من المقرر أن يبدأ أول علاج تجاري يعتمد على التعديل الجيني في العالم بإحداث انقلاب في حياة المصابين بمرض فقر الدم المنجلي. يحمل هذا العلاج اسم كاسغيفي (Casgevy)، وقد حاز الموافقة الرسمية في المملكة المتحدة منذ فترة قريبة. أمّا الموافقة في الولايات المتحدة فلا تزال قيد الانتظار.
يعتمد هذا العلاج، الذي ستبيعه شركة فيرتيكس فارماسوتيكالز (Vertex Pharmaceuticals) في الولايات المتحدة، على تقنية كريسبر (CRISPR) التي فازت بجائزة نوبل، وهي تعمل على نحو يشبه مقصاً جزيئياً، ما دفع بالصحافيين إلى البحث عن تشبيهات رنانة لها مثل "السكين المتعددة الاستخدامات" و"المبضع الجزيئي" و"أداة النسخ واللصق للحمض النووي". وبالفعل، توصف تقنية كريسبر بأنها ثورية، لأنها تُتيح للعلماء برمجتها بسهولة كي تقص الحمض النووي في أماكن محددة ودقيقة من اختيارهم.
السؤال الأهم: إلى أين يجب توجيه كريسبر؟
لكن، إلى أين يجب توجيه كريسبر؟ هذه هي القصة الأقل شهرة لهذا الإنجاز غير المسبوق في علاج فقر الدم المنجلي. ينجم هذا المرض عن عيب في الهيموغلوبين، وهو الجزيء الذي يحمل الأوكسجين في الدم. لكن فيرتيكس وشريكتها، شركة كريسبر ثيرابيوتيكس (CRISPR Therapeutics)، لن تشفيا هذا المرض من خلال إصلاح الجينات المسؤولة عن هذا التحول الذي يتسبب بتشويه هذه الجزيئات. وبدلاً من ذلك، يعتمد العلاج على أسلوب غير مباشر جزئياً، وذلك من خلال تعديل يهدف إلى تفعيل الهيموغلوبين الجنيني، وهو شكل ثانوي من الهيموغلوبين الذي يكون موجوداً لدى الأجنة، ثم يختفي مع سن البلوغ.
ويعتمد هذا التعديل في عملية التفعيل هذه على عملية تثبيط مضاعفة. فهو يعمل من خلال إضافة خطأ "إملائي" إلى نظام تفعيل جين آخر يسمى BCL11A، وهو الجين الذي يعمل بدوره على تثبيط إنتاج الهيموغلوبين الجنيني في أجسام البالغين. ومن دون ذلك النظام للتفعيل، تخف عملية التثبيط، ما يعني زيادة الهيموغلوبين الجنيني. هل هذا مفهوم؟
يقول الأستاذ في مستشفى بوستن للأطفال وجامعة هارفارد، دانيال باور، الذي ساعد على حل المشكلة: "عند تثبيط المعزز، يؤدي هذا إلى تثبيط المثبط. إنها طريقة معقدة نوعاً ما".
اقرأ أيضاً: ابتكار جديد لعلاج فقر الدم المنجلي باستخدام تقنية كريسبر
لكن الأمر المهم هنا هو النهاية السعيدة، التي تثبت أن هذا التعديل ناجح حقاً. يقول بعض المرضى إنهم كانوا يعيشون في حالة دائمة من الخوف بسبب الموت المحدق بهم، إمّا بسبب نوبة حادة من التمنجل (عندما تبدأ خلايا الدم الحمراء لديهم بسد الأوعية الدموية) أو التلف الخبيث والبطيء الذي تتعرض له أعضاء الجسم. والآن، يقول أوائل المتطوعين للتجارب السريرية إنهم ممتنون لشفائهم، بل ويشعرون بشيء من الصدمة أيضاً، بعد أن عاشوا مع المرض طوال حياتهم.
نظرية الأطفال الحديثي الولادة
ليست نظرية استخدام الهيموغلوبين الجنيني لمواجهة هذا المرض بالنظرية الجديدة. يبلغ انتشار هذا المرض أعلى مستوى له بين الأشخاص ذوي الأصول الإفريقية. وفي 1948، لاحظت طبيبة في منطقة لونغ آيلاند التابعة لولاية نيويورك، جانيت واتسون، أن أعراض المرض لا تظهر مطلقاً على الأطفال الحديثي الولادة، بما فيها العارض الرئيسي، وهو خلايا الدم الحمراء المشوهة الهلالية الشكل. وقد كان هذا غريباً للغاية بالنسبة لمرض وراثي.
وكتبت واتسون قائلة: "من المفترض أن نشهد إصابات بمرض فقر الدم المنجلي في مرحلة الطفولة على نحو مماثل للإصابات في مراحل أخرى من الحياة". لكن نظراً لعدم حدوث ذلك، وضعت واتسون فرضية تقول إن الشكل الجنيني للجزيء، في حالة فعّالة داخل الرحم، كان يحمي الأطفال بعد الولادة بضعة أشهر، قبل أن يحل محله الشكل الخاص بالبالغين: "تقول النظرية التي طرحت نفسها على الفور إن الهيموغلوبين الجنيني لا يمكن أن يؤدي إلى التمنجل"،
وكانت محقة. لكن تحديد آلية هذا الانتقال وكيفية عكسه، استغرق ستة عقود أخرى. حقق الباحثون الكثير من هذه الاكتشافات في مختبر الباحث من جامعة هارفارد، ستيوارت أوركين، الذي نشر ورقته البحثية الأولى عام 1967، وشهد عدة مراحل من البحث في مجال أمراض الدم، منذ ظهور عِلم الأحياء الجزيئي.
اقرأ أيضاً: هل تكون الخطوة التالية لتقنية كريسبر هي تعديل الجينات للعموم؟
وقد أخبرني أوركين مبتسماً عندما التقيته على الغداء لتناول شطيرة من لحم البقر المحفوظ: "أنا أحد أواخر الباقين من تلك المرحلة".
إنه عالِم ذكي قرر منذ زمن طويل دراسة آليات تنظيم النظام الدموي في الجسم. كان هذا الموضوع رائعاً من الناحية اللوجستية، حيث يمكن الحصول على خلايا الدم ودراستها بسهولة.
اقرأ أيضاً: تقدم واعد في تقنية كريسبر يمهد الطريق لتطوير علاجات فردية مخصصة
يقول أوركين: "يستهويني حل المشكلات، وهذه مشكلة قابلة للحل. كيف يعمل النظام الدموي، وبعد ذلك، كيف يمكننا أن نتخذ أي إجراء يتعلق به؟"
مكوّن خاص
يقول كبير الموظفين العلميين في شركة التكنولوجيا الحيوية كريسبر ثيرابيوتيكس التي بدأت تطوّر العلاج أول مرة قبل ثمانية أعوام (انضمت إليها فيرتيكس لاحقاً بصفة شريكة)، بيل ليندبيرغ، إن مشروع الشركة المتعلق بفقر الدم المنجلي استفاد على نحو مباشر من النتائج التي توصل إليها أوركين. ويقول: "لم تحظَ مساهمة ستيوارت بما تستحقه من التقدير، ففي غضون بضعة أعوام وحسب، نفذ مختبره سلسلة من التجارب، وكانت كل تجربة تتضمن طالباً جديداً، وقد نشر كل واحد من هؤلاء الطلاب الجدد عمله في مجلة "ساينس" (Science) أو "نيتشر" (Nature). وهذا هو المكوّن الخاص الذي انتهى بنا المطاف إلى استخدامه في عملنا".
نظراً للمديح الذي تكيله وسائل الإعلام لتقنية كريسبر للتعديل الجيني، لا يدرك الكثيرون أنها، عملياً، أكثر فاعلية في تمزيق الجينات وإحداث الندوب فيها، لا تعديلها من خلال عمليات أنيقة لإعادة كتابة مكوناتها (على الرغم من أن هذه الطريقة ستصبح ممكنة قريباً). بالنسبة لأولى الشركات الناشئة المختصة بكريسبر، كان هذا يعني ضرورة العثور على جينات لتعطيلها. ما الجينات التي يمكن تعطيلها داخل الجينوم لشفاء مرض ما؟
حصلت ثلاث شركات -وهي شركات إيديتاس (Editas) وإنتيلا (Intella) وكريسبر ثيرابيوتيكس- على تمويل كبير من أصحاب رؤوس الأموال المغامرة عام 2014 تقريباً. وبالنسبة لهذه الشركات، فإن مجرد التفكير في تغيير الجينوم البشري بدا ثورياً بما يكفي. "لقد قلت لهم: دعونا لا نسعى إلى حل مشكلات العالم، لنعمل بأسلوب بسيط، لنسأل أنفسنا أين نجد في علم الجينات البشرية ما يعلمنا أن تعديلها سيؤدي إلى شفاء المرض"، كما يقول ليندبيرغ، مستذكراً اجتماعه مع مؤسسي الشركة. ويكمل قائلاً: "وهنا حان دور 50 عاماً من الأبحاث حول الهيموغلوبين الجنيني".
اقرأ أيضاً: ما هي تكنولوجيا الأورجانويدات وكيف ستُحدث ثورة في المجال الطبي؟
كان فقر الدم المنجلي هدفاً جذاباً، فهو أكثر الأمراض الجينية الوراثية الخطيرة انتشاراً في الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، يمكن إزالة الخلايا الجذعية التي تصنع خلايا الدم الحمراء والبيضاء من جسم الإنسان وإعادتها إليه ثانية، وذلك من خلال عملية معروفة باسم زراعة نخاع العظم. وهو ما يُتيح تفادي الحاجة إلى استخدام تكنولوجيات معقدة لإيصال العلاج إلى الأماكن المطلوبة داخل جسم المريض. ويمكن تحقيق هذا كله في المختبر.
هذه هي طريقة عمل علاج فيرتيكس بالضبط. حيث تجري إزالة بعض الخلايا الجذعية للمريض من الدم بمساعدة آلة تصفية، ويُضاف بروتين كريسبر القاطع إليها مع صعقة كهربائية حتى يبحث عن الجين BCL11A ويفككه، وهو الجين الذي يتحكم في إنتاج الهيموغلوبين الجنيني. بعد ذلك، تُعاد الخلايا المعدّلة إلى جسم المريض من خلال حقنها داخل أحد الأوعية الدموية. وبعد ذلك، تتضاعف هذه الخلايا وتبدأ إنتاج الهيموغلوبين الجنيني، كما يحدث داخل أجسام الأطفال الحديثي الولادة الذين لاحظت واتسون أنهم لا يعانون أعراض المرض.
هذه العملية قابلة للتنفيذ بمراحلها كافة، لكنها أيضاً عملية مضنية بالنسبة للمرضى. فزراعة نخاع العظم تتطلب الخضوع للعلاج الكيميائي. حيث يتعين على الأطباء تدمير النظام الدموي لإفساح المجال أمام الخلايا الجذعية المعدلة. ويتعين على المرضى إمضاء أسابيع عديدة في المستشفى، كما يمكن أن يؤدي العلاج إلى إصابتهم بالعقم. ليس من المتوقع أن يلجأ إلى هذا العلاج سوى الأشخاص الذين يعانون أصعب الأعراض وأشدها وطأة، أي ما قد لا يتجاوز شخصاً واحداً من أصل كل 10 مصابين بفقر الدم المنجلي.
يمثّل علاج فيرتيكس إنجازاً مرحلياً بارزاً، لأنه يعلن بداية عصر الاستثمار التجاري لتعديل الجينات البشرية. يقول المدير السابق لمشاريع تطوير الأدوية في شركة فايزر (Pfizer)، ويليام باو، الذي درس دواء فيرتيكس في إطار عمله على كتاب لم يُنشَر بعد حول عناصر الإنجازات الطبية غير المسبوقة: "إنه علامة فارقة في التاريخ البشري، وأساس مهم للإنجازات المستقبلية المحتملة.
اقرأ أيضاً: نظام قائم على تقنية كريسبر لإجراء آلاف اختبارات الكشف عن 169 فيروس بما فيها كورونا
يجب على أي دواء يحوز الموافقة أن ينجح في تحقيق توازن مثالي، يمثّل تقاطع المعلومات العلمية والتقنية والسريرية". تمثّل هذه التركيبة أيضاً السبب الذي يجعل الأدوية الجديدة تميلُ إلى الظهور ضمن مجموعات. فبدلاً من ظهور دواء واحد لعلاج الاكتئاب، ستظهر موجة من خمسة أدوية على حين غرة. يقول باو: "ما إن تحصل على هذه المعلومة المذهلة، سيسارع الجميع إلى الاستفادة منها". هذا صحيح أيضاً بالنسبة لفقر الدم المنجلي. فقد دخل علاجان آخران يعتمدان على التعديل الجيني، من شركتي إيديتاس ميديسينز (Editas Medicines) وبيم ثيرابيوتيكس (Beam Therapeutics)، في مرحلة التجارب السريرية، وكلاهما أيضاً يهدفان إلى زيادة الهيموغلوبين الجنيني. إضافة إلى هذا، فقد توافق إدارة الغذاء والدواء الأميركية قريباً على علاج جيني من شركة بلوبيرد بايو (BlueBird Bio)، وهو يعتمد في الواقع على إضافة نسخة جديدة كاملة من جين الهيموغلوبين.
مرض جزيئي
أخبرني باو أنه لا يعتقد أن القصص المتعلقة بالأدوية الجديدة تحظى بما تستحق من الاهتمام. فالناس يرغبون في رؤية أفلام حول كيفية سرقة مارك زوكربيرغ فكرة فيسبوك، أو الاطلاع على قصة تصميم جوني آيف هاتف آيفون. ويكمل قائلاُ: "لكن في حالة الأدوية، لا يمكن لفظ الأسماء بسهولة، وينفر معظم الأشخاص من فكرة الحصول على الدواء، إضافة إلى أن العمل على الأدوية يستغرق عقوداً من الزمن. ليس الدواء تطبيقاً تحمله في يدك".
في حالة فقر الدم المنجلي، بدأت الرحلة من السبب إلى العلاج في 1910، عندما لاحظ طبيب أميركي أول مرة، وعبر عدسة المجهر، أن خلايا الدم الحمراء لرجل من جزر ويست إنديز لها شكل "هلالي" أو "منجلي". يُعزى هذا الشكل إلى الهيموغلوبين المتحول، ما يجعل هذه الخلايا أكثر قابلية للالتصاق، وأقل قدرة على حمل الأوكسجين في الدم.
اكتسب المرض مزيداً من الشهرة (خصوصاً في الأوساط العلمية) عام 1949، عندما تمكن الكيميائي الفائز بجائزة نوبل مرتين، لاينوس بولينغ، من قياس فرق الشحنة الذرية بين الهيموغلوبين السليم والهيموغلوبين المنجلي، ما دفعه إلى إطلاق لقب ’أول مرض جزيئي‘ على فقر الدم المنجلي، معلناً بداية عصر جديد من الطب العلمي".
اقرأ أيضاً: هل ستعالج تقنية كريسبر أمراضاً كالمهق قريباً؟
وخلال عملية البحث عن الدواء، استمر الباحثون بالعودة إلى ملاحظات واتسون حول الهيموغلوبين الجنيني. وتبين للباحثين أن كل شخص يصنع قليلاً من الهيموغلوبين الجنيني، بنسبة 1% تقريباً من إجمالي الهيموغلوبين، على الرغم من أن هذه النسبة قد تختلف من شخص لآخر. أتاحت هذه التباينات للباحثين إمكانية دراسة آثارها على البالغين، وكأنها دواء كانوا يأخذونه. بحلول التسعينيات، وصلت متابعة الأطباء لمرضى فقر الدم المنجلي إلى فترة كافية لرصد ازدياد عمر المريض مع زيادة نسبة الهيموغلوبين الجنيني لديه.
كانت المشكلة تكمن في زيادة إنتاج الهيموغلوبين الجنيني لدى البالغين. من المعروف أن الكائنات الفقارية كافة تحتوي على نسخة جنينية من الهيموغلوبين. وقد افترض العلماء أنها عملية تكيف تطورية، وذلك للحصول على المزيد من الأوكسجين من المشيمة. لكن، على الرغم من اكتشاف جينات الهيموغلوبين جميعها وتحديد تسلسلها بحلول الثمانينيات (إضافة إلى وضع خريطة كاملة ومتاحة للباحثين للجينوم البشري في 2003 تقريباً)، لا يزال سبب الانتقال من الهيموغلوبين الجنيني إلى هيموغلوبين البلوغ لغزاً مستعصياً على الباحثين.
اقرأ أيضاً: تقنية كريسبر تحطم التسلسل الجينومي لفيروس كورونا
مسح جيني
بعد ذلك، ظهرت تكنولوجيا جينية جديدة أتاحت حل هذه المشكلة. فبعد انتهاء مشروع الجينوم البشري، بدأ الباحثون ينتجون خرائط جينية تقريبية للآلاف من الأشخاص، وهو ما سمح لهم بكشف العلاقة بين التباينات الصغيرة في الحمض النووي بين الأشخاص من جهة، والاختلافات القابلة للقياس في أجسامهم من جهة أخرى، مثل الطول أو الإصابة بأمراض معينة. تحمل هذه التقنية اسم "الترابط على امتداد الجينوم"، وهي طريقة إحصائية تهدف إلى تحديد التباينات الجينية المهمة والمؤثرة.
لم تحقق تقنية الترابط الأهداف المطلوبة منها على الدوام، لكن أبحاث الجينات بدأت تحقق النجاح في مجال فقر الدم المنجلي ابتداءً من عام 2007. على سبيل المثال، أجرى فريق إيطالي دراسة على الحمض النووي للآلاف من سكان جزيرة سردينيا (كان بعضهم مصاباً بثلاسيميا بيتا، وهو مرض آخر من أمراض الهيموغلوبين، وهو واسع الانتشار في الجزيرة إلى درجة صادمة)، إضافة إلى الحمض النووي من بعض الأميركيين المصابين بفقر الدم المنجلي. وعندما قارنوا الحمض النووي لكل شخص مع مقدار الهيموغلوبين الجنيني لديه، كانت التباينات تظهر في جين واحد: وهو الجين BCL11A.
كان هذا الجين بعيداً عن تسلسل الهيموغلوبين، بل إنه موجود في الواقع على كروموسوم مختلف تماماً. وحتى ذلك الحين، كان ذلك الجين معروفاً عموماً بسبب صلته ببعض أنواع السرطان. كان ذلك الاكتشاف مفاجأة كبيرة. يقول أوركين الآن: "لا يمكنك تحديد ما تبحث عنه من خلال التحديق في التسلسل، مهما طال تحديقك هذا". لكن هذه الإشارة الواضحة بيّنت للباحثين أن هذا الجين قد يكون آلية التحكم المطلوبة. يحلو لأوركين تشبيه أثر هذا الدليل باقتباس للكاتب مارسيل بروست: "إن رحلة الاكتشاف الحقيقية الوحيدة ليست في البحث عن آفاق جديدة، بل في امتلاك وجهة نظر جديدة".
والآن، أصبحت الأنظار كلها مركزة على BCL11A. وسرعان ما تمكن طلاب أوركين والمتدربون لديه من إثبات إمكانية استخدامه للتحكم في الهيموغلوبين الجنيني. في الواقع، كان هذا الجين عامل نسخ، أي أنه جين يتحكم في جينات أخرى. تمكن الباحثون من تجديد إنتاج الهيموغلوبين الجنيني في الخلايا التي استنبتوها في المختبر من خلال إيقاف عمل BCL11A، وتمكنوا لاحقاً في 2011 من إثبات إمكانية شفاء الفئران من فقر الدم المنجلي باتباع الأسلوب ذاته. يقول أوركين: "كانت هذه النتائج تعني أنه إذا أمكن تنفيذ هذه العملية على المريض، فمن الممكن شفاؤه".
لكن تطبيق هذه العملية على البشر لم يكن ببساطة إيقاف عمل الجين بالكامل. فقد تبين للباحثين أن BCL11A جين مهم، وأن إيقاف عمله لم يكن مفيداً للفئران في نهاية المطاف. وقد وجدت إحدى الدراسات أن أغلب الفئران التي تفتقر إلى هذا الجين نفقت خلال ستة أشهر. لكن، سنحت فرصة ذهبية أخرى بعد ذلك. وقد أتت من تلك الحالات في الدراسة التي أجريت على سكان سردينيا. فقد تبين أنها تتجمع في منطقة خاصة من الجين BCL11A تُسمَّى "محسّن الكريات الحمراء"، حيث تنشط هذه المنطقة فقط خلال إنتاج خلايا الدم الحمراء.
اقرأ أيضاً: استخدام تقنية كريسبر لمحاولة استعادة البصر عند شخص أعمى
ويمكن تشبيه هذا الأمر بدواسة وقود في BCL11A، لكنها دواسة وقود تُستخدم فقط عندما تعمل خلية جذعية على إنتاج خلايا الدم الحمراء، وهي مهمة ضخمة، لأن الجسم يصنع بضعة مليارات من هذه الخلايا يومياً. يقول أوركين: "إنها خاصة بخلايا محددة تماماً"، وكان هذا يعني أنه يمكن العبث بدواسة الوقود تلك، كما يقول أوركين: "لقد انتقلنا من جينوم كامل إلى موضع واحد يمكن استغلاله لأغراض علاجية".
هدف الدواء
كان هذا الانتقال عموماً مسألة فضول علمي. لكن العلماء في جامعة هارفارد، وفي شركة سانغامو بايوساينسز (Sangamo Biosciences) التي تعمل بالتعاون مع جامعة هارفارد، بدؤوا تحديد العلاج. فقد أمطروا المحسّن بالتعديلات الممكنة كافة لتعطيله، "مثل وابل من الرصاص"، كما يقول باور، الذي أنجز العمل في جامعة هارفارد. في نهاية المطاف، تمكن الباحثون من العثور على تعديل مثالي، وهو تعديل مزعزع واحد يخفّض تأثير BCL11A بنسبة 70% تقريباً، ما يؤدي بدوره إلى السماح بزيادة الهيموغلوبين الجنيني.
لا يظهر هدف التعديل، وهو سلسلة قصيرة مؤلفة من بضعة أحرف من الحمض النووي، في أي مكانِ آخر في الجينوم لدى معظم الأشخاص. هذا أمر مهم، لأن آلية كريسبر ستعمل بعد برمجتها على اقتطاع التسلسل المستهدف في أي مكانٍ تصادفه فيه، سواء رغبنا في ذلك أم لا. تنطوي التعديلات الإضافية غير المقصودة على مخاطر كبيرة، لكن باور يقول إنه وجد موضعاً واحداً فقط "خارج الهدف"، ووفقاً لتقديراته، فهو موجود في جينومات 10% تقريباً من الأميركيين من أصل إفريقي. غير أن هذا الموضع غير موجود في أي جين. ولهذا، فإن التعديلات التي تقع بالصدفة لن تحدث تأثيراً مهماً وفق المتوقع. يعتقد باور أن الخطر، مهما كان، سيكون على الأرجح أخف بكثير من خطر الإصابة بفقر الدم المنجلي.
ثمة دلائل تشير إلى احتمال اكتشاف مختبر أوركين للتعديل المثالي، وهو تعديل لا يمكن تحسينه بسهولة. نالت المؤسسة التي يعمل فيها، وهي مستشفى بوسطن للأطفال، براءات اختراع لقاء هذه الاكتشافات، ولاحقاً، وافقت كريسبر ثيرابيوتيكس وفيرتيكس على دفع مبالغ مالية مقابل حق استخدام هذا التعديل. من المرجح أن تقدّم الشركتان أيضاً إلى مستشفى بوسطن للأطفال نسبة من الأرباح، ما إن يبدأ طرح العلاج للبيع. قال لي أوركين إنه يعتقد أن الشركتين حاولتا تطوير تعديل بديل -مختلف ولكنه قريب- لكنهما لم تنجحا في ذلك. يقول أوركين: "لقد حاولوا العثور على تعديل أفضل، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك. نحن نمتلك هذا التعديل بالكامل".
أمّا العمل الأضخم والأصعب بكثير فقد كان تحويل الفرصة الذهبية هذه إلى علاج يعتمد على التعديل الجيني وقابل للاستخدام في العالم الحقيقي، ولم تكن التكاليف زهيدة على الإطلاق. فوفقاً لشركة سولت دي بي (Solt DB) التي تحلل الشؤون المالية لشركات التكنولوجيا الحيوية، فإن التقارير المالية من كريسبر ثيرابيوتيكس تشير إلى أن تكاليف تصنيع العلاج، والتعاون مع المستشفيات لتقديمه، واختباره في إطار تجربة سريرية تشمل 90 شخصاً تقريباً، وصلت حتى الآن إلى أكثر من مليار دولار.
إنه استثمار ضخم للغاية في منتج واحد. على سبيل المقارنة، يعادل هذا الاستثمار أكثر من ضعف المبلغ الذي أنفقته شركة تسلا (Tesla) قبل طرح أولى سياراتها الكهربائية، رودستر (Roadster). لكن الإيرادات قد تكون ضخمة أيضاً. فبعد موافقة إدارة الغذاء والدواء، ستعلن فيرتيكس سعر الدواء، ومن المتوقع أن يكلف العلاج 3 ملايين دولار، وهو لا يشمل حتى تكاليف الإقامة في المستشفى.
يعترف أوركين بأن الشركات طوّرت العلاج بسرعة كبيرة، فقد استغرقت العملية ما يقارب ثمانية أعوام فقط. لكنه يعتقد أن وجود التعديل المثالي كان عاملاً مساعداً. "بالنسبة لي، توصلنا إلى الاكتشافات اللازمة جميعها بحلول 2015. فقد حددنا كيفية تنفيذ العمل، وبعد ذلك، أصبحت المسألة مسألة تطبيق مباشر. لكن الشركات طبقت الطريقة على نحو مثالي، وهو أمر لا تستطيع الشركات كلها تحقيقه"، كما يقول أوركين.