في أواخر شهر يونيو الماضي، وقف البروفيسور توماس زودهوف، أستاذ علم الأعصاب في جامعة ستانفورد، الحائز جائزة نوبل في الطب لعام 2013، أمام جمع غفير من الباحثين والصحفيين ليقول إن نظام المجلات العلمية الحالي لم يعد الوسيلة المثلى لنشر المعرفة، وإن صناعة النشر العلمي تحولت إلى واحدة من أكبر الصناعات غير المنظمة، إذ تحقق أرباحاً هائلة دون وجود رقابة حقيقية على جودة ما ينشر.
وخلال المحاضرة التي ألقاها ضمن فعاليات اجتماع لينداو الرابع والسبعين لحائزي جائزة نوبل، عرض زودهوف لمحة عن التحديات التي يواجهها نظام النشر العلمي الحالي، كاشفاً عن القلق المتزايد حتى لدى كبار الباحثين على المستوى العالمي نتيجة تراجع مستوى النزاهة العلمية في وقت تتزايد فيه أعداد الدوريات والأوراق البحثية، التي أصبح الكثير منها بلا قيمة حقيقية.
اقرأ أيضاً: كيف تفكّر نماذج الذكاء الاصطناعي؟ علماء يكشفون أسرار العقول الرقمية خطوة بخطوة
النشر العلمي: صناعة متضخمة بهوامش ربح غير مسبوقة
شهد النشر العلمي نمواً متسارعاً خلال العقود الأخيرة، إذ تنشر اليوم أكثر من 3 ملايين ورقة بحثية سنوياً في عشرات آلاف من الدوريات حول العالم. وتستحوذ خمس دور نشر كبرى على أكثر من نصف هذا السوق، وهي: إلزيفير وبلاك آند وايلي وتايلور آند فرانسيس وسبرينغر نيتشر وساج، وتعد إلزيفير هي الأكبر بحصة سوقية تقارب 16%، ونحو 2900 دورية أكاديمية تنشر مجتمعة ما يقارب 470 ألف مقالة علمية كل عام.
ويظهر تحليل أجرته شركة التحليلات "كلاريفيت"، ونشرته صحيفة الغارديان البريطانية، أن عدد الدراسات المفهرسة على قاعدة بيانات "ويب أوف ساينس" التابعة للشركة ارتفع بنسبة 48%، من 1.71 مليون عام 2015 إلى 2.53 مليون دراسة عام 2024. وبجمع أنواع المقالات العلمية الأخرى كلها، فإن العدد الإجمالي يصل إلى نحو 3.26 مليون.
على الرغم من هذا التكاثر السريع للمجلات والدراسات العلمية، يشير العديد من الباحثين إلى أن صناعة النشر العلمي تعاني مشكلات واسعة. على سبيل المثال، قدم مجلس تحرير دورية التطور البشري (Journal of Human Evolution)، وهو من أبرز الدوريات المتخصصة في علم الإنسان القديم، استقالته بشكل جماعي في شهر ديسمبر الماضي، إثر خلاف مع دار إلزيفير. وشملت اعتراضات المجلس نقص الدعم في عمليات التحرير اللغوي وارتفاع رسوم النشر بنظام الوصول المفتوح بما يفوق قدرة العديد من الباحثين، إضافة إلى اتهامات لدار النشر باستخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج، ما تسبب في أخطاء علمية جوهرية.
وعلى الرغم من نفي إلزيفير هذه المزاعم، فإن تزايد وتيرة مثل هذه الاستقالات الجماعية لمحرري المجلات يسلط الضوء على المشكلات الأوسع نطاقاً التي تعانيها هذه الصناعة، والتي تقدر مبيعاتها على مستوى العالم بأكثر من 19 مليار دولار، وتحقق هوامش ربح قد تتجاوز 40%، ما يضعها في مصاف صناعات تجارية ربحية مثل صناعة الموسيقى وصناعة السينما.
مشكلات تواجه "مراجعة الأقران"
يعتقد زودهوف أن الكم الهائل من الأبحاث المنشورة يجعل من المستحيل تقريباً قراءة كل ما ينتجه نظام النشر الحالي أو استيعابه، مضيفاً أن جوهر المشكلة يكمن في غياب المعايير والضوابط والرقابة، ما قد يمكن أي شخص من إنشاء مجلة علمية يدعي أنها تخضع للمراجعة، ويطلب من المؤلفين آلاف الدولارات مقابل نشر أبحاثهم على الإنترنت، دون حتى وجود تكاليف للطباعة. ومع أنه لا يرى أن هذا الأمر يمثل احتيالاً مباشراً، فإن نتيجته النهائية هي انخفاض الجودة لأن غياب التنظيم والرقابة يعني غياب آليات المراجعة والتوازن.
وفي السياق ذاته، تكشف دراسة مهمة نشرت نهاية العام الماضي في مجلة دراسات العلوم الكمية، أن حجم المقالات المنشورة بات يثقل كاهل العلماء بشكل متزايد. فالنمو الهائل في أعداد الأوراق المنشورة في الدوريات المحكمة لم يواكبه تدريب باحثين جدد قادرين على تدقيق هذه المقالات، كما تواجه المجلات العلمية صعوبات في توظيف مراجعين مؤهلين، ما قد يفرغ نظام مراجعة الأقران من مضمونه. وتوضح الدراسة أنه إذا سُمح للدقة العلمية بالتراجع، فسيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إضعاف قيمة مصطلح "العلم" نفسه.
ويرى زميل ما بعد الدكتوراة في جامعة القطب الشمالي بالنرويج، مارتن هاجف، أن المشكلة تكمن في أن معظم المحررين الأكاديميين يتقاضون أجوراً رمزية فقط، وأن مراقبة الجودة والتدقيق تتم من خلال مراجعة الأقران، وهو عمل تطوعي غير مدفوع الأجر. وتشير دراسة أخرى منشورة عام 2021 إلى أن إجمالي الوقت الذي قضاه المراجعون حول العالم في مراجعات الأقران تجاوز 100 مليون ساعة عام 2020، أي ما يعادل أكثر من 15 ألف عام.
وتقدر القيمة النقدية للوقت الذي قضاه المراجعون في الولايات المتحدة في المراجعات عام 2020 وحده بأكثر من 1.5 مليار دولار. وربما يفسر هذا جزئياً كيف تحقق شركات النشر أرباحاً تفوق أرباح بعض شركات التكنولوجيا الكبرى. فالحكومات تمول البحث العلمي، والعلماء يدفعون مقابل نشر المقالات كما يقدمون المراجعات مجاناً، ثم تدفع الجامعات اشتراكات ضخمة للناشرين للحصول على المنتج (الذي شارك علماؤها أنفسهم في إنتاجه).
الوصول المفتوح: علم متاح للجميع أم عبء على الباحثين؟
على الرغم من أن الكثير من مبادرات إصلاح نظام النشر تتمحور حول فكرة الوصول المفتوح (Open Access)، التي تتيح للجمهور قراءة الأبحاث بلا حواجز اشتراك، فإن هذا الخيار ينقل عبء الدفع من القارئ إلى المؤلف عبر ما يعرف برسوم معالجة المقالة (APC). وتتراوح رسوم النشر في مجلات الوصول المفتوح بين 1500 و3000 دولار، وقد تصل أحياناً إلى 6000 دولار وربما ضعف هذا الرقم في بعض المجلات المرموقة. وبين عامي 2015 و2018 دفع الباحثون أكثر من مليار دولار للناشرين الخمسة الكبار مقابل رسوم الوصول المفتوح، كما أن هذه الرسوم المرتفعة تحفز الناشرين على زيادة عدد المقالات المنشورة عبر إطلاق مجلات جديدة أو نشر آلاف "الأعداد الخاصة"، ما يهدد بتقويض معايير الجودة.
إلى جانب ذلك، لا يجري الكثير من هذه المجلات مراجعات موثوقة لما ينشر. ويشير هاجف إلى تجربة حقيقية أجراها الصحفي والعالم جون بوهانون عام 2013 عندما أرسل ورقة بحثية مزيفة إلى 304 مجلات وصول مفتوح. والنتيجة أن 60% من المجلات التي تعاملت معها لم تجرِ أي عملية تحكيم، و70% من المجلات التي استعانت بمحكمين وافقت عليها. وفي النهاية قبلت أكثر من 150 مجلة نشر هذه الدراسة الزائفة دون أي مؤشرات تذكر على جودة النشر أو مراجعة الأقران.
وثمة مشكلة أخرى تواجه الباحثين وهي ارتباط توسع النشر الأكاديمي بثقافة "انشر أو اندثر" التي تقيم الباحثين بناءً على عدد الدراسات المنشورة والاستشهادات التي تحصدها. وتشير دراسة حديثة قادها باحثون من جامعة إنديانا الأميركية إلى هيمنة ما يعرف بـ "اقتصاد المكانة"، حيث يركز الباحثون على إرسال أعمالهم إلى مجلات ذات معامل تأثير مرتفع، لأن الترقية والتمويل يعتمدان بشكل كبير على عدد المنشورات والاستشهادات. هذا الترابط بين النشر والتمويل يخلق حوافز مشوهة تدفع العلماء إلى مطاردة المؤشرات الكمية بدلاً من التركيز على جودة البحث.
اقرأ أيضاً: إلغاء التعلم الآلي: الحل الجديد لمنع استنساخ الأصوات في الذكاء الاصطناعي
دعوة إلى إصلاحات جذرية
تقترح الدراسة، التي نشرت هذا العام في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، نهجاً إصلاحياً متعدد الجوانب يتضمن نقل السيطرة على المجلات العلمية من الشركات التجارية الساعية إلى الربح إلى المؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الربحية التي تضع جودة البحث ونزاهته كأولوية. وتشير إلى أمثلة حديثة، مثل استقالة هيئة تحرير مجلة نيوروإيميدج (NeuroImage) عام 2023 وإطلاقهم مجلة بديلة غير ربحية.
كما تؤكد الدراسة أهمية تبني نماذج جديدة في النشر تقلل تعقيدات النظم التقليدية، مثل الاعتماد على خوادم ما قبل النشر، وتجريب أسلوب النشر المعياري الذي يتيح إصدار البحث في أجزاء أصغر وأكثر شفافية. ويضاف إلى ذلك النماذج المجتمعية للتحكيم العلمي مثل منصة بيير كوميونتي إن (Peer Community In) التي تشرك المجتمع البحثي في عملية المراجعة بدلاً من اقتصارها على عدد محدود من المحكمين.
من جانبه، يقترح زودهوف حلولاً عملية أخرى، منها أن تفرض الرسوم عند تقديم البحث للنشر وليس عند قبوله حتى لا يكون المؤلفون مدفوعين لإرسال أعمالهم بشكل عشوائي لأي مجلة، وحتى لا تكون المجلات مدفوعة لقبول الأبحاث لمجرد تحصيل رسوم النشر. ويضيف أن بعض دور النشر، مثل نيتشر و"إي لايف"، تنشر بالفعل المراجعات بالكامل بحيث يطلع القارئ على ما قاله المراجعون، وما إذا كانت مراجعاتهم قد طالت جوهر البحث. كما شدد على أهمية مراقبة سجل المحررين، إذ إن هوياتهم وآليات اتخاذ قراراتهم -مثل اختيار المراجعين- كثيراً ما تكون مجهولة.
ويقترح زودهوف كذلك استلهام إحدى الممارسات المتبعة في صناعة الأدوية، وهي المراجعة اللاحقة للموافقة (post-approval review)، مثلما يحدث بعد إجازة الدواء في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، مشيراً إلى أن شركات الأدوية تكره هذا النوع من المراجعات وتحاول تأجيله، لكنه يرى أن تطبيق نموذج مماثل في النشر العلمي قد يكون خطوة مهمة لتعزيز الجودة والمساءلة.
وتأتي هذه الاقتراحات في وقت تستعد فيه الجمعية الملكية البريطانية لإصدار مراجعة شامل لنظام النشر العلمي بحلول نهاية هذا الصيف، ستركز على "الاضطرابات" التي قد تواجه هذه الصناعة في السنوات الخمس عشرة المقبلة.
يبدو جلياً أن الأسس الربحية التي باتت توجه دفة النشر الأكاديمي تشكل خطراً حقيقياً على نزاهة البحث العلمي. فعندما تصبح الأولوية للكسب المادي وحجم الإنتاج على حساب التدقيق والجودة، تتراجع الثقة في النتائج العلمية وتتعرض استقلالية البحث للخطر. وبدلاً من طرح أسئلة علمية جريئة أو التعمق في مشكلات معقدة قد يستغرق حلها سنوات، قد يلجأ الباحثون إلى اختيار مواضيع رائجة وأسهل للنشر على حساب الأسئلة الأكثر أهمية وصعوبة. وقد يكمن الحل في تبني المقترحات التي تدعو إلى تغيير معايير التقييم الأكاديمي للحد من الهوس بالأرقام، والتركيز بدلاً من ذلك على جودة وأساليب البحث.