لماذا يبقى فهم العقل البشري أصعب من تدريب أكبر نماذج الذكاء الاصطناعي؟

4 دقيقة
لماذا يبقى فهم العقل البشري أصعب من تدريب أكبر نماذج الذكاء الاصطناعي؟
مصدر الصورة: ستيفاني آرنيت/إم آي تي تكنولوجي ريفيو | أدوبي ستوك

يتحدد مشهد الذكاء الاصطناعي اليوم من خلال الطرق التي تختلف بها الشبكات العصبونية عن الأدمغة البشرية. فالطفل الصغير يتعلم كيفية التواصل بفعالية من خلال تناول ألف سعرة حرارية فقط في اليوم والمحادثة بصورة منتظمة؛ وفي الوقت نفسه، تعيد شركات التكنولوجيا فتح محطات الطاقة النووية، وتتسبب في تلويث المجتمعات المهمشة، وقرصنة آلاف الميغابايت من الكتب من أجل تدريب نماذجها اللغوية الكبيرة وتشغيلها.

الشبكات العصبونية تمثل في النهاية شبكات عصبية

لكن الشبكات العصبونية تمثل في النهاية شبكات عصبية، فهي مستوحاة من تكوين الأدمغة البشرية. وعلى الرغم من الاختلاف الكبير في شراهتهما المختلفة للطاقة والبيانات، فإن النماذج اللغوية الكبيرة والأدمغة البشرية تشتركان في الكثير من الأمور المشتركة، فكلتاهما تتألف من ملايين المكونات الفرعية: الخلايا العصبية البيولوجية في حالة الدماغ، و"العصبونات" التي تحاكي الخلايا العصبية في حالة الشبكات. وهما الشيئان الوحيدان على الأرض القادران على إنتاج اللغة بطلاقة ومرونة. وبالكاد يفهم العلماء الآلية التي يعمل بها أي منهما.

يمكنني أن أشهد على أوجه التشابه هذه: لقد جئت إلى الصحافة، وإلى الذكاء الاصطناعي، بعد ست سنوات من الدراسات العليا في علم الأعصاب. ومن الشائع بين علماء الأعصاب أن بناء شبكات عصبونية شبيهة بالدماغ هو أحد أكثر المسارات الواعدة في هذا المجال، وقد بدأ هذا الموقف ينتشر في علم النفس. ففي مطلع الشهر الحالي يوليو/تموز، نشرت مجلة نيتشر المرموقة دراستين تعرضان استخدام الشبكات العصبونية للتنبؤ بكيفية تصرف البشر والحيوانات الأخرى في التجارب النفسية. وتشير كلتا الدراستين إلى أن هذه الشبكات المدربة يمكن أن تساعد العلماء على تطوير فهمهم للعقل البشري. لكن التنبؤ بسلوك ما وتفسير كيفية حدوثه أمران مختلفان تماماً.

اقرأ أيضاً: وكلاء الذكاء الاصطناعي: هل يجب أن نثق فيهم كما نثق بالبشر؟ 

في إحدى الدراستين، عمل الباحثون على تحويل نموذج لغوي كبير إلى ما يشيرون إليه باسم "نموذج أساسي للإدراك البشري". من الناحية العملية، النماذج اللغوية الكبيرة ليست جيدة في محاكاة السلوك البشري، فهي تتصرف بطريقة منطقية في البيئات التي يتخلى فيها البشر عن المنطق، مثل الأندية الليلية الترفيهية. لذا عمد الباحثون إلى ضبط النموذج لاما 3.1، وهو أحد النماذج اللغوية الكبيرة المفتوحة المصدر من شركة ميتا، بالاعتماد على بيانات من مجموعة من 160 تجربة في علم النفس، والتي تضمنت مهام مثل الاختيار من بين مجموعة من "ماكينات ألعاب الحظ" للحصول على أقصى ربح مالي أو تذكر تسلسل الحروف. وأطلقوا على النموذج الناتج اسم "سنتور".

ومقارنة بالنماذج النفسية التقليدية، التي تستخدم معادلات رياضية بسيطة، حقق سنتور نتائج أفضل بكثير في التنبؤ بالسلوك. تعد التنبؤات الدقيقة حول كيفية استجابة البشر في تجارب علم النفس ذات قيمة في حد ذاتها، فعلى سبيل المثال، يمكن للعلماء استخدام سنتور لاختبار تجاربهم على أجهزة الكمبيوتر قبل تجنيد المشاركين من البشر ودفع أجورهم. ومع ذلك، يشير الباحثون في ورقتهم البحثية إلى أن سنتور قد يكون أكثر من مجرد آلة تنبؤ. ويقول العلماء إنه من خلال استجواب الآليات التي تسمح لسنتور بتقليد السلوك البشري بفعالية، يمكن للعلماء تطوير نظريات جديدة حول العمليات الداخلية للعقل.

آلية عمل الدماغ والنماذج اللغوية: صناديق سوداء

لكن بعض علماء النفس يشككون في أن سنتور يتمتع بأي قدرة على إخبارنا بالكثير عن العقل. ما هو مؤكد، هو أنه أفضل من النماذج النفسية التقليدية في التنبؤ بكيفية تصرف البشر، ولكنه يمتلك أيضاً ما يفوق النماذج التقليدية من المتغيرات الوسيطة بمليار مرة. والقول إن النموذج يتصرف مثل الإنسان من الخارج لا يعني أنه يعمل مثله من الداخل. تقارن الأستاذة المساعدة في العلوم المعرفية الحاسوبية في جامعة رادبود في هولندا، أوليفيا جيست، بين سنتور والآلة الحاسبة، التي يمكنها التنبؤ بفعالية بالإجابة التي يقدمها خبير الرياضيات عندما يطلب منه جمع رقمين، حيث تقول: "لا أعرف ما الذي يمكن أن تتعلمه عن الجمع البشري من خلال دراسة الآلة الحاسبة".

وحتى لو نجح سنتور في التقاط شيء مهم عن علم النفس البشري، فقد يواجه العلماء صعوبة بالغة لاستخلاص أي رؤية من ملايين الخلايا العصبية في النموذج. على الرغم من أن باحثي الذكاء الاصطناعي يعملون بجد لمعرفة كيفية عمل النماذج اللغوية الكبيرة، فإنهم بالكاد تمكنوا من فتح الصندوق الأسود. قد لا يكون فهم نموذج الشبكة العصبونية الهائل للعقل البشري أسهل بكثير من فهم الشيء نفسه.

يتمثل أحد الأساليب البديلة بالتوجه نحو نماذج صغيرة. تركز الدراسة الثانية على الشبكات العصبونية الصغيرة -بعضها يحتوي على عصبون واحد فقط- والتي يمكنها مع ذلك التنبؤ بالسلوك لدى الفئران والجرذان والقرود وحتى البشر. ولأن الشبكات صغيرة جداً، فمن الممكن تتبع نشاط كل عصبون على حدة واستخدام تلك البيانات لمعرفة كيفية إنتاج الشبكة لتنبؤاتها السلوكية. وعلى الرغم من عدم وجود ضمانات بأن هذه النماذج تعمل مثل الأدمغة التي دربت على محاكاتها، فهي تستطيع، على الأقل، توليد فرضيات قابلة للاختبار حول الإدراك البشري والحيواني.

اقرأ أيضاً: علماء عرب يطوّرون نموذج توأم رقمي يتحكم بقرينه المادي ويتكيف معه

التنبؤ بالسلوك يختلف عن فهمه 

امتلاك القدرة على الفهم مهمة مكلفة. على عكس سنتور، الذي جرى تدريبه على محاكاة السلوك البشري في عشرات المهام المختلفة، لا يمكن لكل شبكة صغيرة أن تتنبأ بالسلوك إلا في مهمة محددة واحدة. إحدى الشبكات، على سبيل المثال، متخصصة في تقديم تنبؤات حول كيفية اختيار الناس بين ماكينات ألعاب الحظ المختلفة. يقول الأستاذ المساعد في علم النفس والعلوم العصبية في جامعة نيويورك الذي قاد دراسة الشبكة الصغيرة وساهم أيضاً في سنتور، مارسيلو مطر: "إذا كان السلوك معقداً حقاً، فأنت في حاجة إلى شبكة كبيرة. الحل الوسط، بطبيعة الحال، يعتمد على فكرة مفادها أن فهمها الآن صعب للغاية".

هذه المفاضلة بين التنبؤ والفهم هي سمة أساسية من سمات العلوم التي تعتمد على الشبكات العصبونية. (ويصادف أنني أكتب كتاباً حول هذا الموضوع) وتحرز دراسات مثل دراسة مطر بعض التقدم نحو سد هذه الفجوة، فعلى الرغم من صغر حجم شبكاته، فإنها قادرة على التنبؤ بالسلوك بدقة أكبر من النماذج النفسية التقليدية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأبحاث التي تجري في أماكن مثل شركة أنثروبيك حول قابلية النماذج اللغوية الكبيرة للتفسير. أما في الوقت الراهن، فإن فهمنا للأنظمة المعقدة -بدءاً من البشر إلى الأنظمة المناخية ووصولاً إلى البروتينات- يتخلف أكثر فأكثر عن قدرتنا على وضع تنبؤات بشأنها.

المحتوى محمي