.
وفي تغريدة له على موقع تويتر مطلع الأسبوع الماضي، قال كيث همفريز، أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية بجامعة ستانفورد، إن مسؤولي الصحة العامة يقللون من شأن تأثير مواقف الأميركيين إزاء السلطة الحكومية على تقويض برامج الاختبار والتتبع الوطنية.
وقد تحدى الأميركيون بالفعل تعليمات مسؤولي الصحة في عدة حوادث بارزة، بما في ذلك الاعتداءات على عمال المتاجر الذين طلبوا من الناس ارتداء الأقنعة، والمتظاهرين المسلحين الذين يحتجون على قيود البقاء في المنزل، والشركات التي أُعيد فتحها قبل أن تمنحها الحكومة المحلية الضوء الأخضر.
ويشير همفريز إلى أن تعليمات الصحة العامة لن تحقق أغراضها إلا إذا التزم بها عامة الناس.