يمكن فهم مصطلح فلسفة البيانات -أو كما باتت تعرف بالداتايزم (Dataism)- عبر إدراك أن العالم يزداد اعتماده على تبادل البيانات، وأن قيمة كل شيء مبنية على عمق البيانات المتداولة بشأنه وكيفية رصدها وتحليلها للاستفادة منها؛ بدءاً من تحليل البيانات الصحية الشخصية لتحديد وقت التمرين التالي، وصولاً إلى تأكيد موعد الاجتماع التالي بعد احتساب الطريق الأقصر للوصول إلى مكان الاجتماع. وكلما تطورت تقنيات الاستفادة من البيانات، تداخلت عملية الربط بين الأطراف أكثر، سواءً كانوا أشخاصاً أو آلات أو مؤسسات. وبالرغم من الجدل المتواصل حول إيجابيات وسلبيات فلسفة البيانات، فإن دخول هذه الفلسفة إلى قطاع البناء والإنشاء أصبح أكثر واقعية. وربما نختلف في وجهات النظر حول فلسفة البيانات فيما يتعلق بالمعلومات الشخصية ومسائل الخصوصية، لكن لا بد أننا نتفق أكثر على أنه كلما زادت الشفافية وتشارك المعلومات على مستوى الأعمال، تعززت الثقة ونمت الإنتاجية.
لقد أثبت تطوير الرقمنة في قطاع البناء والإنشاء فوائده وإيجابياته في عدة نواحي، مثل تسريع عملية الإنجاز وتسهيل تبادل المعلومات. وقد أجمعت عدة تقارير ودراسات دولية ومحلية على إمكانية التغلب على التحديات في قطاع الإنشاء من خلال تسخير تقنيات المعلومات لتذليل الكثير من الصعوبات. ولعل أبرز المشاكل التي يكاد يجمع عليها كلُّ مَن عمل في هذا القطاع هي إدارة العقود والدفع مقابل الإنجاز.
التحدي الأبرز في مشاريع البناء: سيولة الدفع
يعتمد النجاح في إنجاز أي مشروع على مجموعة من العلاقات التجارية، مثل طلبات الشراء لمواد البناء أو عقود مع المقاولين. وكلما كبر حجم المشروع، زادت تشابكات العقود وشروط التنفيذ وطريقة دفع المستحقات المالية لكل الشركات الموردة والمنفذة. وعادةً ما يشوب هذه العقود عدة معوقات مرتبطة بتسلسل وتراتبية العمل بالإضافة لعوامل خارجية، ويبقى العائق المشترك لكل الأطراف هو سيولة الدفع. تتباين أسباب التأخر في الدفع، لكن أهمها هو الاختلاف على تقييم الإنجاز أو مماطلة الممول لعدم توافر السيولة. وفي أغلب الأحيان لا يبرر أي من هذين السببين توقف العمل فوراً بسبب تفسير بنود العقد؛ فالعلاقات بين طرفي العقد تحتم في كثير من الأحيان قبول التأخر بالقبض فتزداد الفجوة بين المُنجَز والمبلغ المستحق؛ ما يسبب عبئاً يضاف إلى معوقات أخرى.
الحلول التي تقدمها فلسفة البيانات
لم يعد قطاع الإنشاء المتفرج الصامت على التطورات التقنية؛ فقد تسارعت خطوات تبني تكنولوجيا المعلومات عند أغلب شركات التصميم والمقاولات. وتعد هذه التكنولوجيا الطريقَ الأمثل لحل أكثر المشاكل تعقيداً، ومنها الدفع عند الإنجاز. وقد ظهر خلال السنوات الماضية الكثير من البرامج والحلول الرقمية التي ساهمت في تخفيف الكثير من التحديات المتوارثة في مشاريع البناء. بعض هذه الحلول مازالت في بدايتها مثل العقود الرقمية، وبعضها قطعت أشواطاً كبيرة من التطور مثل نمذجة معلومات المباني (BIM)، وتقنية البلوك تشين.
فلننظر الى كل تقنية منهما قبل أن نعتبر القيمة المضافة من دمج هذه الحلول.
العقود الرقمية لتعزيز الثقة
العقود الرقمية أو العقود الذكية هي برنامج حاسوبي يترجم العقد الورقي الى أوامر إلكترونية تعتمد على سلسلة بنود مدخلة بالشيفرة المصدرية. ويمكن الإيفاء بالأحكام التعاقدية من خلال التأكيد على تطبيق البند والاستغناء عن الوسيط في حال العقد الورقي. ولأن التدخل البشري في هذه الحالة يقتصر على التأكد والتحقق من الإنجاز التسلسلي، فإن الالتزام بتنفيذ كل بند يصبح الشرط الأساسي للانتقال إلى المرحلة التالية من الإنجاز. لا تزال العقود الذكية في بدايات التطوير وخصوصاً في تطبيقات قطاع البناء، ويمكننا أن نبني على نماذج بدأت تظهر مثل عقود التأمين أو عقود الرهن العقاري.
ويكمن أحد أبرز التحديات في تحقيق شروط العقود الذكية في التأكد من الإنجاز طبقاً للمواصفات المتفق عليها، وهنا يبرز دور تقنية نمذجة المعلومات.
التوأم الرقمي مقياس للإنجاز
تزايد استخدام تقنية نمذجة المعلومات في إنشاء المشاريع الجديدة، وخصوصاً في عدة دول عربية. فالتوأم الرقمي هو نسخة إلكترونية تحمل كل تفاصيل المشروع في نموذج ثلاثي الأبعاد يحمل كل مواصفات وبيانات المشروع. والأهم من ذلك أن العقد الأخير شهد تطوراً ملحوظاً في إدارة المشاريع وإدارة بيانات المشاريع. فأصبح لدينا ثلاثة محاور سير لأي مشروع تتمثل في إصدار نموذج إلكتروني محمل بكل المواصفات، يقابله إنجاز على أرض الواقع لمطابقة التصميم الثلاثي، ومن ثم يربط بينهما تبادل رقمي لكل بيانات الإنجاز وتفاصيل البناء.
حلقة الوصل: تقنية البلوك تشين لتسهيل عملية الدفع
يبقى لدينا التحدي الأصعب وهو عملية الدفع حسب بنود العقد بين أطراف المشروع. فإذا استطعنا أن نوفر تبادل المعلومات بين الإنجاز والمقياس الرقمي، فكيف لنا أن نحول عملية الدفع لتصبح فورية؟ لا تكمن الصعوبة في عملية التحويل بحد ذاتها؛ فالقطاع المصرفي قد حقق تقدماً واضحاً وطبق الكثير من التقنيات في هذا المجال. بل تتمثل الصعوبة في تسلسل الأحداث لإتمام بنود العقد؛ حيث إنها تتطلب موافقات وتأكيدات من عدة عناصر في المشروع قد تكون موزعة على عدة شركات، هذا بعد التأكد من توافر السيولة. والحل المقترح هنا هو الاستعانة بتقنية البلوك تشين التي تحمل كل الخصائص المطلوبة لتمكين العقد الذكي ولربط أتمتة الدفع عند الإنجاز.
تعتمد تقنية البلوك تشين -التي تقوم عليها العملات الرقمية- على التخزين والتحقق من صحة وترخيص التعاملات على شبكة الإنترنت بدرجة تشفير آمنة يصعب كسرها. ومع أن تعاملات العملة الرقمية تتم على منصة عامة مفتوحة، فإن البلوك تشين الذي سيربط إنجاز المشروع سيكون ضمن دائرة مغلقة ومحدودة للعناصر المدرجة ضمن العقود الذكية للمشروع. وإليكم أهم فوائد الاعتماد على البلوك تشين في أتمتة عملية الدفع:
- زيادة الثقة بين أعضاء المشروع من خلال إدارة وتنفيذ العقود بسلاسة وشفافية أكبر.
- تسهيل إدارة وإنجاز المشروع ضمن الوقت المحدد.
- تحسين رصد وتخزين كل بيانات التنفيذ.
- تحقيق معايير الحوكمة.
ما زالت هذه الحلول في بداياتها؛ حيث إن التقنيات الثلاثة متوافرة في عدة مراحل من التطور. وسنشهد خلال فترة قصيرة نتائج هذا الدمج في التكنولوجيا.
إذا أردنا النظر إلى قطاع الإنشاء من وجهة نظر فلسفة البيانات فقد يصبح لدينا شفافية أكبر في التقصي والتدقيق عن حال الشركات قبل المساهمة في المشاريع. عندما يعلم كل الأطراف مسبقاً عن توافر السيولة اللازمة لإنجاز المشروع ويطمئن الممول أن الموردين والمقاولين سيستخدمون منصة موحدة لتشارك بيانات التنفيذ، فسيؤدي ذلك إلى تعزيز الثقة بالالتزام بالعقود، وبالتالي فإن الجميع سيلتفت للإنجاز بدلاً من الانشغال بالخلافات التعاقدية والقانونية.